يشهد العالم هذه الأيام جائحة لم تعرف البشرية لها مثيلاً في التاريخ الحديث. تطور العلم وكشف العلم أسرار الحياة البيولوجية وخفايا الكون، وفجأة يكتسح فيروس هو أقرب إلى جزيئة من حمض ريبي لا نواة لها نسميه كوفيد -١٩ لا يستطيع العلم وجبروت الإنسان الحديث السيطرة عليه وعلاجه ويتم إغلاق كوكب الأرض كلياً. لا تنقل ولا خروج من البيت في انتظار توقف انتقال هذه الجزيئة من إنسان إلى آخر. الكل على يقين بأن هذه الجائحة ستغير اقتصاد العالم وربما سياسته وسلوك البشرية كما غيرت الأوبئة تاريخ العالم منذ القدم، في مثل هذه الأيام لا بأس من مراجعة دور الأوبئة في تاريخ البشرية.
هناك ثلاثة أوبئة لعبت دورها في تاريخ البشرية بل العبارة الأدق غيرت مسار التاريخ. الوباء الأول هو طاعون جستنيان Justinian Plague في منتصف القرن السادس ميلادي. الوباء الثاني هو المعروف بالموت الأسود Black Death في منتصف القرن الرابع عشر، وأما الثالث فهو طاعون بومبي Bombay Plague في نهاية القرن التاسع عشر. هذا المقال يتطرق إلى طاعون جستنيان ودوره في تاريخ الدولة الأموية.
طاعون جستنيان
هناك اتفاق بين الباحثين في التاريخ القديم بأن طاعون جستنيان غير خريطة العالم وكان السبب الرئيسي في ضعف الإمبراطورية البيزنطية التي لم تقوى على دفاع حدودها بوجه القبائل القادمة من شمال أوروبا. استوطن السلاف Slavs بلاد اليونان والبلقان، واجتاحت قبائل البربر شمال إفريقيا واستسلمت إيطاليا للومباردية Lombard. يفسر بعض الباحثين بأن هذه الظروف البيئية ساعدت في توسع دولة الخلافة الإسلامية وسيطرتها على الشرق الأوسط.
تعود تسمية الطاعون إلى زعيم بيزنطة جستنيان إمبراطور الدولة الرومانية الشرقية من عام ٥٧٢ م إلى ٥٦٥ ميلادية. وكان يلقب جستنيان العظيم أو القديس جستنيان في الكنيسة الأرثذوكسية. ظهر الطاعون لأول مرة في منطقة الفرما Polusium شرق بورسعيد وانتقل بعدها صوب الإسكندرية ومصر وفلسطين. وصل الوباء إلى القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية في خريف ٥٤١ م، وانتشر بعدها في أوروبا وبلاد فارس وآسيا الصغرى. بعد ذلك التاريخ يظهر بصورة دورية كل ١٠ -١٢ عاماً (1).
عام الفيل
عام الفيل هو ٥٧٠ م وهو عام ولادة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم. تتفق المصادر على أن أبرهة الحبشي توجه صوب اليمن وأنه أمر الجيش هناك قبل اجتياحه شبه الجزيرة العربية. رغم أن ابن إسحاق والكثير من الباحثين يفسر ما حدث بجيش أبرهة هو الجدري ولكن هناك البعض من الباحثين الألمان يميلون إلى وباء الطاعون الذي كان مستوطنا الحبشة. استنادا إلى ابن إسحاق لم يظهر الجدري والحصبة في شبه الجزيرة العربية إلا بعد عام الفيل. ما هو المهم في إطار عام الفيل وطاعون جستنيان هو أن الحبشة والسودان كانت مصدر الطاعون الذي انتقل عن طريق قوافل التجارة إلى شمال إفريقيا وظهر لأول مرة بصورة وبائية في مصر.
الطاعون والدولة الإسلامية
جميع دراسات العالم لطعون جستنيان مصدرها البحوث العربية الإسلامية، وأول من كتب فيها هو المدائني(2). ظهر وباء الطاعون الأول عام ٦٢٧ م في بلاد العرب وكان يسمى بطاعون طيسفون، وهناك أيضاً من يسميه بطاعون يزدجر. في ذلك العام كذلك كانت آخر معركة في نينوى بين الفرس والروم تحت قيادة هرقل، ولم تصل إلى نتيجة حاسمة. انتقل الطاعون إلى طيسفون وعبث بالسكان والدولة ولعب دوره في تاريخ المنطقة.
ولكن الطاعون الذي أسهب الباحثون في تفصيله هو المعروف بطاعون عمواس الذي ظهر بعد عشرة أعوام من الطاعون الأول عام ٦٣٨ م في بلاد الشام. تقول المصادر الإسلامية بأن الطاعون قتل أيامها ٢٥ ألف من جنود الجيش الإسلامي تحت قيادة أبو عبيدة الجراح. وصل خبر الطاعون إلى الخليفة عمر بن الخطاب(رض) والذي طلب من أبو عبيدة العودة الى المدينة لوحده، ولكنه رفض استدعاء الفاروق له، وعندها توجه الخليفة إلى سرغ، وعقد مجلساً للمهاجرين والأنصار في مناقشة الوباء. بعد هذا الاجتماع تم إصدار القواعد الثلاثة للوباء في فجر الإسلام وهي:
١- الوباء رحمة وشهادة للمؤمنين وعقابٌ للمشركين.
