خلل الحس الداخلي في الاضطرابات النفسية
ليس مستغربا أن ترتبط الاضطرابات النفسية بأحاسيس جسدية متغيرة، ببساطة لأن العلاقة بين إشارات الجسد والعواطف علاقة وثيقة، والعواطف جزء لا يتجزأ من تلك الاضطرابات، وبالتالي فغالبًا ما يعاني مرضى اضطراب القلق -بالإضافة إلى الأعراض المعرفية العاطفية، من أعراض حشوية جسدية. وقد بدأت أعداد متزايدة من الدراسات -خلال العقد الأخير- تبرز دور الإدراك أو الحس الداخلي في القلق، وفي حين أن الآليات العصبية للأعراض العاطفية المعرفية في اضطرابات القلق قد درست على نطاق واسع بدراسات التصوير الدماغي الحديثة فوضعت الافتراضات وأثبتت النظريات بخصوص ارتباطاتها العصبية، فإن الارتباطات العصبية للأعراض الحشوية الجسدية في تلك الاضطرابات ما تزال بعيدة كل البعد عن الوضوح، وذلك رغم كون الأعراض الجسدية "نفسية المنشأ" واضحة بل إنها كثيرا ما تكون في عبارات الشكوى الأولى، فنحن سريريًا نجد الشكاوى المتعلقة بارتفاع ضربات القلب وخفقان القلب شائعة في اضطرابات القلق فمثلا يشتكي حوالي 89٪ من مرضى اضطراب الهلع من خفقان القلب، كذلك هناك ما يشير إلى أن فرط إدراك الأحاسيس الجسدية أو فرط حساسية الحس الداخلي والتفسيرات الكارثية اللاحقة لهذه الأحاسيس في اضطرابات القلق مرتبط بشكل خاص بمنبهات الحس الداخلي الصادرة عن القلب.... رغم ذلك لا يستطيع أحد علميا أن يشرح كيف يحدث ذلك أو كيف يؤدي خلل الحس الداخلي إلى أعراض قلق معينة، والسؤال هنا ليس فقط عن دور الحس الداخلي في إحداث العواطف في المرضى، بل بوجه عام ما يزال السؤال: هل قلبي يخفق لأنني خائف؟ أم أنا خائف لأن قلبي يخفق؟ أو هل تغيرات الجسد هي استجابة للعاطفة؟ أم أن العاطفة استجابة لتغيرات الجسد؟ ما يزال مطروحا في علم نفس العواطف، وإن بدا في الآونة الأخيرة أن الدور المفترض لأحاسيس الجسد في العواطف والسلوك يتزايد كلما ازددنا فهما لإشارات الأمخاخ الجسدية المتعددة.
وعلى المستوى السريري تحدد المعايير التشخيصية للعديد من اضطرابات القلق وجود أعراض جسدية، خاصةً لاضطراب الهلع، والذي يمكن أن يشمل زيادة معدل ضربات القلب، والتعرق، والشعور بالاختناق أو صعوبة التنفس، وضيق البطن، أو الصدر ألم، أو تنمل، أو ارتعاش، كما تشمل معايير اضطراب القلق المعمم الأرق وتوتر العضلات، ويتطلب تشخيص اضطراب الكرب بعد الرضح (ما بعد الصدمة) أعراضًا مستمرة لزيادة الاستثارة الفسيولوجية. وتماشيًا مع تضمين الأعراض الجسدية في معايير التشخيص، فإن المرضى الذين يعانون من القلق يقرون باستمرار بالتعرق وزيادة معدل ضربات القلب وصعوبة التنفس بوتيرة أعلى من الأصحاء.
لكن على الرغم من تكرار الأعراض الجسدية التي يشتكي منها مرضى القلق، فإن المقاييس الموضوعية للإثارة الفسيولوجية لا تتطابق باستمرار مع التقارير الذاتية. فمثلا بينما تظهر بعض الدراسات زيادة في الاستثارة الفسيولوجية لدى مرضى القلق، لا تجد دراسات أخرى أي اختلافات فيهم عن مجموعات الضبط. وكما قلنا سابقا يثير غياب الاختلاف هذا احتمال أن القلق إنما يرتبط بحساسية متزايدة أو تحيز تجاه المعلومات الداخلية في غياب الاختلافات الفسيولوجية الرئيسية، أي على غرار النماذج المقترحة لـ "الأعراض غير المبررة طبياً".. ومما يدعم وجود التحيز المعرفي تجاه إشارات الجسد ما يلاحظ سريريا من وجود تاريخ - في الطفولة أو الرشد المبكر- للأحاسيس الجسدية المرتبطة بالهلع لدى مرضى اضطرابات القلق أو الأقارب الذين يعيشون في نفس المنزل بتواتر أعلى مقارنةً بمجموعة الضبط (Ehlers, 1993)، وهذا ما قد يشير إلى عمليات تعلم محددة ربما تساهم في إحداث التحيز المعرفي الذي يجعل إشارات جسدية معينة تترجم على أنها إشارات خطر رغم أنها ليست كذلك، في نفس الوقت وعلى المستوى الدماغي كان نشاط الجزيرة مفرطا بشكل غير طبيعي في مرضى اضطرابات القلق (Nagai et al., 2007)، كما هناك انخفاض في ارتباط المستقبلات للجابا (Cameron et al., 2007)، مما يشير إلى أن ضعف الأداء المثبط في الجزيرة (Stern, 2014)، أي أنها رغم فرط النشاط تفشل في التثبيط.
