القياس النفسي الإكلينيكي الإيجابي Positive Clinical Psychometric Measurement
لعقود طويلة كان علم النفس مهتما بالسؤال العام التقليدي من الطبيب والمختص النفسي "ما المشكلة التي تعاني منها؟" لكن ربما لم يكن هذا السؤال كافيًا في التعرف على طبيعة الإنسان وتقييمه حتى وإن كان يشكو من مشكلة أو معاناة، ويبدو أن التقييم والقياس ليكون أعمق وأفضل يمكن أن نضيف للسؤال السابق سؤالاً آخر "ما الذي تجيده وتتقنه؟" لكن الجهود التي بذلت في الإجابة عن السؤال الأول تفوق الإجابات التي قدمت في الإجابة عن السؤال الثاني. نتج عن هذا حاجة ملحة مبررة نظريًا وعمليًا لدمج وتكامل السؤال عن الخطأ والضعف والمعاناة مع السؤال عن الصواب والقوة واستكشاف الجوانب الإيجابية دون تجاهل الضعف أو التقليل منه أو تجنبه.
ما الاتجاهات التي تسيطر على المختص وهو يقيّم ويفحص مشكلات العميل؟ فالخلفية المعرفية والأكاديمية التي تسيطر على اتجاهات المختص النفسي قد تكون متحيزة نحو محتوى دراساته والتدريب والإعداد المهني الذي تلقاه والذي قد ينحصر في فهم ودراسة الأعراض المرضية، فيقع في تحيزات معرفية في تفسير السلوك والأعراض نتيجة عمليات الانتباه التلقائي الانتقائي لما تعود على فحصه واستكشافه في "الإنسان" الذي يطلب المساعدة النفسية ولذلك ستجد هذه التحيزات في التفسير واضحة عند تفسير المختص ذو خلفية تحليلية عن السلوكية عن المعرفية للسلوك والأعراض، وإذا كنا نريد فصل الاضطراب عن الشخص في تعاملنا معه، فهذا يعني أننا عندما ننظر للمستفيد كونه "إنسانا" يحمل في طياته الاضطراب والصحة، فيمكن أن تكون تدخلاتنا أيضًا على هذا الأساس تنظر لتقييم جوانب الاضطراب والسواء. وبالتالي فلن يكون هناك اعتراف صريح من المختصين النفسيين بكون المريض لا يساوي المشكلة إلا بقياس الأداء الإيجابي مع الأداء المختل.
كذلك لم يعد مقنعًا الافتراض السائد بأن العلاقة بين الخبرات الوجدانية الإيجابية وبين الخبرات الوجدانية السلبية هي علاقة عكسية، أي لا يعني انخفاض التعاسة بالضرورة زيادة السعادة. وبالتالي فالعمل على تقليل التعاسة والاكتئاب لم يعد كافيًا بل العمل على تعزيز السعادة أيضا له أهميته، لأنهما عمليتان قد تحدثان بالتوازي، لكنهما لا تحدثان بالضرورة بالعكس. وهذا الافتراض هو أحد أبجديات علم النفس الإيجابي وافتراضاته التي قام عليها.
وعندما أعلنت منظمة الصحة العالمية WHO أن الصحة النفسية ليست الخلو من المرض أو التخلص من العجز وإنما هي حالة متكاملة على مستوى الجودة والأداء الإيجابي في النواحي الجسدية والعقلية والاجتماعية، فليس هدف المختص هو إدارة الأعراض فقط، وقد ظل ترديد هذا المفهوم الجديد فترات كثيرة دون أن يترتب عليه الكثير في البحث والممارسة الإكلينيكية، ولكن هذا المفهوم بدأ يتضح أكثر خلال الفترات الأخيرة في ظل بحوث علم النفس الإيجابي وتطبيقاته الإكلينيكية، وكذلك الطب النفسي الإيجابي Positive Psychiatry ويبدو أن هذه الفلسفة ستأخذ مساحة جديدة في البحث والنظرية والتدخلات، ولكن كالعادة قد لا يجد المختص النفسي في بيئتنا العربية أثرًا كبيرًا لهذا الطرح؛ لأن انتقال هذه الخبرات إلى بيئتنا العربية يأخذ مراحل زمنية من الإنكار إلى الرفض والاستخفاف والاستغراب ثم محاولة القبول النظري إلى البدء في تطبيقه بشكل مختزل أو غير دقيق حتى نصل لتلمس جهود إيجابية لبعض الرواد.
