هناك حقيقة لا تقبل الجدال وهي أن البيئة العائلية وعلاقة الطفل بالوالدين تلعب دورها في بناء شخصية الطفل وتطوره عبر مراحل الحياة وبالتالي استقلاله عن الوسط العائلي وتحليه بالمسؤولية. لا أحد ينكر دور العوامل البيولوجية الوراثية في سلوك الأطفال وشخصيتهم، ولكن يجب توخي الحذر من تضخيم دورها. هناك أيضاً العوامل البيئية التي تلعب دورها قبل الحمل، وأثناء الحمل، خلال الولادة، وفي مراحل الطفولة التي قد تؤثر على العملية التطورية للجهاز العصبي.
التوقعات الأبوية (الوالدية) :
ولادة الأطفال ورعايتهم تنقل الإنسان من مرحلة حياة إلى أخرى. هذا الانتقال أشبه بعبور النهر من ضفة إلى أخرى وفي اتجاه واحدِ فقط لا غير. هذه المرحلة الجديدة لا يقوى عليها الجميع وهناك من الأمهات من تعتمد على ذويها لرعاية الطفل وهناك من الآباء من يسلم مسؤولية الرعاية إلى زوجه، وهناك من البيوت العائلية التي لا نهاية للأزمات فيها وبالتالي تنتقل رعاية الأطفال إلى الأقارب، وفي العالم الغربي إلى الدولة لأن الطفل في دستور هذا العالم هو ملك ومسؤولية الدولة حتى مع وجوده مع والديه. لكن القاعدة العامة هي أن الغالبية العظمى من البشر يحتضنون أطفالهم ويقدمون لهم أفضل رعاية ممكنة.
ينظر الآباء إلى أبنائهم امتداداً لأنفسهم وبسبب ذلك يقدمون لهم أفضل الرعاية. هذا الامتداد الذاتي يتحول أحياناً إلى استيعاب الوالدين لأبنائهم بأنهم ملك خاص بهم، وهذه الملكية تتحول أحياناً إلى استبعاد أبدي. لكن ما نعلمه بأن استعباد البشر للبشر انتهى أمره، ولكنه لم ينتهي في استعباد الوالدين للأبناء وتسخيرهم لخدمتهم طوال العمر. مقابل ذلك هناك من الأبناء من يستعبد الوالدين ويسخرهم لخدمته طوال العمر.
تظهر معالم الامتداد الذاتي في وقت مبكر، وترى الوالدين في منافسة مع أبناء الآخرين والسؤال متى بدأ الطفل يمشي، ويتكلم، وما هي نتائجه في الاختبارات المدرسية. هذا الامتداد الذاتي يفسر لنا التوقعات الأبوية لإنجازات الأطفال ويفسر لنا ظاهرة مراقبة سلوك الأطفال وانتباههم وسرعان ما يتم تشخيصهم باضطراب عجز الانتباه وفرط الحركة (Attention Deficit Disorder & Hyperactivity (ADHD والمطالبة بعقاقير كيمائية لتحسين التركيز. يسقط الكثير اللوم على شركات الأدوية في شيوع تشخيص هذا الاضطراب، ولكن الحقيقة هي أن المصدر الرئيسي لزيادة تشخيص هذا الاضطراب هو التوقعات الأبوية.
من جانب آخر ترى أن هدوء الأطفال وحسن سلوكهم هم ما يستهدفه جميع الآباء والأمهات. الطفل لا يتوقف عن استكشاف محيطه والتفاعل معه أحياناً من أجل أن يتعلم ويتعامل ويتأقلم مع بيئته. هناك من الآباء والأمهات من لا يتحمل نشاط الأطفال وثرثرتهم ومعاكستهم للبيئة والأطفال الآخرين، وهذا بدوره يؤدي إلى عقوبات أبوية بلا معنى ونتيجتها دوماً رد فعل عكسي على المدى القريب والبعيد. الكارثة أحياناً تكمن في وصول هؤلاء الأطفال للقطاع الطبي والحصول على عقار للحد من نشاطهم.
