" إذا ما عكست المرآة قبح وجهك أصلح وجهك لا تكسر المرآة"، [سعدي الشيرازي (شاعر إيراني)]:
ما بين إلغاء (سنة سادسة ابتدائي) وعودتها واختلاف المناهج وتعديلها، إلى الجامعات الخاصة، المعاهد الجديدة، التعليم من على بعد، إلى كل تلك الكثافة اللا معقولة من دكاكين الشهادات الخاصة التي تعلن عن نفسها على كل ناصية وفي كل شارع في الصحف اليومية وفي الإذاعة والتليفزيون، أصبح التعليم في مصر، في محنة، أزمة متفاقمة تكاد تصيب مثلثاً متساو الأضلاع: المدرس، الطالب والأهل، المدرس موظف في الدولة:
من المفروض أن ترعاه، تهتم تستثمر فيه وتعطيه مرتباً محترماً لا يجعله ينظر هنا أو هناك فلا يعطي دروساً خصوصية ويخلص في دروسه (الحكومية) ويحس بمكانته التي كادت تضيع أو علّها ضاعت بالفعل وسط مجتمع الضابط والدكتور ورجل الأعمال والراقصة والسياسي والطبال أيضاً، أما الطالب فهو أشبه بذلك الشيء المضغوط ليس بين فكيّ رحى والالتزام والانتظام، وحتى بعد أن يتفوق لا يتمكن من دخول الكلية التي يريدها لم تشهد مصر إحباطاً في مجال العلم والتعليم مثلما شهدت هذا العام (2004) ببساطة لأن مجموع (90%) لم يعد مؤهلاً لدخول ما يسمّى (بكليات القمة) (يشير تقرير لجنة السياسات في الحزب الوطني الديمقراطي سنة 2003 إلى أن نصيب الطالب المصري في العام الدراسي الواحد لا يزيد على130 دولار أمريكياً بينما يبلغ في السعودية 1337دولارا ًوفي الولايات المتحدة الأمريكية 4763).
ثم نأتي إلى الأهل الذين سخروا كل مواردهم وطاقاتهم النفسية لأولاهم وتمنوا لهم تعليماً محترفاً، فحرموا أنفسهم من الكثير وأجهدوا نفسياً وبدنياً مالياً واجتماعياً، لكن كثيراً لا تأتي الرياح بما تشتهي السفن.
سنركز في هذا الجزء على المدرس المصري، وهو مثل الكثيرين يعول أسرة ويحتاج إلى موارد تجعله يأكل (كويس) ويذهب إلى الطبيب ويبرّ بوالديه ويجهز بيته ويدفع فواتير الكهرباء والغاز، وعلى الرغم من أنه المعلم الذي قيل فيه بيت الشعر:" قم للمعلم وفِّهِ التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولاً "
لكن وليس فقط على طريقة مدرسة المشاغبين أصبح المدرس هدفاً لتلاميذه الذين أصابهم فيروس العنف وتحدي السلطة المدرسية فنجد في قنا تلك المدينة التي صارت نظيفة ورائعة المدرس محمد أحمد بدوي يشرح درساً في اللغة الإنجليزية ففوجيء بالطالب محمود عبد الحميد يخرج من الحصة فقام بتعنيفه، فوجيء المدرس بالطالب ينهال عليه بسيل من الشتائم عندئذ قام زملاؤه بضرب المدرس علقة ساخنة بالعصا، أنقذ باقي المدرسين زميلهم وقبضت النيابة على الطلاب الثلاثة(؟!!).