اضطراب الهلع
في واحدة من أوائل الدراسات التي اهتمت بدراسة الحس الداخلي في مرضى القلق (Ehlers, 1993) أظهر مرضى اضطراب الهلع قدرة معززة على إدراك معدل ضربات القلب من الأصحاء، ومن مرضى خفقان القلب، ومرضى نوبات الهلع النادرة، أو مرضى الاكتئاب، في حين أنهم لا يختلفون عن مرضى اضطراب القلق الاجتماعي أو اضطراب القلق المعمم أو الرهاب المعين، لكنهم كانوا يميلون إلى تحويل انتباههم نحو إشارات التهديد الجسدي، وصنفوا الأعراض الجسدية المرتبطة بالقلق أو الهلع على أنها أكثر خطرا، كما بينت أخرى تفوق مرضى الهلع على غيرهم في دقة استبطان دقات القلب (Van der Does et al., 2000) وبشكل عام تدعم الدراسات التي تستخدم مهام إدراك نبضات القلب في مرضى اضطراب الهلع فكرة زيادة حساسية الحس الداخلي تجاه ضربات القلب. (Domschke, et al., 2010)
اضطرابات القلق الأخرى
كررت مجموعة (Ehlers, 1993) الدراسة وأثبتت نفس النتائج تقريبا في مرضى القلق المعمم، ثم مرضى القلق الاجتماعي، ثم ومع محاولات تكرار النتائج واختلافات المفاهيم لم يجد باحثون آخرون نفس النتائج، كذلك بينت دراسات أخرى أن المختلف في مريض الهلع هو الحساسية للقلق Anxiety Sensitivity، وأخرى أرجعت الاختلاف إلى فرط الترقب لإشارات الجسد، وأرجعته أخرى إلى القناعات وراء المعرفية (Yoris et al., 2015)، وربما السبب في ذلك التباين بين نتائج الدراسات يرجع إلى الطريقة التي يقاس بها الحس الداخلي، ورغم أن استبطان دقات القلب هو الطريقة الأشهر والأكثر استعمالا إلا أن نقائص كبيرة تحدث في طريقة تطبيقه واستنباط النتائج.
وفي حالة القلق المعمم بينت دراسة حديثة أن فرط التنبه للجسد يؤدي إلى تغيرات في المعالجة القشرية لإشارات الحس الداخلي وفشل بالتالي في التأقلم مع الإشارات الجسدية (Pang et al., 2019) كما اكتشف الباحثون في دراسة حديثة (Teed et al., 2022) وجود صلة غير طبيعية بين الجهاز العصبي اللاإرادي والجهاز العصبي المركزي من خلال التواصل بين القلب وأجزاء من قشرة الفص الجبهي لدى النساء المصابات باضطراب القلق العام، كذلك فإن المرضى في تلك الدراسة أدركوا دقات قلوبهم بشدة وكثافة أكثر، وكان لديهم معدلات قلب أعلى نسبيًا ونشاط عصبي أقل في قشرة المخ قبل الجبيهة البطنية الإنسية "ق.ج.با" ، وهي منطقة دماغية معروفة بأنها تنظم الجهاز العصبي اللاإرادي وتسهل الشعور بالخوف أو الأمان.
في حالة القلق الاجتماعي هناك ما يشير إلى حساسية ودقة الحس الداخلي بمعنى أن أعراض زيادة القلق الجسدية صحيحة (Stevens et al., 2011) وهذا يخالف بعضا مما تستند إليه النظريات المعرفية السلوكية للرهاب الاجتماعي، كما ثبتت العلاقة بين دقة الوعي القلبي Cardiac Accuracy والقلق الاجتماعي. والمهم أن ارتباطها بالمقاييس التي تقيس قلق السمة الاجتماعي أشد من ارتباطها بمقاييس قلق الحالة، وهو ما يدعم فكرة أن دقة الحس الداخلي إنما تمثل ظاهرة شبيهة للسمات الدائمة (Stevens et al., 2011).