الدوبامين Dopamine هو الناقل العصبي الكيمائي الذي يتحكم في اندفاع الإنسان، وعقاقير عجز الانتباه وفرط الحركة ترفع من فعاليته والعقاقير المضادة للذهان تثبط فعاليته. استعمال عقاقير مضادة للذهان مثل رسبيردون (رسبيردال) Risperidone للحد من نشاط الأطفال واندفاعهم بدون وجود اضطراب نفسي جسيم يوحي بوجود عملية ذهانية خطوة يصعب تبريرها، وإن وجدت بعض الدراسات الطبية التي توصي بها فهي إن تميزت بشيء فهو ضعف قوتها الإحصائية وإشكالية تمويلها.
طباع الأطفال
لا يمكن الحكم على شخصية الطفل من عمر مبكر وتجنب وصم شخصيته بصفات الشخصية المتداولة لوصف البالغين. الأفضل من ذلك الحديث عن طباع الأطفال ونمط سلوكهم الذي يميل إلى الوضوح من عمر مبكر، ولكنه يختلف عن شخصيات البالغين بالحركية واحتمال تغيره مع مرور الوقت.
هناك الطفل الذي تراه سريع الاتصال مع الآخرين والاختلاط بهم ومشاركتهم والذي نسميه السريع إلى الدفء والحماس. هناك الطفل الذي يكون أكثر حذراً منه والذي نسميه بالبطيء إلى الدفء والحماس. وأخيراً هناك الطفل الذي يميل إلى الوحدة والعزلة ونسميه الطفل المنعزل الذي يفضل أن يلعب لوحده دون مشاركة الآخرين دوماً. هذه الطباع ليست غير طبيعية وقد تتغير بسرعة مع انتقال الطفل إلى مرحلة تعليمية متقدمة واكتسابه مواهب جديدة. لكن الأب والأم والمجتمع بأسره يميل إلى تصنيف الأطفال من عمر مبكر ووضعهم في قوالب نفسية مرضية وفي مقدمتها التوحد.
التوحد هو من مجموعة الاضطرابات العصبية البنائية Neurodevelopmental Disorder ولابد من تشخيصه بدقة ودراسة الصعوبات التعليمية التي تصاحبه. ولكن هناك أيضاً الإسراف في استعمال هذا المصطلح من قبل الآباء والأمهات والعاملين في مختلف القطاعات التربوية والاجتماعية والنفسية في وصم الطفل البطيء إلى الدفء والحماس والطفل المنعزل به. تشخيص التوحد بحد ذاته عملية لا تخلو من التعقيد والغالبية العظمى من الأطفال والمراهقين يصعب تشخصيهم به ورغم ذلك يتم وصمهم بوجود صفات توحدية (أو ذاتوية) Autistic Traits لا تساعدهم ونتيجتها واحدة لا غير حصولهم على وصمة الإصابة باضطراب طبنفسي طوال العمر لا يرفع من معنوياتهم ولا يساعد على تطورهم الفكري والمهني والاجتماعي. استحداث مفهوم طيف التوحد Autistic Spectrum Disorder ساعد في انتشار استعمال مصطلح التوحد بذاته وفي نهاية الأمر على الطفل أن يقبل به، ويستنتج الأب والأم بأن طفلهم مصاب بعلة عقلية وربما يساعد ذلك على تخفيف شعورهم بالذنب.
نقاش عام
ليس الهدف من هذا المقال تهميش تشخيص وعلاج بعض الاضطرابات العصبية التطورية في الأطفال، وعدم تشجيع الآباء والأمهات على استشارة الجهات الطبنفسية والتربوية المختلفة للحصول على خطة رعاية لطفلهم وسد احتياجاته المختلفة.
الغالية من هذا المقال هي تسليط الضوء على تنوع وسلوك الأطفال واصطدام ذلك أحيانا بالتوقعات الأبوية. هذه التوقعات ليست بغير المشروعة في عالم أصبح فيه التنافس على التفوق والحصول على عمل والرقي الاجتماعي هاجساً بشريا لا نهاية له. لكن هذه التوقعات أحيانا تسير في طريق تتعثر فيه مسيرة الطفل الطبيعية وتؤثر عليه سلبياً.
الطفل يتغير وتطوره أحياناً يحدث على شكل قفزات ينتقل بها من مرحلة إلى أخرى. ما يجب الانتباه إليه هو سد احتياجاته ورعايته مع توخي الحذر من التسرع بوصمه بصفات وميزات من عمر مبكر.
واقرأ أيضًا:
المش_توحد : ما ليس ذاتوية / خلف الستار العائلي... الإفراط الجنسي