يتعرض المدرس للقهر ويمارسه هو على الآخرين في ذلك الهرم الوظيفي مما يحدونا إلى أن نصطلح تعبير (تدوير القهر) أي أن كل منا يقهر الآخر فيخرج غضبه وكبته حنقه وغيظه ويصب ما في غضبه على الآخرين:
فالمدرس مثلاً مقهور من زوجته وأولاده، الكل يطالب بالمزيد وهو بشكل أو بآخر يقهر تلاميذه ويغشهم ويدخل في لعبة الدروس الخصوصية، والمدرس الأول يقهر العادي والمفتش يقهر المدرس والموجه يقهر الجميع والتلميذ يرد الصاع صاعين ويحاول قهر المدرس بإهانته وقهر أبيه بتحديه وعدم المذاكرة و(الصياعة) مع كل من هب ودب بل ويسلك طريق التعاطي والإدمان. المدرس جزء لا يتجزأ من المجتمع يتأثر بالخلل القائم بين الأجور الحقيقية خلال السنوات الخمس عشر الأخيرة، فنجد أن كان (59%) بالقطاع الحكومي في الفترة ما بين عامي (1986ـ 1991)، أصبح بالسالب (ناقص1%) في الفترة ما بين (1997ـ 1998) ثم (ناقص 23%) في (1998ـ1999).
[د. هبة نصار ـ المصور ـ 13/ 1/ 2004]
هنا تأتي أزمة استفحال الدروس الخصوصية التي تستنزف الأسرة المصرية وكما تحدثنا سابقاً عن تدوير القهر وإعادة إنتاج وتصديره فالمسألة هنا أيضاً فيها تدوير وتغرير، الكل يضغط على الكل والكل يمتص الكل، والكل يخاف على الكل، والجميع قابعون متهيئون لاقتناص الفرصة للانقضاض على أي شيء وكل شيء وإلاّ كيف نفسر أن دخل الفرد المتوسط (200 جنيه) شهرياً وهو على الأقل يصرف (500 جنيه) والذي يصل دخله إلى ألف جنيه ينفق ثلاثة آلاف جنيه (الأهرام ـ 26/ 10/ 2002).
والمدرس وسط خضم كل هذا لا يتمكن من الإبداع، ويحترق وظيفياً، أو يتكلس ويخشن جلده ويصير سميطاً أو يحبط أو يتوحش في ظل إطلاق الدولة ليد القطاع الخاص في التعليم من الحضانة إلى الجامعة فأصبحت تكلفة الدروس الخصوصية(12مليار جنيه في 2002 زادت إلى15 مليار جنية في 2003).
(الأهرام الاقتصادي 22/ 9/ 2003).
مما أدى إلى خفض معدل النمو المتوقع وانكماش الدخل المتاح للتصرف(تقرير لجنة الشئون المالية والاقتصادية بمجلس الشورى) ظهرت بالطبع في إطار هذا بعض الحلول التلفيقية والتصالحية والتحايلية بل وأحياناً الجادة لكنها فردية أحادية مثل مجازاة (24 مدرساً) بمدرسة أبو كبير الثانوية بخصم شهر من مرتب كل مدرس وتوجيه اللوم لمديريهم بعد أن قاموا بإعطاء دروس خصوصية .
ولقد أكدت المحكمة في حيثيات كلها أن الدروس الخصوصية للطلاب مقابل أجر خارج المؤسسة التعليمية وبعيداً عن إشراف الدولة أصبحت خطراً اجتماعياً يعوق خطط الدولة(... ) ومتطلبات المجتمع في التحديث والتطوير المستمر للتعليم(؟) كما أشارت المحكمة إلى أن الدروس الخصوصية تعمق معاناة الأسرة المصرية وتحملها أعباءاً إضافية لا طاقة لها بها في سبيل توفير فرص متكافئة لأبنائهم في التعليم للحصول على أرفع الشهادات العلمية.
