انتشرت طوال السنين الماضية خطابات الحث على التفكير وإعمال العقل والتثقيف متخذة أحيانا نبرة لوم وتعالى على الآخرين الجهلاء وأحيانا نبرة استفاقية نهضوية ولم تنتشر بالتوازي خطابات تحث على الفاعلية أو الإيجابية بل يمكننا القول أنها خفتت حيث كانت منتشرة بالفعل في فترات سابقة على الحالة الانتكاسية الحالية للشعوب العربية. في ظل تلك الحالة كثيرا ما نسمع لوم للإنسان الذي يعيش بدون اعمال عقله ولكننا نادرا ما نسمع أي حديث عن الإنسان الذي يعيش بدون إعمال فعله، إلا في سياقات لها علاقة بإنشاء عمل خاص ربما، بل إن حالة المظلومية واتخاذ الجراحات النفسية منازل يُسكن فيها الفرد أصبحت من الأمور التي يُروج لها على نطاق واسع.
يمكن استبدال الفقرة السابقة بالفقرة التااية كمقدمة أبسط
"ما الذي يمكن أن يحدث إذا عاش الإنسان حياته بدون تفكير؟" لكثرة ما نسمعه من الحث على التفكير والقراءة يمكننا بسهولة الإجابة على ذلك السؤال خاصة ونحن بالفعل نعيش الإجابة التي سنسردها. لكن ما الذي يمكن أن يحدث إذا عاش الإنسان حياته بدون "فعل"؟، هنا ربما سنجيب بإجابات مختلفة ولكننا غالبا ما سنتوقف قليلا لإعادة النظر في السؤال نفسه على العكس مما سنفعله في الإجابة على السؤال الأول.
نشعر وندرك دائما حجم العجز الذي نحمله معنا أينما ذهبنا، فكل ما حولنا ينبأنا بعجزنا عن أن نكون أصحاب قرارات حقيقية في مصائرنا سواء كأفراد أو كمجتمعات عربية وجنوبية، بل ربما يسري ذلك على جميع المجتمعات في العالم الحالي بمعنى ما. نعتبر ذلك العجز مُسلمة ننطلق بها في حيواتنا، مُسلمة -فوق واقعية- تقبع هناك في خلفية كل ما نشاهده من مقاطع قصيرة تثير لدينا بعض الدوبامين مؤقتا لنلوم أنفسنا بعدها على تضيعنا لأوقاتنا الثمينة في أشياء لا طائل منها، بينما ندرك جيدا -وبشكل لا واعي ربما- أننا لا يمكننا فعل أي شيء آخر ذو جدوى حقيقية خلال تلك الأوقات وأن أي فعل أو "استثمار" لتلك الأوقات خارج المسارات المُصممة مسبقا سيضيع سدى في صحراء عالم لا يستجيب لأفعالنا سوى بمزيد من التأكيد على عجزنا.
من الطبيعي ألا تعمل هرمونات أدمغتنا وأجسادنا ف الفراغ بل في إطار التفاعل مع العالم الخارجي في الحياة التي نصنعها لأنفسنا في إطار آخر أكبر وهو التفاعل مع الآخرين والعالم من حولنا. بالتالي فكل تفاعل بيننا وبين العالم يقابله تحفيز بدواخلنا يدفعنا هو الآخر لنوع ما من التفاعل في عملية دائمة من التلاقح. ولكن ماذا إن كنا بصدد عالم مُصمم على ألا يستجيب لأي من أفعالنا؟ ما الذي سيحدث حينما يتوقف ذلك التلاقح بيننا وبين العالم؟
ما سيحدث هو بدء متتالية أخرى من الكبت. الكثير من الضمور في ناحية والكثير من التضخم في ناحية أخرى، الكثير من الصمت حينا والكثير من الضجيج حينا آخر، فبدلا من أن تكون إفرازات الدوبامين في أدمغتنا تعمل بمقادير تتماشى مع تفاعلاتنا مع الواقع وتحفزنا عليها، سنُغرق أنفسنا في كميات هائلة من المُحفزات -الغير واقعية- للدوبامين مقابل علاقة سالبة تماما مع الواقع.
هذا بالضبط ما حدث في مجال العلاقة بين الخطابات الفكرية وفاعليتنا في الواقع. طنين لا يتوقف عن تحليل علاقات السلطة والاقتصاد والدين والفن والسياسة الدولية والمحلية بالاستعانة بآخر صيحات الفكر في العلوم المختلفة، مع عجز تام الفاعلية في الواقع. وكلما توغلنا في استهلاك تلك الخطابات زادت الفجوة بيننا وبين الواقع، حتى صار المرء يتحدث في العلاقات الدولية بكل حماس بينما يعجز عن إقامة جسر للتواصل بينه وبين زميله في العمل أوجاره أو حتى أقرب المقربين له داخل نفس البيت.
