لقد كان هذا المبحث قبل سنوات طوال بلا اسم أو وصف واضح عندي، لكن همي كان أن أبحث أولاً في طريقة تشكيل بنيتنا المعرفية (الخواطر، الأفكار، القناعات، الاتجاهات...)، وهي لتسهيل تشبيهها كما تؤسس بيتاً، فأنت تقوم بحفر الأساسات، ثم صب أرضيةٍ أساسية، ثم رفع الأعمدة، ثم تشكيل الجدران... إلخ، وهذا ما يحصل في الحقيقة، من بداية تفتح إدراكنا في الطفولةِ، مروراً بكافة مراحل العمر المختلفة.
أما المحور الثاني في هذا المبحث فكان بمحاولة معرفةِ المؤثرات الرئيسية لأسلوب تشكيلها أي البنى المعرفية، فيا ترى ما الذي سيؤثر على الطفل ليصنع أفكاره، وكيف ستتشكل قناعاته مع الوقت، وهذه المؤثرات ما هي أشكالها، بل وكيف تصبح مؤثراً يؤثر في تشكل البنية المعرفية مباشرةً أو مع مرور الوقت، وكيف تكتسب قوتها التأثيرية؟
ومع كل ذلك البحث توضح لي أن التأثير على البنى المعرفية يعتمد على عوامل كبرى هامة، أساسها ما أسميته (النقطة المرجعية) والتي هي نقطة انطلاق أساسية وزاوية نظرٍ مختلفة الانفراج بحسب أساس منظور الإنسان والذي يشكل زاويته بعدين أساسيين هما بُعد (الدنيا- الآخرة) وبعدُ (العقل، الهوى).
لقد كان هذا المبحث شائكاً، حتى اكتسب صفاته المميزة له، وعندها ظهر اسمه مع ظهور الجهد الآخر الذي كنت أعمل عليه وهو (مدرسة المفاهيم النفسية الإسلامية) والتي قدمت أول محاضرتها الرسمية قبل أربع سنوات.
اليوم أضع هذا الجهد بين أيديكم من خلال مقالاتٍ صغيرة، حيث أن مظلة البحث في الأمر هي مدرسة المفاهيم النفسية الإسلامية، والمبحث النظري فيها هو الأصول الفكرية للبنى المعرفية، والمنهج في تلك الاستفادة من تراثنا في جعله مرجعيةً تشريحيةً تفسيريةً لأبعادٍ مكونةٍ للنفس البشرية، مع البحث في هْدي الإنسان الذي أعطاه الله إياه، وكيف سيكون لذلك قدرة تفسيرية لتحليل ما يجري في أذهاننا وعقولنا وقلوبنا، خاصةً وأننا في أحوج ما نكون لمعرفة حقيقة ذلك، لأهدافٍ عدة:
أولها: لمعرفة المؤثرات التي تحمل قدرة التأثير على بنائنا المعرفي.
ثانيها: لإدراك شكل التأثير الواقع على بنيتنا المعرفية، وكيف شكّل هذه البنية.
ثالثها: لإدراك طبيعة منطلقاتنا ونقاطنا المرجعية فكرياً، وكيف أصبح فكرنا على ما هو عليه.
رابعها: لصيانة بنيتنا الفكرية من تشويهها، وتحويرها، مع إدراك أي خللٍ فيها.
خامسها: لصيانة أبنائنا وشبابنا من خلال العمل على مبادئ التحصين الفكري، وتنقية المشارب الفكرية، أو عمل منقيات معرفية تمنع التأثير معرفياً.
إن هذا المبحث ليس من علم النفس المعرفي الغربي المتعارف عليه وإن كان هذا ما سيقع في أذهان المتخصصين في علم النفس، بل هو في غالبه من العمل الخاص بمدرسة المفاهيم النفسية الإسلامية، والمؤصلةً في غالبها على أعمال ابن القيم وتراثه الفكري، وهذا يعد أهم اختبارات هذه المدرسةِ لمعرفة مدى قدرتها التشريحية والتحليلية والتفسيرية، فتابعنا باهتمام، لعلك تجد فيما ننشر ملجأً آمناً من دركات وعثرات الدنيا، أو مرتقىً جاداً لدرجات الآخرة، والله، ولي التوفيق، والسداد.
٨ ذو الحجة ١٤٤٤
واقرأ أيضاً:
تبليغ الأخبار المزعجة في الأزمات الوبائية3 / يحدث معنا يا زميلي.. تجارة تطوير الذات