توجهات جديدة في الت.م.ا إشارات الاسترجاع (8)
معلومة أن الكلام عن المشاعر يساعد في تلطيف حدتها هي معلومة لا يحتاج الإنسان لعلم النفس ليعرفها، فكلنا يخبر ذلك بنفسه ويسمعه من غيره، وهناك أساليب علاج نفسية تستثمر تلك القدرة الفطرية لتفريغ المشاعر بالكلام عنها، ولكن الجديد هو محاولات فهم الآلية الدماغية العصبية التي يحدث بها ذلك وكذا محاولات الاستفادة من ذلك في إطار الت.م.ا (التعرض ومنع الاستجابة)، فقد بدأت أبحاث التصوير العصبي الحديثة في تقديم نظرة ثاقبة لآلية عصبية معرفية محتملة يمكن من خلالها أن يؤدي وضع المشاعر في الكلمات إلى تخفيف الاستجابات العاطفية السلبية، وتشير نتائج عديد من الأبحاث إلى أن وضع المشاعر في الكلمات قد يؤدي إلى تنشيط قشرة المخ الجبهية البطنية الوحشية اليمنى Right Ventro-Lateral Pre-Frontal Cortex والتي بدورها تثبط استجابة اللوزة Amygdala وبالتالي تساعد في تخفيف الضغط الانفعالي (Lieberman et al., 2007) فمن المعروف أن اللوزة هي البنية الدماغية الأكثر ارتباطًا بعمليات الخوف والقلق، بينما القشرة الجبهية البطنية الوحشية اليمنى هي منطقة مرتبطة بالمعالجة الرمزية للمعلومات العاطفية، وتظهر نشاطًا أكبر أثناء المعالجة اللغوية (مقارنة بالمعالجة غير اللغوية) للعاطفة، وكلما زاد نشاطها زاد تثبيطها للوزة (عبر القشرة قبل الجبهية الإنسية ومباشرة)، أي كلما قل نشاط اللوزة والتي تلعب دورًا رئيسيًا في شبكة المخ العاطفية الأساسية من خلال تنظيم التغييرات اللاإرادية في الجسد، فيترجم ذلك التأثير التثبيطي من اللوزة إلى تثبيط استجابة الجهاز العصبي المستقلي أو اللاإرادي والتي تقاس مثلا بالانخفاض في استجابة الجلد اللاإرادية للمحفز العاطفي (Tabibnia et al., 2008).
وكون تسمية المشاعر تحدث هذا الأثر أي إذا كان لنشاط الفص الجبهي المرتبط باللغة بالفعل تأثيرا مثبطا على اللوزة والاستجابة العصبية اللاإرادية، فقد يساعد دمج اللغة في علاج الرهاب أو الوسواس بالت.م.ا في تحسين نتائج العلاج فرغم أن تسمية المشاعر أو المعالجة اللغوية للمحفزات العاطفية لا تستند لأي من نظريات التعلم الارتباطي، إلا أنها قد تعمل على تكملة أو حتى زيادة تقوية التعلم المثبط أثناء الانطفاء من خلال زيادة الاهتمام بالم.م وتضخيم خطأ التنبؤ أي خرق التوقعات.
