الاكتئاب وعلاجه بين الطب النفساني والرأي العام
ليس هناك اضطرابٌ نفسانيٌ يثير اهتمام الإعلام بين الحين والآخر مثل الاكتئاب وعلاجه. في بداية الأمر هناك انتشار الاكتئاب وتعدد الدراسات في مختلف قارات العالم حيث تشير إلى أن معدل انتشاره في أي وقت هو12.9% في حين نسبة انتشاره على مدى عام واحد هو7.2% وانتشاره على مدى الحياة هو 10.8%. هذه الأرقام توضح بكل بساطة تناقضها حيث من المتوقع أن يكون يكون معدل انتشاره على مدى الحياة أعلى بكثير من من انتشاره في أي وقت وعلى مدى عام واحد1.
النقطة الثانية كثيرة الملاحظة عند الحديث عن انتشار الاكتئاب هي الأدوات التي يتم استعمالها في تشخيص الاكتئاب حيث أن انتشار الاكتئاب الأكثر من 17% مع استعمال أدوات التقييم الذاتي مقارنة بتشخيص الاكتئاب مع استعمال مقابلات سريرية (8.5%)1.
انتقل تشخيص الاكتئاب وعلاجه من اختصاص الطب النفساني صوب الطب العام وكل اختصاص طبي وجراحي على حد سواء. تدريجياً أصبح تشخيص الاكتئاب تقييماً ذاتياً بفضل انتشار الإنترنت ووفرة المواقع التي تعني بالصحة النفسانية. كان تشخيص الاكتئاب٬ بل ولا يزال٬ يعتمد على تقييم الحالة العقلية للمراجع Mental Status Examination وهو لا يعتمد فقط على تقييم المراجع الذاتي وإنما على تقييم موضوعي من قبل الطبيب النفساني. هذا التشخيص الدقيق للاكتئاب ليس من اختصاص الطب العام ولا أي اختصاص طبي آخر ولكن القواعد الإرشادية2 في جميع أنحاء المعمورة لا تشير إلى التقييم الموضوعي للاكتئاب وتركز فقط على احتياطات الأمان بسبب خطورة الانتحار٬ والعلاج.
تشخيص الاكتئاب بحد ذاته يبدو واضحاً مع قراءة المجلدات التشخيصية المختلفة ويرتكز على وجود اكتئاب مستمر وعدم القابلية على الشعور بالمتعة والبهجة والتي يتم استعمال مصطلح Anhedonia اللاتيني لوصفها. انعدام الشعور بالمتعة هو في الحقيقة بؤرة الاكتئاب والتشخيص يتطلب وجود هذه الميزة لمدة أسبوعين. يتبع عدم انعدام الشعور بالمتعة أعراض معرفية Cognitive ميزتها اليأس والعجز وتقييم الماضي والحاضر والمستقبل سلبياً. يصاحب ذلك ارتباك النظم اليومي للإنسان مع الارق٬ صعوبة التركيز فقدان الشهية ثم انخفاض الوزن. يتغير تفكير الإنسان ويفقد الأمل والرغبة في الحياة. التشخيص الحالي للاكتئاب يعتمد على تقييم شدة الاكتئاب من طفيف إلى متوسط ثم شديد ويتبع ذلك الموقع الذهاني3. هذه الأبعاد المختلفة للاكتئاب ليست في غاية الوضوح وخاصة ما هو طفيف ومتوسط٬ ولا تساعد على التخمين الدقيق لمسار الاكتئاب على المدى البعيد بل وأحياناً على المدى القريب. التمييز ما بين القلق والاكتئاب والجمع بينهما ليس سهلاً ويؤدي إلى تحديات تشخيصية وعلاجية.
