توجهات جديدة في التعرض ومنع الاستجابة ت.م.ا (2)
1) خرق التوقعات Expectancy violation :
نظرية خرق التوقعات Expectancy violations theory هي نظرية تواصل تحلل كيفية استجابة الأفراد للانتهاكات غير المتوقعة للأعراف والتوقعات الاجتماعية. تم اقتراح هذه النظرية من قبل جودي كيه بورغون Judee K. Burgoon في أواخر السبعينيات واستمرت خلال الثمانينيات، ولها استخداماتها في كثير من المجالات الإنسانية، وبالنظر إلى موضوعنا وهو دور خرق التوقعات في تحسين نتائج الـت.م.ا أو بالتحديد تعلم الانطفاء، فإن تعلم المعلومات الجديدة يكون أفضل ما يكون عندما يكون هناك تناقض بين ما هو متوقع وما يحدث بالفعل، فعنصر المفاجأة أمر بالغ الأهمية لعملية التعلم (Rescorla, 1988) وبالتالي، عندما يتوقع الفرد نتيجة سلبية استجابةً لمحفز الخوف، ويتم انتهاك هذا التوقع أثناء التعرض (أي أن العواقب المخيفة إما لا تحدث أو يمكن السيطرة عليها أكثر مما كان متوقعًا)، يتم إنشاء ارتباط غير مهدد Inhibitory Associations (أي ارتباط مثبط لاستجابة الخوف). ولتحسين التعلم المثبط (ونتائج العلاج على المدى الطويل) يجب على المعالجين أن يتساءلوا ويسألوا "ماذا يتوقع المريض نتيجة التعرض لمثير الخوف المعين؟"، ويجب تصميم إجراءات الت.م.ا بما يخالف هذه التوقعات إلى أقصى حد ممكن.... وخلال تطبيق الت.م.ا أثناء الجلسات يجب التركيز لا على تناقص القلق أو حدوث الاعتياد وإنما على ما كان متوقعا ولم يحدث فيما يتعلق بالعاقبة أو العواقب المخشية أو المخيفة للتعرض وعلى مستوى قدرة المريض على تحمل المشاعر المزعجة المصاحبة للتعرض... ويجب أن يواصل المريض التعرض أو يكرره حتى يقتنع بإخفاق توقعاته وليس فقط حتى ينخفض القلق أو يخمد أو يحدث الاعتياد.
وفيما يتعلق بالتركيز على ما كان متوقعا ولم يحدث (أي عدم حدوث العاقبة أو العواقب المخشية أو المخيفة للتعرض) يذكرنا ذلك بفكرة نفي المعتقد Belief Disconfirmation والتي يفترض أنها تميز تطبيق الت.م.ا من منظور سلوكي معرفي عن تطبيقها من منظور سلوكي صرف، فبينما يركز المنظور السلوكي حسب نظرية معالجة المشاعر على إحداث اعتياد القلق أو الخوف عبر تكرار التعرض ... يهتم المنظور المعرفي بمقارنة النتائج المتوقعة والتي تدون قبل التجربة السلوكية (التعرض) بالنتائج التي حدثت بعد إنهاء التجربة ... لكي تنتج المقارنة (بين ما تُوقع وما حدث فعلا) نفي المعتقد، وهي إضافة معرفية للت.م.ا ثبت أنها تعطي نتائج أفضل من الت.م.ا المعنية فقط بإحداث الاعتياد أو التعود (Salkovskis et al., 2006) في مرضى اضطراب الهلع المصحوب برهاب الساح (شديد أو متوسط الشدة)، حيث قارنت مجموعة سالكوسكيس في دراسة تجريبية صغيرة، شملت 16 مريضًا قسموا لمجموعتين بشكل عشوائي إما للعلاج بالتعرض القائم على التعود أو التعرض الهادف لنفي المعتقد مصحوبًا بإسقاط سلوكيات التأمين أو السلامة، وظهر تفوق الت.م.ا الهادف لنفي المعتقد علاجيا على الت.م.ا التقليدي، ولعل بحث سالكوسكيس هذا أحد إرهاصات الت.م.ا من منظور التعلم المثبط مثلما كانت دراسة بوتون وزملاؤه، فنفي المعتقد هو السقف الأعلى لخرق التوقعات إلا أن خرق التوقعات كاستراتيجية توجه تخطيط الت.م.ا حسب نظرية التعلم المثبط يتميز بأنه أوسع لأنه لا يهدف بالضرورة إلى ذلك وإنما يهدف أحيانا إلى هز المعتقد أو تعلم التعايش معه، كما أنه لا يقتصر على الاختبار السلوكي أو التجارب السلوكية كاستراتيجية لتوليد الارتباطات المثبطة Inhibitory Associations للخوف، ولا يقتصر كذلك على اختبار الإدراكات المعلنة صراحة، وإنما يشمل اعتياد خبرات وانفعالات أخرى كما سنرى.