وربما آلية تسمية المشاعر (أو الحالة العاطفية للفرد) هي آلية ضمنية (غير صريحة ولا متعمدة) لتلطيف تجربة المشاعر، أي لتنظيم المشاعر، فهي ليست جزءًا من آلية التنظيم المتعمد للمشاعر، وربما الفكرة الشائعة لدى الناس عنها أنها تضخم لا تلطف المشاعر أي أن تسميتك للحزن باسمه أو للغضب باسمه إنما يزيد من خبرتك بذلك الشعور، والحقيقة أن حصاد الدراسات التي أجريت على تأثير تسمية المشاعر الجوانية على التغيرات الفسيولوجية المصاحبة للانفعال أعطت نتائج متضاربة (Marks, et al., 2019)، فهناك من استنتج أن تسمية المشاعر تقلل من حدة التغيرات الفسيولوجية وهناك من استنتج العكس أي أنها تزيد من حدة تلك التغيرات (McRae et al., 2010) ... وهناك من استنتج أن تسمية المشاعر الجوانية لا تحدث أي فرق في التغيرات الفسيولوجية المصاحبة للانفعال (Ortner, 2015) .... وهذا التضارب في النتائج راجع في ما يبدو إلى اختلاف طرق البحث والقياس، لكن على الرغم من النتائج غير الحاسمة فيما يتعلق بالتغيرات الفسيولوجية اللاإرادية والتقارير الذاتية عن المشاعر من المفحوصين، إلا أن هناك ما يشير إلى وجود بعض الحالات التي قد تؤدي فيها تسمية الحالة العاطفية الداخلية للفرد إلى زيادة، بدلاً من تقليل، الإثارة العاطفية والفسيولوجية المبلغ عنها ذاتيًا في البالغين الأصحاء.
وهناك كذلك عدة طرق مفترضة يمكن أن تساعد بها تسمية المشاعر في تسهيل التغيير العلاجي منها كما تقترح مجموعة ماركس (Marks, et al., 2019).
1- قطع حلقات التفكير المفرغة "الفكاك":
قد تكون تسمية المشاعر الجوانية بمثابة تقنية تساعد العميل على "التخلص" من حلقات التفكير السلبي المفرغة. كما يحدث في القلق أو الاجترار في اضطرابات القلق والطيف الوسواسي، وفي الاضطرابات المرتبطة بالكرب النفسي، واضطراب الاكتئاب. إذ يظل المريض عالقا في حلقات لا تنتهي من التفكير السلبي ويبقى عاجزا عن أي تعلم جديد حتى إذا تم تقديم معلومات تصحيحية فإنها لا تفيد ما دام عالقا في حلقات التفكير السلبي المفرغة. وبالتالي، فإن التقنيات التي تقطع أو تغير هذه الحلقات ضرورية لتغيير الاستجابات العاطفية والسلوكية. وقد تعمل تسمية المشاعر الجوانية على قطع تلك الحلقات يما يؤدي إلى "فكاك" المريض منها وبالتالي السماح بحدوث تعلم جديد.
2- خلق خرق التوقعات وصنع المعنى:
وقد تكون تسمية المشاعر الجوانية أثناء التعرض مفيدة لقدرتها على زيادة خرق التوقع وصنع المعنى للخبرة، فتحديد وتسمية الشعور الجواني يساعد في زيادة خصوصية التجربة العاطفية الحالية للعميل كما يسمح بزيادة احتمالية خرق التوقعات، (مثلا "سأشعر بقلق شديد لدرجة أنني سأتقيأ" مقابل "سوف أتقيأ") بالإضافة إلى نتائج أكثر دقة (مثلا "شعرت بالقلق لكنني تحملت الأمر ولم أتقيأ" مقابل "لم أتقيأ").... إلا أن التوقيت الذي تستخدم فيه تسمية المشاعر أثناء التعرض يجب ألا يكون مبكرا لأن نتيجة التعرض تتحسن عندما تحدث استجابة فسيولوجية كاملة للمحفز المخيف في البداية أثناء التعرض. لذلك، إذا تم تقديم كلمة عاطفية قبل أو في وقت واحد مع المحفز المثير للذكريات، فقد يتم منع الانطفاء، لأن الاستجابة العاطفية للمحفز قد تم تخفيضها قبل أن تبدأ. بينما إذا تمت تسمية المشاعر بعد التعرض للمحفز المثير، أي بشرط أن تكتمل الاستجابة العاطفية قبل تثبيطها..... حتى لا تنتقص لا من الاستجابة العاطفية الأولية (والمهمة من منظور نظرية معالجة المشاعر) ولا من خرق التوقعات (والأساسي من منظور التعلم المثبط).