ولذلك يعد القياس النفسي الإيجابي مرتبطا بمفهوم الصحة النفسية الحديث، ويعد أحد المداخل المهمة التي أنجز فيها علماء النفس مؤخرا، حيث يقوم هذا النوع من القياس على تقييم نقاط القوة في العميل وما في بيئته من موارد ومصادر دعم ومساندات تمثل عوامل حماية وميسرات، وكذلك قياس نقاط الضعف لدى العميل وما في بيئته من مخاطر أو فقر موارد لتحقيق أهداف التدخل.
وإتقان المختص النفسي للتقييم والقياس الإيجابي يساعد على استكشاف جوانب القوة والنمو المحتملة في تجربة العميل وذلك من خلال الأدوات المناسبة مثل: مقياس القوى الإنسانية أو الرفاهية النفسية أو مقابلات اكتشاف وصنع المعنى ومعاينة خبرات التدفق، ومن خلال عمليات السرد المتمركز حول جوانب قوته بدلا من التركيز على جوانب ضعفه فقط. ولا يقف الأمر على قياس وتقييم السمات ولا مؤشرات الأداء الإيجابي بل هذا يرتبط بالعمليات الصحية التي تقف وراء العافية النفسية حيث يمكن دراستها وقياسها وتوظيفها وتحديد شروط تداخلها في عملية العلاج النفسي، ليكون العمل على تعطيل العمليات المختلة وظيفيا التي تحافظ على الاضطراب، وكذلك تنشيط العمليات الصحية التي تقف وراء التعافي.
كل هذا يدعونا إلى النظر في أهمية التخلي عن التأثر المتحيز بالنموذج الطبي والتعافي الإكلينيكي والانتقال إلى نموذج علم النفس الذي يخدم وظيفته في العلاج والوقاية والتنمية والارتقاء، وعندما يخدم في وظيفة كالعلاج فيؤدي دوره وفق أدواته وفلسفته وليس وفق فلسفة أخرى تحاصره في نظرته للإنسان وإمكاناته.
فالمعالج والاختصاصي النفسي كان يركز على قياس المشكلة ونقاط الضعف والعجز ويتقن إعداد قائمة المشكلات، لدى المستفيد من الخدمات النفسية أو العميل، وبالتالي تتمركز خطة العلاج على تعديل ومعالجة القصور وإدارة الأعراض، بينما القياس الإيجابي يتضمن الكشف عن عوامل القوة في العميل وبيئته التي يمكن أن تعزز العمليات الصحية للتعافي لتكون ضمن الخطة العلاجية التي تساعد في تسهيل الإرشاد والعلاج وحماية العميل من عوامل الضعف والخطورة.
إن التفكير في كيفية تقييم الأداء الإيجابي بل واستهدافه في ممارسات وبحوث علم النفس الإكلينيكي ليس ترفًا أو رفاهية علمية بقدر ما يبنى على ما تم تحديده من افتراضات تم التحقق منها تجريبيًا تشير لطبيعة العلاقة بين كل من الاضطرابات النفسية والتدخلات النفسية الإكلينيكية وبين الأداء الإيجابي، سواء على مستوى العلاقات الارتباطية أو التنبؤية أو على مستوى البحوث التجريبية، كذلك تقييم الأداء الإيجابي لن يفيد فقط في استهداف تحسين جودة الحياة وإنما سيكون جزءا من استهداف الأعراض المرضية وإدارتها، وكذلك يمكن التنبؤ عند انخفاض الأداء الإيجابي والرفاهية النفسية بالاستهداف والاستعداد للاضطراب النفسي.