(الوفد ـ 18 مارس 2004)
كل هذا التناقض في الأماني والتصريحات والآمال الكاذبة يصيب الناس بالإحباط والضيق والتوتر وفقدان الأمل، فهناك من يرى أن سوق الدروس الخصوصية(سوق موازية) في حين أنها بالفعل(سوق سوداء) استشرت بين ملايين الطلاب من الروضة وحتى الجامعة، كما أصبح الدرس الخصوصي هو أصلاً الدرس الذي بيلقيه المدرس على طالب خارج الجدول المحدد في خطة الدراسة أياً كان المكان الذي يُلقي فيه هذا الدرس، سواء كان نظير أجر يتفق عليه أم كان معونة يقدمها المعلم للتلميذ بدون مقابل؛
علمياً بأن ظاهرة الدروس الخصوصية ليست بظاهرة جديدة على المصريين لكنها استفحلت واتسع نطاقها وأصبحت مثاراً لإرهاق نفسي مادي وتوتر اجتماعي شديد، وفي خضم كل هذا يقع وذويه، المدرس، والمؤسسة التعليمية في مثلث الرعب فنجد نظام المفاضلة بالدرجات(نظام عقيم لا يعتمد على اختبار القدرات، الشخصية والموهبة الحقيقية للطالب)، ونجد نظام الحفظ الصّم(نظام الببغاء الذي يعتمد على ذكاء القرود في المحاكاة)، ونجد شوق الناس المطحونة في الترقي الاجتماعي عن طريق الاستثمار في أولادهم بالتحاقهم فيما يُسمى ب (كليات القمة).
يقف المدرس وسط كل ذلك وحيداً، مشتتاً، براتب لا يكفيه هو وأسرته وأولاده (الذي يضطر أيضاً لإعطائهم دروساً خصوصية عند الآخرين)، بين كل هذا وحوله ينتشر الغش والغش الإجباري والجغرافي والطلابي والتطوعي، الغش الوزاري والمأجور، كما يوضح المستشار عدلي حسين (محافظ القليوبية) أن من بين عوامل عدم إظهار النتائج الحقيقية للمدارس هو الغش الفاضح والجارح والعام، بجانب أن نظم الامتحانات الحالية تشجع على اللجوء إلى الدروس الخصوصية.
تبقى مشكلة تكدس وازدحام الفصول وحال الأبنية التعليمية الذي أصبح يرثي له، وزير التربية والتعليم الجديد د. أحمد جمال الدين يقول أن(30%) من فصول مصر الدراسية يزيد عدد الطلاب فيها على(70 طالباً) يزيد الطين بلّة المناهج المبتعدة عن روح العصر. تدني الذوق العام والأخلاقيات فأصبحت فصول الدرس مرتعاً للمخدرات وللأفعال المنافية للأخلاق، كما أصبحت دورات مياه بعض المدارس الإعدادية والثانوية الإعدادية والثانوية، الصبيان والنبات كالمواخير يمارس فيها الشذوذ والسرقة والانتهاك النفسي والجسدي المستمر دون رقابة من مدرسين غائبين أو مغيبين.
أصبح المدرس بين تاجر الشنطة يبيع الوهم والأسئلة والإجابات، وأصبحت الدروس الخصوصية له وللطالب إدماناً يعصى على المدمن تركه، أصبحنا زي ملصقات قرب أبواب المدارس وعلى واجهات أكشاك السجائر في المكتبات والمطاعم والأسواق العامة، ووصل الأمر إلى مداه بأن كتبت المدرسة على سبورة الدرس رقم الموبايل الخاص بها بطول وعرض السبورة، لا درس ولا تاريخ ولا بسم الله الرحمن الرحيم (جابت من الآخر) هذا هو رقم محمولي، اطلبوني وادفعوا وحددوا المادة، أكون عبدة لكم، ولأحدهم تعبير قاسي يشبه فيه الظاهرة ب (إيدز التعليم).