3- زيادة الضيق وتعلم تحمل الضيق:
الطريقة الثالثة التي يمكن أن تساعد بها تسمية المشاعر في تسهيل التغيير العلاجي هي من خلال زيادة الضيق، والذي يمكن أن يساعد بعد ذلك في تعليم العميل تحمُّل الضيق أثناء التعرض. وقد لوحظ أن تسمية المشاعر يمكن أحيانا أن تزيد مؤقتًا من الكرب عن طريق لفت انتباه العميل إلى جوهر معنى الحدث أو الموقف.... وهو ما يضعف قدرته على التحاشي العاطفي بصرف الانتباه عن الحدث أو الموقف والذي هو أحد سلوكات التأمين المستترة التي تفسد التعرض، ومن المرجح عندما يتم تقليل التحاشي أن يواجه العميل زيادة في الشدة العاطفية والضيق. وهكذا يمكن أن تعمل تسمية المشاعر بالفعل كطريقة لزيادة التجربة العاطفية لأولئك الذين قد يلجئون لصرف لانتباه أثناء تمارين التعرض، وبشكل عام فإن تسمية المشاعر يمكن أن تساعد في تجسيد تفسير الحدث للفرد وفتح الباب لمزيد من المعالجة البناءة المتعمقة التي قد لا تحدث دون زيادة الانغماس العاطفي أثناء التعرض.
كيف ومتى يتم استخدام تسمية المشاعر
نظرًا لأن تسمية المشاعر تحدث بشكل متكرر في التعرض الروتيني بالفعل، فإن زيادة وعي الطبيب بأثرها المفترض تساعد في تسهيل الاستخدام الاستراتيجي لتسمية المشاعر، ويتوافق هذا مع استخدامه كجزء من تحليل وظيفي أكبر وتصور للحالة أشمل بدلاً من تقنية قائمة بذاتها يتم دمجها في كل تمرين للتعرض. لأن ضرورة ذلك تعتبر سابقة لأوانها نظرًا لنقص الأدلة الحالية.
للوهلة الأولى يبدو التطبيق السريري لتسمية المشاعر بسيطا إلى حد معقول. يسأل المعالج، "ما هو شعورك؟" ويستجيب المريض بتسمية عاطفة معينة. إلا أن هذا يفترض أن العميل يحدد أن هناك عاطفة ما موجودة ويمكنه تسميتها بشكل صحيح، وليس هكذا الحال في ربما أغلب الحالات الإكلينيكية، كما أن التسمية في حد ذاتها ليست هي الهدف، وإنما القدرة على استخدام المعلومات العاطفية لتغيير التصورات والسلوكيات المستقبلية بطريقة أكثر تكيفًا وهذا مستوى أصعب في تلك الحالات، وبالتالي، فإن تسمية المشاعر في العلاج بالت.م.ا هي استراتيجية يمكن استخدامها لتسهيل الاستبصار والتغيير، وإذا تم استخدامها، يجب أن يكون ذلك عن قصد ولهدف من جانب المعالج.
هناك ما يشير إلى أن المرضى الذين يجدون صعوبة أكبر مع المشاعر (وفي تسمية المشاعر) يستفيدون أكثر من تسمية المشاعر أثناء الت.م.ا، والاستراتيجيات السلوكية التي تستهدف دوائر الفص الجبهي واللوزة العصبية (كتسمية المشاعر) يمكن أن تحسن فعالية علاج القلق بشكل خاص للمرضى الذين يعانون من خلل أكبر في تنظيم المشاعر (Niles et al., 2015).... وكثير من مرضى اضطرابات القلق غالبا تعرضوا طويلا لكبت مشاعرهم، ولديهم صعوبة في تنظيمها وتسميتها في كثير من الأحيان وهو ما يعني أنهم سيستفيدون من إضافة تسمية المشاعر لبرامج علاجهم.... وكثير منهم سيحتاج بداية إلى تعلم والتدرب على تسمية المشاعر.