مضادات الاكتئاب:
كان علاج الاكتئاب في النصف الأول من القرن العشرين يرتكز على مساندة المريض وانتظار انتقاله من موقع اكتئاب الى موقع هدأة واستعمال التخليج الكهربائي للتخلص من مرض يفتك به تدريجياً ويدفعه للانتحار. تم اكتشاف فعالية العقاقير المضادة للاكتئاب بالصدفة مع رواد عقاقير الجيل الأول ابرونيازيد وايميبرامين وتبعهما طابور من العقاقير المعروفة مضادات الاكتئاب الثلاثية الحلقة التي لا تتطلب نظاماً غذائياً صارماً مثل عقاقير مثبطات مونوامين اوكسيديز التي ينتمي اليها عقار ابرونيازيد. لم تكن هذه العقاقير شائعة الاستعمال بسبب اعراضها الجانبية ولكنها وضعت حجر الأساس لفهم دور الناقلات الكيمائية العصبية في علاج الاكتئاب. هذه النظريات فتحت الباب لاكتشاف عقاقير الجيل الثاني لمضادات الاكتئاب والمعروفة بمثبطات أسترجاع السيروتونين الانتقائية selective serotonin reuptake inhibitors SSRIs في الثمانينات من القرن الماضي وكان أولها عقار فلوكستين والمعروف تجاريا بروزاك. عقاقير الجيل الثاني أدت الى انفجار هائل في علاج الاكتئاب وشاع استعمالها بصورة عشوائية لكل من لا يشعر بالسعادة وربما أدى ذلك بدوره الى ارتفاع تشخيص الاكتئاب بصورة ذاتية ومن قبل جميع الأطباء في مختلف الاختصاصات. السبب الاخر لشيوع استعمال هذه العقاقير سلامة استعمالها اذا بادر المراجع باستعمال جرعة عالية لغرض الانتحار على عكس عقاقير الجيل الأول.
كانت عقاقير الجيل الأول تتميز بأعراض جانبية مصدرها الفعالية المضادة للكولين Anticholinergic وتسبب جفاف الفم٬ عدم انتظام دقات القلب٬ الإمساك البولي والاختلال الوظيفي الجنسي. أما عقاقير الجيل الثاني فأعراضها الجانبية تتعلق بانخفاض الشهية والغثيان، الإمساك٬ صداع٬ التعب٬ والأرق وضعف الرغبة الجنسية والفعالية الجنسية في الذكور والإناث على حد سواء. رغم ذلك فإن أكثرية المرضى يتجاوزون هذه الأعراض الجانبية ويستمر استعمال العلاج بعد الدخول في مرحلة هدأة من الاكتئاب. رغم وجود العديد من عقاقير الجيل الثاني لكن لا يوجد دليل يشير إلى وجود عقار أفضل من الآخر واستعمالها يعتمد فقط على تحمل المراجع العلاج وخبرة الطبيب المعالج في استعمال عقار دون آخر.
الدليل العلمي على فعالية مضادات الاكتئاب لا يقبل الشك ومصدره تجارب سريرية معشاة ذات شواهد Randomised Controlled Trials وهناك الآلاف منها ولكن في نفس الوقت مقدار هذا التحسن هو30% مقارنة بعقار وهمي 3. هذا التحسن يتناسب مع شدة الاكتئاب وكلما ارتفعت شدته ارتفع احتمال استجابة المريض لمضاد الاكتئاب. بعد ذلك وفي العقد الأول من الألفية الثالثة بدأت النشرات التي تدرس التجارب التي تم نشرها سابقاً بالتشكيك في فعالية مضادات الاكتئاب باستعمال عمليات إحصائية معقدة استنتجت بأن فعالية هذه العقاقير تكاد تكون مقصورة على الاكتئاب الشديد جداً4. هذه الدراسة تتناقض مع آلاف التجارب العلمية السريرية والممارسة المهنية ولكن في نفس الوقت تثير التساؤلات حول الاستعمال العشوائي للعقاقير ذاتها وخاصة في مجال الطب العام والأولي Primary Health Care حيث تشير الدراسات إلى أن ما يقارب الثلث من المراجعين لا يستعملون هذه العقاقير بصورة منتظمة بسبب تحسن حالتهم تلقائياً وعدم إصابتهم بالاكتئاب أصلاً٬ بالإضافة إلى عدم تحملهم الأعراض الجانبية3.