٢- لا دخول إلى ولا خروج من منطقة الوباء(3).
٣- الوباء مصدره إلهي ولا ينتقل من إنسان إلى آخر(4).
لم يتوقف الوباء و راح ضحيته أبو عبيدة، يزيد بن أبي سفيان، ومعاذ بن جبل، وغيرهم من المهاجرين والأنصار. تقول المصادر التاريخية بأن الوباء مهد الطريق لاستلام معاوية بن أبي سفيان زمام الأمور بعد رحيل العديد من القيادات ومهد الطريق لقيام الدولة الأموية. كذلك لعب طاعون عمواس دوره في تسلم عمرو بن العاص موقعا قياديا وبناء نفوذه في مصر. هناك الكثير من النصوص التاريخية والدبية حول الطاعون وأهل الشام،، وكان البعض يصف أهل الشام بأنهم قوم طاعة وطاعون. هناك أيضاً من أكثر إسقاط اللوم على تعاطي أهل الشام الخمر وعقابهم بالطاعون بسبب ذلك(5).
الطاعون والدولة الأموية
استمر الطاعون الذي استوطن الدولة الاموية بالظهور وبائياً بين الحين والآخر وضرب البصرة عام ٦٦٩ م، و حينها انتشر الحديث بين أهل الإسلام على هروب والي الكوفة المغيرة بن شعبة من الطاعون والعودة إليها بعد تحسن الوباء فيها ولكن الطاعون أصابه. استمر الطاعون بالظهور في الكوفة عام ٦٧٠، ٦٧٣،و٦٧٦ م ومصر في عام ٦٨٦. أصاب الطاعون زياد ابن أبي سفيان عام ٦٧٣ ومعاوية الثاني عام ٦٨٣ م. لكن الطاعون الثالث الذي تم ذكره في المصادر الإسلامية والذي يعرف بالطاعون الجارف هو الذي اجتاح البصرة عام ٦٨٨ م، والذي راح ضحيته ٨٠ ألف مواطن. استمر الطاعون بالعودة بين الحين والآخر في نهاية القرن السابع الميلادي وضرب مصر عام ٦٩٩ م، وهناك الحديث عن هرب حاكمها عبد العزيز بن مروان منها بسبب الوباء.
وباء الطاعون الرابع الكبير ضرب البصرة عام ٧٠٦ م، وأطلق عليه العرب اسم طاعون الفتيات بسبب عدد الضحايا من الإناث. بعد ذلك عاد الطاعون ليظهر وبائيا في عان ٧١٧ م وأطلقوا عليه اسم طاعون الأشراف وكانت قسوته بشدة حتى قارنه الناس أيامها بقسوة وسطوة الحجاج بن يوسف الثقفي عليهم.
رغم استقرار الدولة الأموية في عهد مهندس الخلافة عبد الملك بن مروان، ولكن الطاعون لم يتوقف دوره في عهد سليمان بن عبد الملك، حيث راح ضحيته ولي العهد أيوب ابن سليمان بن عبد الملك. انتقلت عدوى الطاعون إليه على حسب الروايات من تاجر عطور، راح ضحية الطاعون الخليفة سليمان نفسه. ضرب وباء الطاعون سوريا في عام ٧٢٥ م و٧٢٦ م، وضرب العراق وسوريا سوية في عام ٧٣٣ م، ٧٣٤ م، و٧٣٥ م. بعد ذلك عاد الطاعون ليضرب البصرة بشدة في عام ٧٤٤ م. أطلق الناس لقب طاعون سالم بن عقبة على وباء ٧٤٩ م الذي اشتد أمره من رجب إلى شوال في ذلك العام. ما كان معروفاً عن الخليفة هشام بن عبد الملك هو ابتعاده عن المدن بسبب الطاعون بين عام ٧٢٤ م- ٧٣٤ م.
جائحة كورونا ٢٠٢٠
الصراحة لا يعلم أحد كيف ومتى بدأ وباء كورونا. الذي نعلمه هو أن الوباء بدأ في الصين وانتقل في جميع اتجاهات الكرة الأرضية. لم يعرف العالم أيام الطاعون ما هو سبب الطاعون ومصدره ولكن عالم اليوم يعرف ما هي خريطة هذه الجزيئة التي تتكون من حمض ريبي. كان الطاعون ينتقل من مكان إلى آخر ببطء عبر القوافل التجارية، وأما اليوم فإن كورونا ينتقل من مكان إلى آخر بسرعة عبر وسائط النقل الحديثة وتنقل البشر من مكان إلى آخر.