أم عن المدرسين المعارين للدول العربية والذين ساهموا على مدى الأجيال في عملية التعليم في اليمن، دول الخليج ليبيا والجزائر. يعانون من اضطرابات اجتماعية وشخصية تتعلق بالمكان والزمان، صار المدرس المصري يخاف من زميله المصري، يحاربه ويوقع به، يتغذى به قبل أن يتعشى به، بجانب سوء المعاملة من قبل بعض وزارات التعليم العربية فيما يخص التعاقدات الداخلية واستحلاب الأهل وفّد فترة الإعارة ولا يمكن هنا إلاّ أن نورد قصة المدرس المصري في اليمن الذي كان يقتات على الكفاف، ولا ينزل مصر في إجازته، حتى (يحوس) ويحقق أحلامه وبعد أربع سنوات وجد ميتاً دونما مَرَض (مات كمداً)..
*المدرس المصري عرضة أكثر من غيره لعملية الاحتراق الوظيفي (BURNOUT)، فمن يتخيل أن ذلك المدرس (منعم) بما يجنيه من مال مخطئ فهو ضحية النظام التعليمي وإغراء الدروس الخصوصية مما يسلبه خصوصيته ووقته، فهناك من يعمل(16 ساعة) متواصلة مع الطلاب فرادى ومجموعات وغالباً ما يتم ذلك في ساحة بيته فينتهي به الأمر بكل أعراض التوتر والقلق والإجهاد العصبي (جسدياً، نفسياً)، ينال منه ويتعبه فينعكس ذلك على سلوكياته وطريقته في التعامل مع الآخرين نجده متبرماً (خلقه ضيق) فاقداً لمتعة التدريس وكما يشكو البعض من آثار خاصة جداً به ويتحول المدرس إلى شكل مشّوه يفتقر إلى (الطاقة، المتعة، الحماس، الإشباع، الحافز، الاهتمام، الحلم، الفكرة، التركيز، اللهو، الثقة بالنفس، وروح الدعابة).
وينتهي به الأمر إلى حساب في البنك، بيت مؤثث ونفس عجوزة تسرب إليها الملك ولم يعد يسعدها شيء ونجده ـ افتراضياً ـ في إحدى دروسه الخصوصية جداً مع مجموعة مختارة جداً تدفع (كويس جداً) يسأل الطلاب عن الطائر الذي يتكلم وأول حرف فيه(ب) فيرد أحدهم: الببغاء يا أستاذ، يبتسم المدرس في سعادة زائفة سائلاً الطالب: أبوك بيشتغل إيه يا حبيبي؟ فيرد الولد: دكتور يا مستر. يعقب المدرس في غبطة الغيرة:
شايفين، شايفين ولاد الدكاترة ثم يسأل عن حيوان بطئ أول حرف فيه (س) فيرد طالب آخر بسرعة: سلحفاة يا أستاذ، ينشرح صدر المدرس، يطري على الولد ويسأله: أبوك بيشتغل إيه؟ فيرد الولد: ـ مهندس يا أستاذ، فيعقب المدرس في تملق ـ شفتم ولاد المهندسين عباقرة إزاي؟، بعدها يسأل المدرس عن طائر له جناحين فيرد ولد تظهر عليه آثار النوم: تمساح.. تمساح يا أستاذ، يخرج المدرس عن طوره ويصيح شفتوا.. شفتوا.. الغباء المتأصل؟! أنت أبوك بيشتغل إيه يا ولد؟ فيرد الولد بسرعة ذاكراً وظيفة مسئول كبير قوي في البلد، عندئذ يضحك المدرس متراقصاً بعصاه قائلاً في كلمات شبه مغناه:
ـ والله.. يا حبيب هو التمساح لو يشدّ حيله شوية هيطير..
وتطير معنا ومع المدرس والطالب وذويه، ومع المؤسسة التعليمية أحلام اليقظة الوردية، لنبحث عن مجرد حلّ. عموماً تصورنا لبعض الحلول العملية يحتاج إلى دراسة مستقلة.
القاهرة
22/ 8/ 2004
واقرأ أيضا:
صحتنا النفسية في تفاعلها مع البيئة نظرة إلى الواقع / المصريون وبانوراما النفس والجسد