الإرشادات الطبنسفية عموما توصي بعلاج معرفي سلوكي في الاكتئاب الطفيف والمتوسط الشدة. لكن لا يوجد أي دليل علمي مقنع بأن العقاقير المضادة للاكتئاب أقل فعالية من العلاج الكلامي بأنواعه. كذلك العلاج الكلامي بحد ذاته لا يخلو من مشاكل والعديد من المراجعين لا يملك الوقت ولا المال للدخول في علاج فعاليته لا تزيد على العقاقير في الاكتئاب الطفيف والمتوسط الشدة وخاصة في الذين يعانون من اكتئاب مزمن5. ما لا يقبل الشك ويقبل به الجميع بأن العلاج بالعقاقير هو الحل الوحيد لعلاج اكتئاب شديد وذهاني.
واجهت العقاقير أزمة أخرى في بداية التسعينيات أشد بأساً من أزمة الشك في فعاليتها ومفادها بأنها ترفع من احتمال السلوك الانتحاري في المصابين بالاكتئاب بين عمر ١٨ و٢٤ عاماً6 ٬ وابتدأ الجدال حول إذا كان سبب السلوك الانتحاري هو الاضطراب الأولي والعقاقير بحد ذاتها. هذه الظاهرة ليست بغير المعروفة في الممارسة المهنية منذ بداية استعمال العقاقير المضادة للاكتئاب ومصدرها تفعيل المريض في وقت مبكر قبل تجاوز المزاج الاكتئابي٬ ولكن الإعلام العام الجماهيري توجه نحوإسقاط اللوم على العقاقير. لكن ما يقبل به الجميع الآن بعد تحليل جميع الدراسات العلمية الميدانية بأن العقاقير لا ترفع من خطورة الانتحار في جميع الأعمار بل إن استعمالها بحد ذاته يؤدي إلى انخفاض الأفكار الانتحارية والسلوك الانتحاري7.
سلامة عقاقير الجيل الثاني من مضادات الاكتئاب لعب دوره في استمرار تعاطي هذه العقاقير لفترة طويلة حتى بعد احتمال نفاذ الحاجة لاستعمالها. لكن لا يمكن عدم انتقاد الكادر الطبي في مختلف الاختصاصات في وصف هذه العقاقير لأجل غير مسمى وعدم تثقيف المريض حول الحاجة إلى متابعة طبية وسحب العقاقير في وقت ما بعد الدخول في مرحلة هدأة من الاكتئاب والشفاء منه. كذلك الكثير من المراجعين يعانون من انتكاسة بسبب انتكاس الاضطراب نفسه وظهور أعراض متلازمة توقف استعمال مضادات الاكتئاب Discontinuation Syndrome . المتلازمة الأخيرة ليست حصراً على عقاقير الجيل الثاني كما يتصور الكثير ومعروفة سابقة مع عقاقير الجيل الأول٬ ولكن انتشار استعمال هذه العقاقير ووصفها من قبل جميع الأطباء أدى إلى اهتمام الطب النفساني والإعلام بها على حد سواء. مصدر أعراض متلازمة توقف مضادات الاكتئاب المعروفة عموما بالأعراض الانسحابية هو اعتماد فسلجي Physiological Dependence والذي يبدأ أحيانا بعد أربعة أسابيع من استعمال العقار. لا توجد توجيهات متفق عليها لسحب هذه العقاقير فهناك من يوصي بخفض الجرعة تدريجيا خلال بضع أسابيع وهناك من يوصي بخفض جرعة العقار بصورة تدريجية جداً على مدى عدة أشهر8.