رغم وجود جدل علمي كبير حول كيفية وفاعلية تسمية المشاعر وكذلك حول طبيعة المشاعر، إلا أن هناك اتفاقًا معقولاً على أن المشاعر الأساسية عبر الأفراد والثقافات هي المتعلقة بالخوف والغضب والاشمئزاز والحزن والسعادة، وهناك بعض الاتفاق كذلك حول عالمية مشاعر العار والمفاجأة والإحراج (Ekman, 2016) وهذه القائمة كافية بشكل عام لتسمية المشاعر ذات التأثير العلاجي والتي يتم تعريف المريض بها وتدريبه على تسميتها على أن تكون التسمية للعاطفة الأساسية وليس للمحفز (أي كلمة الخوف وليس كلمة مخيف) وأن يكون توقيت استخدامها من قبل المريض مناسبا عندما تشير عملية العلاج أو تصور الحالة إلى استخدامها.
في الختام، تهدف التوصيات المبنية على نظرية التعلم المثبط إلى تعظيم التعلم المثبط أثناء العلاج بالت.م.ا من خلال تعظيم انتهاك التوقعات أثناء التعرض. ومنع السلوكات والتدخلات التي يُعتقد أنها تقلل من توقعات النتائج البغيضة (وعلى الأرجح تقلل الضيق أيضًا) كسلوكات التأمين وإعادة الهيكلة المعرفية، كما أن بعض التقنيات المقترحة تهدف إلى المفاجأة وزيادة الضيق أثناء التعرض وبالتالي من المرجح أن يتطلب هذا النهج في الت.م.ا مزيدًا من الجهد من المرضى في تحمل مستويات عالية من الضيق مقارنة بالنهج الأكثر تقليدية للت.م.ا، وهو ما قد يؤدي إلى رفضها من قبل المرضى أو التوقف عن العلاج. ولما كانت الأدلة التجريبية (على الأقل لبعض) هذه التوصيات محدودة. فإن هناك حاجة إلى مزيد من البحث لاختبار ما إذا كانت آثار تطبيق هذه التوصيات تفوق احتمالية ارتفاع رفض العلاج والتسرب.... ويجب أن يبقى تطبيقها من قبل الم.س.م (المعالج السلوكي المعرفي) في إطار تجريبي وفي الأحوال التي تتيح اختبار نتائجها على المدى القريب والبعيد.
المراجع :
1- Lieberman, M. D., Eisenberger, N. I., Crockett, M. J., Tom, S. M., Pfeifer, J. H., & Way, B. M. (2007). Putting feelings into words: Affect labeling disrupts amygdala activity to affective stimuli. Psychological Science,18, 421– 428.
2- Tabibnia, G., Lieberman, M. D., & Craske, M. G. (2008). The lasting effect of words on feelings: words may facilitate exposure effects to threatening images. Emotion,8(3), 307.
3- Marks E.H., Walker S.W.R, Ojalehto H, Bedard-Gilligan M.A, Zoellner L.A & Marks L.H. (2019). Affect Labeling to Facilitate Inhibitory Learning: Clinical Considerations. Cognitive and Behavioral Practice. Volume 26, Issue 1, February 2019, Pages 201-213.
4- McRae, K., Taitano, E. K., & Lane, R. D. (2010). The effects of verbal labeling on psychophysiology: Objective but not subjective emotion labeling reduces skin- conductance responses to briefly presented pictures. Cognition and Emotion, 24, 829–839. doi:10.1080/0269993090297141
5- Ortner, C. N. M. (2015). Divergent effects of reappraisal and labeling internal affective feelings on subjective emotional experience. Motivation and Emotion, 39, 563–570. doi:10.1007/s11031-015-9473-2
6- Niles A.N., Craske M.G., Lieberman M.D. & Hur C. (2015) Affect labeling enhances exposure effectiveness for public speaking anxiety. Behaviour Research and Therapy 68 (2015) 27e36
7- Ekman, P. (2016). What scientists who study emotion agree about. Perspectives on Psychological Science, 11, 31–34. doi:10.1177/1745691615596992
واقرأ أيضًا:
علاج و.ل.ت.ق علاج الكمالية الإكلينيكية2 / علاج و.ل.ت.ق علاج التردد الوسواسي