مع انعدام التلاقح بين خطاباتنا التي نتبناها وبين أفعالنا اليومية تضخمت تلك الخطابات بعدما لم تجد من التجربة العملية ما يهذبها ويحققها واقعيا، مُوجهاً إياها نحو أهداف مثمرة، وعلى مستوى الفعل لم نزدد إلا عجزا عن التعامل مع كل ما يؤرق معيشتنا وصارت مشاكلنا مواضيع للعرض في سوق الخطابات، يُلبسها كل منا ما يحلو له من الكلمات بدون أي معايير واقعية وبدلا من أن تُعيننا الخطابات الفكرية على فهم واقعنا صارت هي نفسها عائقا امام ذلك الفهم.
باختصار، لقد صرنا مرضى بالخطاب، او بالأحرى أسرى له، وبعدما لجأنا للخطاب للتعلق بأمل في الفهم والنجاة صرنا نستهلكها كما الوجبات السريعة وبدلا من ان نركبها للوصول إلى وجهتنا صارت خطاباتنا هي المتحكمة في فاعليتنا، وكالعاة صار للفكر نجومه الذين نمنحهم تأييدنا وإعجابنا على الشبكة كي يفكروا بالنيابة عنا، بالضبط كما يمنح بعضنا تأييدهم وإعجابهم لنجوم السينما والدراما كي يعيشوا بالنيابة عنهم.
بالأخذ في الاعتبار إغلاق معظم مجالات التفاعل الإنساني الاجتماعي بين الناس فإن المجال الوحيد المفتوح نسبيا حاليا هو منصات وادي السيليكون وهي ليست فقط قامعة للتعبير حينما يتعلق الأمر بقضايا معينة، بل هي أيضا منصات نشأت ضمن سياق مُعادي لكل ما هو اجتماعي إنساني وبالتالي فأن يحصر مؤيدوا خطابات العدل والتحرر أنفسهم داخلها فهم وكأنهم يحبسون أنفسهم مرتين، أولا داخل الصناديق المغلقة لخطاباتهم، ثم ثانيا بوضعهم تلك الصناديق داخل صناديق منصات وادي السيليكون والتي لم يعد فك شفرات خوارزميتها والتحكم بها صعبا بالعكس صارت تلك المنصات هل الأفضل لدى كل من لديه التمويل اللازم لتوجيه الحشود ومن ثم أصبحت ساحات ضجيج تذيب أي حراك حقيقي وتشوش عليه.
من يفعل هو من يؤطر
منذ بدء عملية المقاومة الأخيرة وما تلاها من عدوان على غزة والأصوات تتصاعد بضرورة خوض المعركة الإعلامية ضد البروباجندا الصهيونية/الأطلسية بل وقد تفجر الغضب ضد المشاهير الذين لم يدلو بدلوهم في هذا المقام وتحول انتباه الجميع إلى تفاصيل تلك الحرب الإعلامية وصار من المطلوب دائما تصدير السردية العربية للعالم الغربي المُغرق بالفعل بالدعاية الأطلسية/الصهيونية وهي معركة من الأهمية بمكان ولطالما تفوق فيها الصهاينة ودعمهم ذلك التفوق في حروبهم على الأرض وبالفعل كانت ردة الفعل العربية هذه المرة مؤثرة إعلاميا وقد اهتزت الرواية الصهيونية/الأطلسية بفعل حجم التفاعل العالمي هذه المرة أكثر من سابقاتها، ومع ذلك لا يوجد دليل كاف حتى الآن أن ذلك الاهتزاز قد كان سببه الرئيسي ردة الفعل العربية على منصات وادي السيليكون وإن كانت بالطبع ستكون ضمن الأسباب المتعددة التي تتاثر بها الأحداث الكبيرة مثل الحروب. لم يُدرس الأمر بالقدر الكافي بعد نظرا للأحداث والتفاصيل الكثيرة المتوالية في غمار الحرب، ولكن هل سيُدرس الأمر بالقدر الكافي بعد ان تضع الحرب أوزارها أم سنكتفي بترك أنفسنا للتيار؟
في ظني أن الضربة الموجعة للسردية الأطلسية/الصهيونية لم تأت بشكل أساسي من قبل حملات التوعية على منصات السيليكون وإنما أتت كعامل مٌضاعف للضربة العسكرية على الأرض، حيث أن اهتراء الجيوش والحكومات يتسبب بالضرورة في اهتراء سردياتها. كما ان بروز وصعود المقهورين من خانة رد الفعل إلى خانة الفعل المؤثر يتسبب بالضرورة في بروز وصعود سردياتهم وهي الفكرة التي طرحها فرانز فانون من أن المقهور لا يبدأ في الوجود كإنسان إلا في اللحظة التي يبدأ فيها في مقاومة قاهره. بالطبع لا يعني ذلك ان كل المجهود الإعلامي ليس له تأثير مباشر في إحداث ذلك التغير النسبي في وجهات النظر الشعبية ولكن ما أعنيه هنا هو أن الضربة العسكرية وبتصديعها لتماسك العدو قد مهدت الطريق للتوعية الإعلامية. خاصة عند ملاحظة ان كل تلك المجهودات "التوعوية" لم تختلف كثيرا عن سابقاتها إلا من حيث الكم لا الكيف.