مستقبل علاج الاكتئاب
الحقيقة التي يقر بها الجميع بأن علاج الاكتئاب مع استعمال العقاقير لم يتطور بتاتاً منذ أكثر من ربع قرن الزمان وأكثر. لا تزال فعالية العقاقير لا تتجاوز 30% في الممارسة المهنية والدراسات العلمية وشفاء المريض ربما سببه العقار نفسه٬ شفاء تلقائي٬ وكلاهما. استعمال العقاقير على المدى الطويل قد ينقل المريض من موقع الاكتئاب إلى موقع أعراض جانبية ناتجة من استعمال العقار نفسه. في نفس الوقت لا يمكن إنكار وتهميش دور مضادات الاكتئاب في علاج الاضطراب الاكتئابي والقلق. هذا الشلل العلمي المهني في علاج الاكتئاب دفع البعض في التشكيك في نظرية أحادي الأمين Monoamine Theory ودور السيروتونين في علاج الاكتئاب والبحث عن استهداف ناقلات كيمائية أخرى مثل غلوتاميت Glutamate ومنها عوامل مخدرة Psychedelic Agents . هذه الفرضيات بدأت تركز على عوامل اللدونة العصبية9 وتحسين التواصل بين الخلايا العصبية استناداً إلى دراسات مختبرية على الحيوانات. استعمال مواد مخدرة مثل كيتامين لا يزال محدودا ويقتصر على مجموعة من المرضى الذين يعانون من اكتئاب مقاوم للعلاج ومن الصعب القول بأن استعمالها سينتشر في المستقبل القريب. واجهت مضادات الاكتئاب تحديات وانتقادات عدة واستعمال مواد مخدرة على نطاق واسع سيؤدي إلى انتقادات أكثر موجهة للطب النفساني٬ وربما الأفضل التركيز على دور الجينات المختلف في الاكتئاب واستهدافها في العلاج في المستقبل.
مصادر:
1- Lim G, Tam W, Lu Y, Ho C, Zhang M, Ho R(2018). Prevalence of depression in the community from 30 countries between 1994 and 2014. Sci Rep 8 2861.
2- Hegarty K, Gunn J, Blashki G(2009). How could depression guidelines be made more relevant and applicable to primary care?. Br J Gen Practice 59(562): e 149-e 156.
3- Penn E, & Tracy D(2012). The drugs do not work?antidepressants and the current and future pharmacological management of depression. Ther Adv Psychopharmacol 2(5): 179-188.
4- Kirsch I, Deacon B, Hendo-Medina T, Schoboria A, Moore T, Johnson B(2008). Initial severity and antidepressant benefits: A meta -analysis of data submitted to the food and drug administration. Plos Med 5: 260-268.
5- Cipriani A, Barbui C, Butler R, Hatcher S, Geddes J(2011). Depression in adults: drug and physical treatment. Clinical Evi. Online Publication.
6- Teicher M, Glod C, Cole J(1990). Emergence of intense suicidal preoccupation during fluoxetine treatment. Am J psychiatry 147:207-210.
7- Gibbons R, Hendricks Brown C, Hur K, Davi’s J, Mann J(2012). Suicidal thoughts and behaviour with antidepressant treatment: re analysis of the randomised placebo-controlled studies of fluoxetine and venlafaxine. Arch Gen Psychiatry 69(6):580-587
8- Farmer A(2021). What I have learnt from helping thousands of people taper off antidepressants and others psychotropic medication. Ther Adv Psychophramcol 11:1-18.
9- Artin H, Zisook S, Ramanthan D(2021). How do serotonergic psychedelics treat depression: The potential Role of Neuroplastcity. World J Psychiatry 11(6): 201-214.
واقرأ أيضًا:
العلاقة بين الهرمونات والوزن / الجريمة والعنف والصحة النفسية / طب نفسي الصدمات