جاءتني تبكي بكاءً حارا وتذرف دموعا ساخنة، بدأت بقولها: أبنائي سبب مشكلتي، لا أعرف ماذا فعلت معهم حتى يعاملوني بهذه الطريقة، لقد أفنيت عمري من أجلهم، إن أباهم ضابط شرطة، كان معظم الوقت ينتقل بين البلاد ولا يراهم إلا قليلا، وتحملت أنا كل أعبائهم، وحتى حين عاد واستقر معنا كان سلبيا لا يقوم بشيء، فأنا التي كنت أذهب للمدارس، وأنا التي أذاكر لهم دروسهم، وأنا التي أذهب معهم إلى النادي، وأنا التي أشتري لهم ملابسهم. كنت أفعل لهم كل شيء. ترى بعد كل هذا العناء الذي عشته معهم ماذا يكون جزائي؟!.
ضياع العمر
تمثل الجزاء الذي حصلت عليه في أن ابني الأكبر البالغ من العمر 21 عاما يرفع صوته عليّ، ويرد عليّ بصورة سخيفة، فضلا عن أنه رسب في دراسته الجامعية؛ لأنه مشغول على الدوام بالجلوس إلى الكمبيوتر، والدخول إلى المواقع الإباحية، وأخوه الأصغر -19 عاما- يفعل مثله، وزاد أنني وجدت في ملابسه قطعة من الحشيش، وعندما واجهته بها هز كتفيه بلا مبالاة، ولم أستطع أن أفعل معه شيئا، وحتى البنت ذات الـ12 عاما هي الأخرى تريد أن ترفع صوتها عليّ وتقول: لماذا هم يرفعون صوتهم ويفعلون ما يريدون؟ وهي دائمة اللوم لي؛ لأنني لا أستطيع مواجهتهم؛ وخاصة أنها تفتح الكمبيوتر، وتفاجأ بالصور الإباحية المخزنة على ذاكرته، وعندما أهددهم بأبيهم يقولون: أين بابا، إنه ليس له دور في حياتنا. والأب لا يتدخل، بل إنه بدأ في الانسحاب من حياتي كزوج أيضا، وطلب مني أن يستقل بغرفة نومه، وارتفع صوت بكائها.
وتابعت: إنني أشعر أنني أفقد كل شيء.. أولادي، وزوجي.. ماذا فعلت؟ ثم سكتت للحظة وعاودت الحديث بسؤال مفاجئ مؤداه: ماذا كانت تفعل أمهاتنا؟ ولماذا نجحت أمهاتنا وفشلنا نحن؟! كان هذا السؤال هو الأخطر فيما قالته هذه الأم المكلومة في أولادها، وكانت الإجابة هي السبب في كتابة هذا المقال؛ لأنها نبهتني إلى ظاهرة خطيرة بدأت تستشري وسط الأمهات، وسببت وتسببت بكوارث مدمرة على الأسرة، أكاد أراها وأرصدها كل يوم مع كل مشكلة تتعلق بالأبناء، ولكن جاء هذا التساؤل المباشر من هذه الأم ليجعلني أسجلها حتى ينتبه الجميع.
أمهات الماضي
في بساطة وإيجاز وحسم قلت لهذه السيدة: هل تعرفين الفرق بينك وبين أمك؟ أو بين كل الأمهات الجديدات وبين أمهاتنا؟
ومضيت قائلا: إن آباءنا كانوا أيضا لا يقضون معنا إلا أوقاتا قصيرة بحكم ضغوط العمل، أو ظروف المعيشة، وكانت أمهاتنا يقمن بكل الأدوار التي تقمن بها الآن معشر الأمهات الجديدات، تقومون بها بيسر وسهولة، أما أمهاتنا فلم يكن لديهن غسالة فل أتوماتيك، أو مكنسة كهربائية، ولم يكن يعرفن خدمة "توصيل الطلبات إلى المنازل" أو المدرسين الخصوصيين في كل المواد، أو أتوبيس المدرسة.
وبعد عودتنا من المدارس نجدها قد جهزت الطعام على أحسن ما يكون؛ ليجلس الجميع على المائدة، وليكون أول ما تذكره هي أن تدعو الأب للطعام، معلنة له أنه يشقى ويتعب من أجلنا، وأننا نأكل من خيره، ويبتسم الأب.
وتذكير الأم لنا بأن الأب يشقى ويتعب يرسخ بداخلنا مع كل لقمة نأكلها رسالة مؤداها "أن لأبينا دورا كبيرا في حياتنا"، وهكذا تزرع الرسالة في الحمض الأميني في جيناتنا، فأبونا هو الحاضر الغائب، فهو الحاضر بتذكير أمنا دائما بتعبه من أجلنا وهو الحاضر؛ لأن أحد الدوافع المهمة للنجاح هو إرضاء أبينا؛ ولذا فإن إغضاب الأب يصبح جريمة لا تغتفر، ويصبح إبلاغ الأب بأحد الأخطاء هو أشد العقوبات التي تقع على أحدنا.
