الفصل التاسع عشر
من ملاحظتنا اليومية، أن كل سلوك يلقى استحساناً أو تشجيعاً أو ينال مكافأة مادية أو معنوية فإنه يتكرر باستمرار حتى يصبح عادة شبه دائمة.
ذلك التشجيع أو تلك المكافأة؛ تسمى "بالتدعيم".
أما السلوك أو التصرف الذي لا يلقى استحساناً ولا ينال قبولاً، أو ينتج عنه عقاب أو حرمان وزجر فإنه غالباً ما يتوقف، وهذا ما يسمي بظاهرة "الانطفاء".
وأننا إذا أردنا أن نعلم أنفسنا سلوكاً جديداً مثل: الانتظام على القراءة اليومية لمدة ساعتين، أو الانتظام على ممارسة نشاط رياضي لمدة ربع ساعة مثلاً، فإنه لا يجب الاكتفاء بتنظيم العملية وتحديد الوقت المناسب وخلافه، وإنما يجب أن نعلم أن أي سلوك جديد نرغب في استمراره ليصبح عادة شبه دائمة يجب أن يدعم بالمكافأة والتشجيع، أي يجب أن تدعم هذه العادة في نفسك معنوياً ومادياً،
معنوياً: بتشجيع النفس وبث مشاعر الثقة والقدرة والكفاءة، وغالبا ما يتم ذلك على شكل إيحاء نفسي.
ومادياً: بأن تكافئ نفسك بنزهة أو شراء أي شيء تحبه أو زيارة شخص محبب إلى نفسك، بل يمكن أن تكون المكافأة مجرد شراب أو طعام شهي، ومن التجارب الغريبة والناجحة التي أُجريت في هذا الصدد، تجربة في الامتناع عن التدخين باستخدام أسلوب التدعيم، وكانت المكافأة التي تقدم للشخص الذي يمتنع يوما بأكمله عن التدخين شيئا محببا إلى نفسه وهو: سيجارة!!، يدخنها كمكافأة له عن امتناعه عن التدخين يوما بأكمله!!، وبعد فترة قصيرة تتغير المكافأة، كأن تصبح نزهة على شاطئ البحر مع كأس من الآيس كريم، مع ملاحظة أن هذا الأسلوب لا ننصح باتباعه في كثير من الحالات.
فسلوك الفرد يحدده دائماً -وإلى حد بعيد- رد فعل البيئة على ذلك السلوك؛ من إثابة واستحسان أو عقاب واستهجان، والتدعيم المعنوي من خلال عبارات التشجيع والثناء على السلوكيات الإيجابية، والمدح وتقديم مشاعر التقبل والتقدير يؤثر في الناس جميعاً، ويأسر مشاعرهم ويشجعهم على تكرار السلوك الإيجابي المرغوب.
ويرجع السر في نجاح البعض اجتماعياً إلى اتباعهم هذا الأسلوب بمهارة، وبدون مبالغة أو افتعال، بل يعتقد البعض أن التدعيم عنصر فعال ومؤثر في العلاج النفسي، أياً كان أسلوب العلاج المتبع، وأن التدعيم يستخدم تقريباً في أغلب مدارس العلاج النفسي حتى تلك التي لا تعمد إلى ذلك، لأن مجرد الاهتمام الذي يبديه المعالج بالاستماع للمريض والاهتمام به وبمشكلاته هو نوع من القبول والتدعيم.
كما أن التدعيم الذي تقدمه البيئة يحدد إلى درجة كبيرة سلوكيات أفراد المجتمع واتجاهاتهم .
فإذا كانت البلطجة والوصولية والتملق تتيح للبعض الحصول على مكاسب مادية بدون جزاء أو عقاب، فإن مثل تلك الظروف تعتبر تدعيماً يساعد على انتشار وتفشى السلوكيات الانتهازية المنحرفة، أما إذا كانت مثل تلك السلوكيات السلبية تقابل بالاستنكار أو الاستهجان أو الزجر والعقاب فإنها غالباً ما تختفي ليحل محلها النظام والالتزام بالقانون وقواعد الأخلاق، والأم التي تستجيب لطفلها كلما بكى بأن تعطيه ما يريد وما يرغب، أو أن تقوم بحمله وتدليله استجابة لبكائه، هي في الحقيقة تدعم فيه هذا الأسلوب لتحقيق أهدافه وللحصول على ما يرغب بالصراخ والبكاء، فيشب وقد أصبح هذا السلوك عادة متأصلة فيه, فإن لم يحصل على ما يشتهيه وما يرغبه انفعل وتوتر وثار وحطم كل شيء حوله!!، أما الأم الواعية فإنها تتجاهل بكاء طفلها عندما يكون البكاء وسيلة لتحقيق رغبة أو للحصول على مزيد من الرعاية والاهتمام، فإذا ما هدأ الطفل، وتوقف عن الصراخ والبكاء، فعليها أن تقدم له ما يريد بعد أن تشرح له أنها أعطته هذا الشيء لأنه طلبه بأدب وبدون بكاء، ولأنها موافقة على إعطائه ذلك الشيء.