استمر وباء جستنيان يداهم البشرية بين الحين والآخر ومعظم المصادر تشير إلى ظهوره كوباء بمعدل واحد كل عشرة أعوام. هذا هو الوباء الثالث لهذه المجموعة من فيروسات كورونا منذ عام ٢٠٢٠(6). لا لا أحد الآن يتوقع بأن هذا الفيروس الجديد سيتم التخلص منه إلى الأبد كما حدث مع فيروس كورونا الأول والثاني(7)، والجميع يعلق آماله على اكتشاف لقاح جديد سيتوفر في الخريف أو العام المقبل. الفيروسات كذلك تتميز بقابليتها على التغيير عن طريق طفرات جينية، وإلى الآن لم يستطع العلم اكتشاف لقاح شامل ضد الإنفلونزا.
هناك ردود فعل مختلفة لهذه الجائحة. هناك رد الفعل الاجتماعي، النفسي، السلوكي، الطبي والسياسي. القاعدة الأساسية للسيطرة على الوباء هي التباعد الاجتماعي Social Distancing لأن الوسيلة الأساسية لانتقال الفيروس هي عبر قطيرات تنتقل من إنسان إلى آخر. لا أحد يفكر بمهرجانات رياضية وفنية، وتوقفت ممارسة الطقوس الدينية الجماعية، ولا ذكر لحفلات زفاف.
ردود الفعل النفسية تتميز بارتباكها ولا أحد ينفي شعوره بالقلق والخوف من إصابته بالفيروس. الفيروس يؤدي إلى حالة هيجان أحياناً في جسم الإنسان ولا يسلم منه أي عضو من أعضاء الجسم، وكذلك الحال مع المجتمع بأسره فالوباء أدى لحالة هيجان في العلاقات الاجتماعية والأمور الاقتصادية والتعليمية. من جراء ذلك يبحث الإنسان عن تفسير لما حدث كما كان يفعل الإنسان أيام طاعون جستنيان. الكثير من الناس أصبحت تتحدث عن الفساد الأخلاقي وتعجرف البشرية في وقتنا هذا، و تراجع النصوص الدينية القديمة (8) للتأمل بما حدث وسيحدث.
ولكن ما يثير الاهتمام في هذا المقال هو تأثير الوباء على المدى القريب والبعيد على العالم الليبرالي الذي نعيش فيه. بعد سقوط الاتحاد السوفيتي عام ١٩٩١ تحدث الجميع عن توقف التاريخ(9) الآن وهيمنة الديمقراطية الليبرالية على العالم. انفتحت الحدود بين بلدان العالم، والجميع يتحدث عن العولمة وتميز الإنسان الجديد ووولادة جيل جديد لا يحمل ترسبات الماضي. ولكن من يراجع التاريخ وببساطة ما حدث مع طاعون جستنيان قد يكون له رأي آخر.
لا شك بأن الطاعون لعب دوره بصورة أو بأخرى في تغيير خارطة العالم القديم. لعب الطاعون دوراً ما في قيام الدولة الأموية حين لم يبقى أحداً يتسلم زمام الأمور في الشام سوى معاوية ابن أبي سفيان. استمر الطاعون يلعب دوره بين الحين والآخر، وربما لم تسقط الدولة الأموية بسبب قوة بني العباس وثورة الموالي من خراسان فقط وإنما كان هناك حليفٌ آخر لها و هو الطاعون. ولا أحد يعلم ماذا سيحدث لخريطة العالم السياسية إذا استمر فيروس كورونا يظهر وبائيا وبوجه جديد كل بضعة أعوام.
هوامش:
(1) ربما يذكرك هذا بظهور فيروسات كورونا كل ١٠ -١٢ عاماً من بداية الألفية الثالثة
(2) هو المولى أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف (٧٥٢-٨٤٣ م) حيث نقل عنه الطبري الكثير وكان يلقب المدائني نسبة إلى مدينة المدائن. تجاوزت بحوثه ٢٠٠ وأول من أسهب وكتب في الطاعون
(3) لم يلتزم الجميع بهذه القاعدة وفي مقدمتهم أبو موسى الأشعري الذي كان في جيش أبو عبيدة حين تولى ولاية الكوفة ففي نظره بأن هذا قضاء الله.
(4) تغيرت المفاهيم بعد ذلك في كتابات ابن النفيس وابن سينا
(5) يسقط البعض اللوم هذه الأيام ظهور وباء كورونا على التفسخ الأخلاقي في الغرب
(6) نشرت أستاذة علوم الفيروسات الصينية قبل عام مقالاً حذرت فيه من احتمال انتقال فيروس كورونا جديد من الخفاش إلى الإنسان وحدوث وباء جديد
(7) متلازمة SARS ومتلازمة MERS : كان فيروس كورونا ينتقل من الحيوان إلى الإنسان ولا يوجد دليل على انتقال الفيروس من إنسان إلى آخر بعكس فيروس كورونا الجديد.
(8) وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا
الإسراء ١٦
(9) كتاب Francis Fukuyama المعنون The End of History & Last Man.
واقرأ أيضاً:
التعقيم والنظافة وفيروس كورونا / الهلاوس Hallucinations / التعامل مع الحجر الصحي لوباء كورونا