وقد يتساءل البعض: ماذا بعد أن قمنا بقياس نقاط القوة والأداء الإيجابي؟ إن التطرق لجوانب القوة والأداء الإيجابي في حد ذاته يساهم في تصورنا للإنسان ويعزز العلاقة العلاجية ويساهم في كشف المستفيد عن المزيد من مشكلاته وتفاصيل شكواه بقليل من التحفظ والمقاومة، ويمكن أن يأتي القياس الإيجابي في الخطوات الأولى ويمكن أن يأتي في خطوات لاحقة أو متزامنة مع إدارة الأعراض، حسب النموذج وبروتوكول التدخل، فالآن توجد عدة صيغ ومداخل علاجية تقوم على بناء نقاط القوة وإدارة الأعراض المرضية من خلالها، فكما أخبر سليجمان ورفاقه (Seligman, Rashid & Parks, 2006) عن قدرتهم على علاج الاكتئاب الأساسي (المعتدل) بالعلاج النفسي الإيجابي الجمعي وعلاج الاكتئاب الأساسي (الشديد) بالعلاج النفسي الإيجابي الفردي المستند إلى نقاط القوة strength-based approach في 14 جلسة علاجية معيارية، وفي محاولة مختلفة تم دمج العلاج المعرفي السلوكي بنقاط القوة لبناء وتعزيز الصمود (Padesky & Moone, 2012). أي أن التقييم الإيجابي يمكن أن يكون مساعدًا في عملية التقييم وفهم الحالة ويمكن تضمينه في بعض الأهداف العلاجية فقط، ويمكن أن يكون هو أساس التدخل العلاجي على أساس افتراض أن الاضطراب يعني غياب استخدام القوة لدى الفرد.
من المعروف أن الاهتمام بجوانب الضعف في القياس والتدخل ربما يرجع لرغبة الناس في إصلاح الخطأ، لكن هل تلزمنا جوانب الضعف التي نقيسها بأداء محدد عند تقديم المساعدة؟ التشخيص والتقييم لا يحدد بالضرورة الأسلوب العلاجي المستخدم بدليل تعدد المداخل العلاجية لنفس الاضطراب. إذا كان الأمر كذلك فمن الممكن وفق افتراضات العلاج النفسي الإيجابي الاعتماد على مداخل تستند للقوى الإنسانية وهي فلسفة مغايرة تماما إن صحت وجهتها فستحدث تغييرًا جوهريًا في النظر للاضطراب وعلاجه.
ولذلك العمل وفقا لهذا التصور الجديد يترتب عليه عدة إجراءات منها أن أي تقرير تشخيصي للحالة وصياغتها لابد أن يتضمن عوامل العجز والمرض أو عوامل الخطورة بجانب عوامل الصحة والحماية والقدرة في المسترشد وبيئته. وذلك وفقًا لقانون ومبدأ طرحه كل من لوبيز وسنايدر (2003) "مساحة متساوية وزمن متساو وتأكيد متساو" أي نفس المساحة والزمن والتأكيد الذي تأخذه جوانب الضعف والمرض، لابد أن تأخذه جوانب القوة والصحة. ورغم أن هذا لا يوجهنا لطريقة علاج محددة أو أسلوب علاجي بعينه لأنها فلسفة عامة لا ترتبط بمداخل العلاج النفسي الإيجابي فقط لكنه سيكون محل مراعاة في فهم المختص للحالة وفهم الشخص المستفيد لنفسه ولها مترتبات في سياق العلاقة العلاجية وخطة التدخل ومحتواها.
المراجع:
- شين لوبيز، ك.ر.سنايدر ( 2013) القياس في علم النفس الإيجابي: نماذج ومقاييس.ترجمة صفاء يوسف الأعسر وميرفت شوقي ونادية محمود شريف وعزة خليل وعزيزة محمد السيد وهبة سري وأسامة أبو سريع ومنى الصواف، القاهرة: المركز القومي للترجمة.
- Seligman, M.E.P., Rashid, T., & Parks, A.C. (2006). Positive psychotherapy. American Psychologist, 61, 774–788.
- Padesky, C. A., & Mooney, K. A. (2012). Strengths based cognitive–behavioural therapy: A four step model to build resilience. Clinical psychology & psychotherapy, 19(4), 283-290.
واقرأ أيضًا:
نحو فهم للقلق المتعمم والتفاهم معه / الصدمة النفسية لدى الأطفال