وهكذا يتعود الطفل على ألا يستخدم أسلوب الصراخ والبكاء للحصول على الأشياء، وأن الانفعال والتوتر لا يجلب له إلا التجاهل والحرمان، كما يجب على الأم أن تتفق مع باقي أفراد الأسرة على تجاهل الصراخ أو البكاء أو الضغط الناتج عن التدليل الزائد، وألا يهتموا بالطفل وألا يقدموا له أية مساعدة إلا إذا توقف عن هذا السلوك غير المرغوب.
مع الاهتمام بتدعيم وتشجيع ومكافأة كل سلوك إيجابي يصدر منه، ويمكن عمل جدول للتدعيم؛ فيتم حصر وتحديد السلوك الغير مرغوب فيه (اللجلجة، الخوف، السلوك العدواني، عدم القدرة على عقد صداقات مع الأطفال الآخرين)، ويتم أيضا حصر وتحديد الأشياء المحببة للطفل من أنواع الحلوى واللعب وخلافه, ثم يتم الاتفاق مع الطفل ومع باقي أفراد الأسرة على أنه في كل مرة ينجح فيها الطفل في تجنب السلوك الغير مرغوب سوف يدون ذلك في الجدول وسوف يمنح الطفل التدعيم أو المكافأة إلى جانب عبارات التقدير والتشجيع والثناء من جميع أفراد الأسرة.
فالخطوة الأولى إذن هي تحديد السلوك غير المرغوب.
والخطوة الثانية هي الالتزام بعدم العقاب (يكفى التجاهل أو الحرمان من المصروف والامتيازات الأخرى)، ولا يجب اتباع أسلوب العقاب إلا في حالة الأخطاء والسلوكيات الشاذة، والتي يكتنف القيام بها خطورة على النفس أو الغير، ويفضل ألا يكون العقاب جسدياً, بل لفظياً، مع تجنب توجيه الألفاظ النابية أو الساخرة للطفل.
والخطوة الثالثة هي عمل جداول للتدعيم، كما ذكرنا.
وعموماً، يفضل أن يكون التدعيم مستمرا في البداية؛ أي أن تقدم المكافأة أو التشجيع عقب كل مرة يسلك فيها الفرد السلوك المرغوب ثم متقطعاً، أي أن تقديم المكافأة أو التشجيع يكون كل ثالث أو رابع مرة وهكذا.
والقصة التالية توضح لنا طريقة غير مباشرة في تعليم السلوكيات الطيبة لأبنائنا.
صدى أفعالنا في الحياة
يحكى أن أحد الحكماء خرج مع ابنه خارج المدينة ليعرفه على تضاريس الحياة في جو نقي بعيدا عن صخب المدينة وهمومها، سلك الاثنان واديا عميقا تحيط به جبال شاهقة، وأثناء سيرهما تعثر الطفل في مشيته وسقط على ركبته وصرخ، فإذا به يسمع من أقصى الوادي صوت مماثل لصوته، نسي الطفل الألم وسارع في دهشة سائلا عن مصدر الصوت فنادى بأعلى صوته من أنت؟، فكان صدى الصوت يرد عليه!!، انزعج الطفل وأدرك أنه يجب أن يتعلم فصلا جديدا في الحياة من أبيه الحكيم الذي وقف بجانبه دون أن يتدخل في المشهد الذي كان من إخراج ابنه، وقبل أن يتمادى في تقاذف الشتائم تملك الابن أعصابه وترك المجال لأبيه لإدارة الموقف حتى يتفرغ هو لفهم هـــذا الدرس.
تعامل الأب كعادته بحكمة مع الحدث وطلب من ولده أن ينتبه للحوار هذه المرة، فصاح في الوادي: إني أحترمك، فجاءه صدى الصوت بنفس ما قال، تعجب الابن وطلب من أبيه تفسيرا لهذه التجربة الفيزيائية.
تحدث الأب بهدوء وقال لابنه: هذه الظاهر الطبيعية في عالم الفيزياء تسمى صدى، لكنها في الواقع هي الحياة بعينها، إن الحياة لا تعطيك إلا بقدر ما تعطيها ولا تحرمك إلا بمقدار ما تحرم نفســـك منها.
إن الحياة مرآة لأعمالك وصدى لأقوالك، إذا أردت أن يحبك أحد فأحب غيرك، وإذا أردت أن يوقرك أحد فوقر غيرك، وهكذا.... أي بني هذه سنة الله التي تنطبق على شتى مجالات الحياة، وهذا ناموس الكون الذي تجده في كافة تضاريس الحياة، إنه صدى الحياة ستجد ما قدمت وستحصد ما زرعت.
يتبع >>>>>>>>>>> مدى تأثير الإعلام والعولمة في ضياع هوية أبنائنا؟!