ستظل تلك أطروحة مطلوب تفنيدها بالطبع وإنما أوردتها هنا كمثال على التفاعل بين الفكر والفعل، بين اليد واللسان وأن عمل أحدهما بدون الاعتماد على الآخر، ومعرفة حدود ومجالات عمل كل منهما بالتوازي أو توهم امكانية الفصل بينهما هو مشروع لتحويل كلاهما إلى التشوه ما بين التضخم والضمور، وأخشى ان الأمور على الناحية الخطابية تتجه إلى ذلك حيث يمكن للخطاب الإعلامي المناصر لفلسطين أن يتحول إلى عبء على ذاته وعلى فلسطين أكثر مما يساعد، خاصة مع عمله ضمن سياقات منصات السيليكون وغيرها وانفصاله عن التفاعل الحقيقي مع واقعه المُعاش بشكل مباشر من قبل مؤيدي ذلك الخطاب وبالتالي تحويله إلى مجرد ترند آخر يمكن لكل من يريد أن يستثمره كيفما شاء كما يمكن للعدو الأطلسي بآلته الإعلامية الجبارة أن يستثمره لصالحه بعد أن يمتص الضربة الأولى وبعد أن استوعب أن الجميع هنا متحفزون لنقل وجهة نظرهم إلى الخارج وهو ما يمكن أن يؤطر ضمن عملية إعلامية سجالية تجعلنا مشغولون على الدوام بمحاولات الظهور الإعلامي والرد على كل شاردة وواردة وهو ما سيكون -إن حدث- بمثابة نصر تكتيكي كبير للعدو يكون قد استطاع من خلاله تحويل هزيمته المفاجئة إلى انتصار جديد يحصر فيه حركة خصومه ويقوضها عن النمو أكثر من ذلك ثم يوجهها حيثما لا تثمر، ومثلما تعلمت كل قوى القهر في العالم الدرس في كيفية محاربة الخطابات التحررية وتقويضها من داخلها سيتعلم الصهاينة نفس الدرس ويقومون بهندسة خطابات مُعادية لهم تستوعب كل من يعاديهم ليستهلكها مُفرغا غضبه بها قبل أن يلتفت إلى خطاب أو "ترند" آخر يُلقى إليه، وهو ما دث بالفعل على صعيد السجالات السياسية الاجتماعية التي غزت منصات السيليكون في السنوات الأخيرة.
نحتاج إلى الفكر اليقظ والاستراتيجي بجانب الفعل الراسخ اجتماعيا وأن نتعلم أن المقاومة ليست فقط فعلا عسكريا أو سياسيا يشتعل بشكل مفاجئ وإنما هي فعل يومي يمكن ممارسته كأسلوب حياة وأن ما نطالب به من عدل وتحرر في مكان بعيد يجب أن يكون له صدى في رسم خريطة تفاعلاتنا الاجتماعية والاقتصادية وأن مقاطعة منتج ما كي نوقف مد شركة متصهينة بالمال يمكن أن يكون فرصة لإعادة النظر في أنماطنا الاستهلاكية والشرائية وأن ذلك بدوره يمكن أن ينعكس على مقاومتنا المباشرة من خلال حمايتنا لظهرها في مواقعنا. نحتاج إلى خطابات حية تعيننا على النمو في حياتنا النفسية والاجتماعية وليس مجرد خطابات استهلاكية تُعمينا عن الفرص المتاحة للتفاعل مع الواقع وهي الفرص العزيزة بالفعل، نحتاج إلى خطابات مشغولة بالبحث الحثيث عن تلك الفرص وليس مزيد من التشويش عليها، فكما ان فكرة أوكلمة يمكنها أن تُبين خفيا، يمكن أيضا لفكرة أو كلمة أن تُخفي ظاهرا.