وأما في حالات الكرب بعد الرضحي فإن الأعراض الجسدية (فرط تيقظ لا إرادي، فرط الاستجابات المفاجئة، الإجفال، و/أو الهروب، زيادة ضربات القلب و/أو الضغط، اختلال الإنية / تبدل الواقع) هي ضمن محكَّات التشخيص المتفق عليها، والتعرض للحس الداخلي Interceptive Exposure جزء من إجراءات التعرض ومنع الاستجابة في علاج بالع.س.م CBT لهذه الحالات (مثلما في الهلع (Lee et al., 2006) والرهاب والوسواس القهري) وأخيرا فإن هناك ما يشير إلى أن إصلاح حساسية ودقة الحس الداخلي يؤدي إلى تقليل الأعراض في مرضى الكرب بعد الرضح (Reinhardt et al., 2020)..
أخيرا وبناء على ما توفره الأدبيات فإن هناك أدلة متقاربة على زيادة حساسية الحس الداخلي (من القلب خاصة) في الأنماط الظاهرية المرتبطة بالقلق، أي مرتفعي قلق السمة وذوي الحساسية للقلق وليس فقط مرضى إضرابات القلق، وربما تزيد هذه الحساسية من قابلية التعرض لاضطرابات القلق عن طريق زيادة القاعدة الحسية للتفسيرات الكارثية للأعراض الجسدية (القلبية بشكل خاص).
المراجع:
1- Ehlers, A. (1993). Somatic symptoms and panic attacks: A retrospective study of learning experiences. Behaviour Research and Therapy, 31, 269–278.
2- Nagai M, Kishi K, Kato S. (2007). Insular cortex and neuro- psychiatric disorders: A review of recent literature. Eur Psychiatry. 2007;22(6):387–94.
3- Cameron OG, Huang GC, Nichols T, et al.(2007). Reduced gamma-aminobutyric acid(A)-benzodiazepine bind- ing sites in insular cortex of individuals with panic disorder. Arch Gen Psychiatry. 2007;64(7):793–800.
4- Stern ER (2014). Neural Circuitry of Interoception: New Insights into Anxiety and Obsessive-Compulsive Disorders. Current Treatment Options in Psychiatry (2014) 1:235–247 DOI 10.1007/s40501-014-0019-0
5- Van der Does AJW, Antony MM, Ehlers A, et al. (2000).Heartbeat perception in panic disorder: a reanalysis. Behav Res Ther. 2000;38(1):47–62.
6- Domschke, K., Stevens, S., Pfleiderer, B., & Gerlach, A. L. (2010). Interoceptive sensitivity in anxiety and anxiety disorders: an overview and integration of neurobiological findings. Clinical Psychology Review, 30, 1e11.
7- Yoris, A., Esteves, S., Couto, B. et al. (2015). The roles of interoceptive sensitivity and metacognitive interoception in panic. Behav Brain Funct 11, 14 (2015). https://doi.org/10.1186/s12993-015-0058-8
8- Pang J, Tang X, Li H, Hu Q, Cui H, Zhang L, Li W, Zhu Z, Wang J, Li C.(2019). Altered Interoceptive Processing in Generalized Anxiety Disorder-A Heartbeat-Evoked Potential Research. Front Psychiatry. 2019 Sep 5;10:616. doi: 10.3389/fpsyt.2019.00616. PMID: 31543837; PMCID: PMC6739601.
9- Teed AR, Feinstein JS, Puhl M, et al. (2022) Association of Generalized Anxiety Disorder With Autonomic Hypersensitivity and Blunted Ventromedial Prefrontal Cortex Activity During Peripheral Adrenergic Stimulation: A Randomized Clinical Trial. JAMA Psychiatry. 2022;79(4):323–332. doi:10.1001/jamapsychiatry.2021.4225
10- Stevens S, Gerlach AL, Cludius B, et al. (2011).Heartbeat perception in social anxiety before and during speech anticipation. Behav Res Ther. 2011;49(2):138–43.
11- Lee K, Noda Y, Nakano Y et al.(2006). Interoceptive hyper- sensitivity and interoceptive exposure in patients with panic disorder: specificity and effectiveness. Bmc Psy- chiatry. 2006;6:32
12- Reinhardt KM, Zerubavel N, Young AS, Gallo M, Ramakrishnan N, Henry A, Zucker NL.(2020). A multi-method assessment of interoception among sexual trauma survivors. Physiol Behav. 2020 Nov 1;226:113108. doi: 10.1016/j.physbeh.2020.113108. Epub 2020 Jul 25. PMID: 32721494.
اقرأ أيضاً:
لماذا الوسواس القهري أسباب الوسوسة القهرية5/ العروض السريرية الأربعة للوسواس القهري