وكانت النتيجة الطبيعية لكل ما سبق أن الأم عندما تحتاج الأب وقتما يصعب عليها حل مشكلة يكون وجوده طبيعيا، ويكون إذعان الأبناء لحضوره منطقيا. والأب نفسه كان بمجهود قليل منه تراه حاضرا في حياة أبنائه خلال الساعات القليلة التي يقضيها معهم، تجده يشع الدفء والحنان والطمأنينة؛ لأن الأرض مهيأة لحضوره من خلال زوجة وأم تفهم دورها في تكامل علاقتها مع زوجها وأبي أبنائها.
الأمهات الجديدات
وواصلت حديثي لهذه الأم المكلومة قائلا: أما أمهاتنا الجديدات اللائي تنتمين إليهن يا سيدتي فيستمتعن بتغييب الأب؛ انطلاقا من ثقافة الندية في العلاقة بين الزوج والزوجة؛ وبالتالي ترى الزوجة أنها تعمل مثلما الزوج يعمل، أو يمكن أن تعمل أو يمكن أن تأتي بدخل، وبالتالي فعلى الزوج أن يقوم معها بمهامها.
ورغبة في الظهور بمظهر البطولة -التي غالبا ما تكون في غير محلها- تظل الزوجة في الشكوى من زوجها، والأطفال يسمعون كيف أنها تقوم بكل شيء، وكيف أن أباهم لا يفعل أي شيء، غير أنه يأتي ليأكل وينام، والأطفال يصدقون، فهم لا يتخيلون أن هذه المعيشة الصعبة التي تشكو الأم فيها من قيادتها لسيارتها طول النهار لتوصيل الأولاد للمدرسة والنادي، إنما هي نتاج تعب هذا الأب لكي يوفر لهم هذه الحياة.
إن أمهاتنا الجديدات لا يرين إلا ما يفعلنه هن، إنهن يتعبن جدا في إنفاق المال على الأولاد، وتحقيق طلباتهم، أما هذا الذي يتعب من أجل توفير متطلباتهم فهو لا يفعل شيئا إلا أن ينام ويأكل فقط. وتجلس الأمهات مع بعضهن متباهيات بتغييبهن للآباء، وتشكين مما يبذلنه من جهود، ومن أجل تأكيد ذلك يبالغن فيما يفعلنه من أجل أولادهن؛ فيتحملن عنهم كل مسؤولية، ويغدقن عليهم في كل شيء، فهن يردن أن يحكمن الحلقة عليهم فلا يرون إلا أمهاتهم، وهن بصنيعهن هذا لا يعلمن أنهم يزرعن الأنانية، وعدم تحمل المسؤولية، واللامبالاة، والرغبة في الحصول على كل شيء بيسر وسهولة في نفوس الأبناء.
والآباء يرون ذلك ويسمعون الاتهامات يوميا، ويتخيلون فعليا أنهم مقصرون في حق زوجاتهم وأولادهم، فيؤثرون الصمت على ما يحدث، وبعد قليل ينسحبون حيث يصدقون أنهم بالفعل ليس لهم دور، وعندما يكبر الأبناء، وتبدأ المراهقة وتشعر الأم بحاجتها إلى الأب، فتستدعيه في نفوس الأبناء يهزون أكتافهم مستهزئين: أي أب هذا، أهذا الذي لا يفعل شيئا إلا أن يأكل وينام ولا يهتم بنا، وعندما تستدعي الأب تجده قد انسحب؛ لأنه في الحقيقة يعلم أنه لا وجود له في نفوس أبنائه فقد ألغته الأم، وهي لا تعلم أنها ستحتاجه في يوم من الأيام، ويتمرد الأبناء على أم قد ربتهم على الأنانية، وعدم تحمل المسؤولية، ولا يجدون أحدا يحترمونه، فالأمهات وهن يشوهن صورة الآباء لا يدركن أنهن يشوهن منظومة "الوالدية" بأكملها فتنسحب الصورة عليهن، ويرفضهن الأبناء كما يرفضون آباءهم، وعندها تأتي الأم لتشكو، وتذرف دموع التماسيح، فهي تجني حصاد ما زرعته يدها، وهي تعلم أولا تعلم.
* نشر هذا المقال من قبل على صفحة معا نربي أبنائنا لموقع إسلام أونلاين.... ونعيد نشره إحياء لذكرى المستشار رحمه الله.
واقرأ أيضاً:
التربية الجنسية للمراهقين (1-2) / الكهرباء........علاج.......أم تعذيب