وكنت في تطبيقي شخصيا للت.م.ا مع محاربي الوسواس القهري بالع.س.م CBT أرى أن الاقتصار على الجانب السلوكي الصرف في علاج الوسواس هو بمثابة الإهانة للمريض أو على الأقل إهمال لجانب كبير ومهم في قدرته على التعلم وهو الجانب المعرفي، ناهيك عن أن الجانب السلوكي وحده دون إطار معرفي شارح قد يستحيل تطبيقه مثلا في الوساوس المتعلقة بالعبادات أو العقيدة وهم بالطبع أغلب مرضى الوسواس القهري في مجتمعاتنا حتى وقت كتابة هذه السطور، لذلك كان تصحيح المعتقد بمعنى ما الذي يصح ولا يصح بالنسبة للمريض، وما حدود تكليفه أو مسؤوليته في موضوع وسوسته؟ ولماذا يعطي الفقه الديني له الرخصة ؟...إلخ والوصول إلى خرق التوقع ممكن كذلك في حالات تصحيح المفاهيم الدينية ... مثلا أنه تصح الصلاة مع النجاسة في المكان أو الثياب أو الجسد ... وذلك مع التذكر والقدرة حسب المذهب المالكي، وقع معلومة كهذه بالنسبة لمريض و.ت.غ.ق الخائف من التلوث بالنجاسة ونشرها وتأثير ذلك على عباداته...إلخ مثل هذه المعلومة تكفي أحيانا لخرق التوقع.
وحسب نموذج التعلم المثبط من المهم قبل التعرض أن يحدد العميل (بمساعدة المعالج) التوقعات المخشية (أي المحفز غير المشروط) من التعرض بعمق ولا يكتفى باستجابة مبدئية من المريض، فمثلا بالنسبة لمريض القلق الاجتماعي لا يكتفى بـ (توقع حدوث القلق)، وإنما ما يلي القلق أي مثلا توقع أنهم سيتم تجاهله أو رفضه بطريقة أو بأخرى سيكون مطلوباً وهذه أيضًا نقطة اختلاف عن المعتاد في الت.م.ا التي تركز على اعتياد القلق.... وسبب ذلك هو أن النظرة التي تميز نموذج التعلم المثبط للمشاعر بشكل عام (ومنها القلق) هو أنها طبيعية ومن الممكن التعايش معها وبالتالي فإن هدف العلاج ليس التخلص من القلق أو الخوف وإنما خرق التوقعات، لذلك ونظرًا لانخفاض التركيز على التعود أو الاعتياد، فمن غير المهم بالنسبة للطبيب أن يحث المريض على تتبع وحدات الضيق الشخصية SUDS (و.ض.ش) طوال فترة التعرض. بدلاً من ذلك، يوجه تركيز المعالج والمريض إلى انتهاك وخرق التوقعات. يمكن أن يُطلب من المريضة الإدلاء ببيانات توضيحية بشأن ما قد تتوقع حدوثه قبل التعرض. يتم ذلك لأغراض زيادة بروز المحفزات المعنية (أي المحفز المشروط Conditioned Stimulus واختصارا "م.م CS" ، والتوقع، والمحفز غير المشروط Unconditioned Stimulus واختصارا "م.غ.م US" المفترض) وذلك لجعل المريض على اتصال مع ما يتكشف. سيُطلب من المريض بعد ذلك لفت انتباهه إلى التطابق/ عدم التطابق المفترض بين التوقعات والنتائج الفعلية بعد اكتمال التعرض. علاوة على ذلك، يمكن تتبع التوقعات Expectancy Tracking بشكل متكرر أثناء عملية التعرض، اعتمادًا على طبيعة الحالة والنتائج المتوقعة.
ولأن أحد العوامل المهمة في طريقة انتهاك التوقعات هو أن تعلم الانطفاء يتم تعزيزه عندما يتم تعظيم التناقض بين ما يتوقعه المرضى وما يحدث بالفعل، فإن مجموعة جراسك (Craske et al. 2014) تشير إلى أن الاستراتيجيات التي تهدف إلى تقليل هذا التناقض قبل التعرض ستؤثر سلبًا على تعلم الانطفاء، وبناءً عليه، فإن العلاج المعرفي المستخدم لتصحيح فرط تقدير الاحتمالية للنتائج المخيفة ("من غير المحتمل أن أصاب بالسرطان من ممر المبيدات") قد يخفف فعليًا من التعلم المثبط عند استخدامه قبل أو أثناء التعرض. أي أن العلاج المعرفي قد يقلل التوقعات السلبية قبل التعرض وبالتالي يقلل من عدم التوافق بين التنبؤ والنتيجة... أي يقلل انتهاك وخرق التوقعات وهو افتراض ينتظر الإثبات التجريبي، وهناك ما يشير إلى عكسه من الدراسات (Scheveneels et al., 2019) فضلا عن أن خبرتي الشخصية تشير إلى أهمية قليل من العمل المعرفي قبل إجراءات الت.م.ا لتشجيع بعض العملاء، أي بما يكفي للتشجيع والمبادرة من جانب المريض فضلا عن الحديث معه منذ الجلسات الأولى عن فائدة التعرض للمثير وعن التخطيط المستقبلي للتعرض المفرط Over Exposure باعتباره من وسائل التعلم الوقائي ضد الانتكاس، أي أن افتراض مجموعة جراسك ربما يصح في طريقة تعرض تفصل إجرائيا بين ما هو معرفي وما هو سلوكي، وهذا غير ممكن عمليا.
كذلك وخلافا لطريقة الت.م.ا التقليدية لا يحدد وقت التعرض بانخفاض القلق أو الخوف في الت.م.ا من منظور التعلم المثبط وإنما يستمر التعرض للمدة اللازمة لخرق التوقعات بشكل أكثر فاعلية بدلاً من ما إذا كان الخوف قد انخفض.... فمثلا من الناحية الافتراضية نجد أن توقع الإغماء كحدث محتمل عند الابتعاد لمسافة خمسة كيلومتر أو أكثر من المنزل سيتم انتهاكه بشكل أكثر فعالية من خلال القيادة على بعد ستة كيلومتر من المنزل بدلاً من القيادة لمسافة 3 كيلومتر فقط من المنزل وبغض النظر عن مستوى الخوف الذي نشهده. وحتى لو كان الحدث البغيض هو الخوف نفسه، كما هو الحال غالبًا في اضطرابات القلق (Barlow, 1988)، فسيتم تصميم تجارب التعرض لفترة أطول من وليس أقصر من الفترة الزمنية المتوقع أنها ستجعل المشاعر لا تطاق.
كذلك يتمثل أحد الجوانب الرئيسية لنموذج انتهاك التوقعات في تسهيل الانتباه إلى كل من المحفز المشروط "م.م CS" وعدم حدوث المحفز غير المشروط "م.غ.م US" (ليس فقط انخفاض الخوف أو المشاعر السلبية أو المزعجة وإنما كذلك اكتشاف القدرة على تحملها وعدم التعرض للأذي بخلاف ما كان متوقعا) ويعتبر الانتباه إلى كل من الم.م وعدم حدوث الم.غ.م مفتاحيا لإحداث خرق التوقع لذلك يجب العمل على إبراز ذلك أثناء الت.م.ا لأن أي تغيير في قوة التعلم الترابطي سيتم ربطه بالمحفز الأكثر بروزًا أثناء التعرض (Barry, et al.,2015). ولعل عدم التركيز على تنبيه وتسهيل انتباه العميل على المحفز المشروط أثناء التعرض في الت.م.ا التقليدي سبب الإخفاق أحيانا، فضلا عن كون صرف الانتباه أحد سلوكات الأمان الخبيثة التي اشتهرت بإفساد التعرض.
المراجع:
1- Rescorla, R. A. (1988). Pavlovian conditioning: It's not what you think it is. American Psychologist, 43(3), 151–160. http://dx.doi.org/10.1037/0003-066X.43.3.151.
2- Salkovskis, P.M., Hackmann, A., Wells, A., Gelder, M.G., Clark, D.A. (2006). Belief disconfirmation versus habituation approaches to situational exposure in panic disorder with agoraphobia: A pilot study. Behaviour Research and Therapy, 45, 877-885. doi: 10.1016/j.brat.2006.02.008
3- Scheveneels, S., Hermans, D., & Boddez, Y., (2019). Optimizing exposure herapy strengths and limitations of the extinction model. unpublished Doctorate thesis in Psychology. Centrum leerpsychologie en experimentele psychopathologie. College of Experimental Psychology And educational sciences. Katholieke Universiteit Leuven.
4- Barlow, D. H. (1988). Anxiety and its disorders: The nature and treatment of anxiety and panic. New York, NY: Guilford Press. Barlow, D. H., & Craske, M. G. (1988). Mastery of your anxiety and panic. Albany, NY: Graywind Publications.
5- Barry TJ, Vervliet B, Hermans D. (2015). An integrative review of attention biases and their contribution to treatment for anxiety disorders. Front. Psychol. 6, 968.
ويتبع >>>>>> : توجهات جديدة في الت.م. تعميق الانطفاء (4)
واقرأ أيضًا:
علاج و.ل.ت.ق علاج الكمالية الإكلينيكية2 / علاج و.ل.ت.ق علاج التردد الوسواسي