أحوال المصريين ما بين الوجع وانخفاض الوعي الصحي
يتوجع المصريون، تكاد تتمحور حياتهم حول الصحة والمرض، الدواء ومواعيده، الدكتور وروشتاته، أحياناً ما ينتظمون جداً في علاجهم، يراعون التعليمات الطبية بحذافيرها، لكنهم ـ فجأة ـ يعصونها ذلك وكأنهم يرغبون في البقاء مرضى أو لأنهم (زهقوا خلاص)، (والروح دي بإيد خالقها، هوّ حَدّ هياخد عمر غيره، الحمد لله، قضا أخف من قضا..) إلى آخر تلك القائمة المبررة والمريحة نفسياً في ظل أمراض مزمنة مثل السكر والضغط (عادة ما يكون الاثنان معاً) والالتهاب الكبدي الوبائي المعروف بفيروس أو غيرهم، مثلاً ـ ودون مقدماتـ نجد مريض السكر يندفع إلى زجاجة (مياه غازية) يضعها على فمه ولا ينزلها إلا وهي(فاضية) أو يلتهم في غفلة من المراقبين (طبق بسبوسة صغير لا يزيد عن حجم الكف ـ يعني هو هيعمل إيه..).
ومريض القلب الذي يختلس الزمان والمكان ليدخن سيجارة، ينفثها في الهواء سعيداً وكأنه ينفث غضبه وألمه، وكأنهم كلهم يتوجعون في الدخان وطبق البسبوسة، يفرغون همهم في المياه الغازيةـ مدركين أنه غلط وأن المسألة فيها خطر، لكنها (النِفْسْ)... ولا نترك تلك الأمثلة الخطرة التي تدل على التواكل والرغبة في عصيان السلطة الطبية إلا ونذكر مريض الضغط وهو يلتهم قطعة فسيخ أو (يحدّق بشوية مش) متمتماً (العمر واحد والرب واحد)؛
يتبع ذلك بكوب ماء بارد، يتجشأ بعده ثم يستلقي على الكنبة في الصالة يشاهد التليفزيون. [عادة ما يكون هؤلاء المرضى من منخفضي الوعي والتعليم والطبقة الاجتماعية، هم في أغلبهم يعرفون خطورة ما يفعلونه على صحتهم، لكنهم يستمرون في غيّهم، جزء من الحكاية أنهم غير قادرين على منع أنفسهم، تتملكهم رغبة جامحة في التمرد والعصيان وإيذاء النفس والجسد... وآخرون لا يهتمون (مش فارقة معاهم).
بمعنى الموت بطيئاً... أو ربما امتزج الجهل الطبي بالإكتئاب والكرب والتوتر والقلق، كما هو الحال في حوالي سبعين إلى ثمانين في المائة من المرضى الباطنين (أغلبهم يعاني من: ضغط الدم المرتفع ـ السكر ـ التليف الكبدي إما بسبب البلهارسيا أو بسبب الالتهاب الكبدي الوبائي فيروس C).
وأمام الأعداد الكبيرة من المرضى الذين زادت نسبتهم في التأمين الصحي إلى حوالي (4 أضعاف) في الثلاث السنوات الأخيرة نجد أن (عدد الأطباء ثابت وكذلك أجورهم الهزيلة) مما يخلق وضعاً مربكاً تتم فيه الفحوص والمقابلات الطبية كأداء واجب تتخللها العصبية والتوتر الشديد في علاقة الطبيب بالمريض، وأمام أمور سخيفة خلقها عدم الضبط والربط في الأمور الدوائية وطريقة صرف العقاقير في مصر نجد ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ مريضاً يدخل إلى الطبيب (طالباً دواءاً محدداً) (دواء غال لقرحة المعدة فقط)، تخبره الدكتورة أنه لابد من منظار للمعدة وثبوت وجود القرحة لصرف هذا الدواء، لأن له آثار جانبية عديدة على الكبد، يتخانق المريض ويشتم، يتشبث برأيه ويتأجج الصراع، وفي الخلفية يقف مريض بقرحة المعدة قد لا يجد الدواء.
إذن فإنها تلك الحالة من الفوضى. هذا السلوك يماثل سلوك مريض السكر والضغط الذي يهمل في دوائه وغذائه، في إطار سلوك تدميري للذات، بمعنى أنه إيذاء وتعنت وعسف للنفس، وبالتدقيق في نفسية هؤلاء نجد الإنكار والإهمال أهم صفتين، نجدهم (معتمدين) على (الآخرين) وعلى (الدواء) و (الدكتور)... وربما هناك عملية نفسية لا واعية تؤثر الاحتفاظ بالمرض ككارت لاستدرار العاطفة. هؤلاء المرضى (المزمنين) عاشروا المرض وعاشرهم، نهش فيهم واستغلوه، تمكن منهم فأصبحوا ملحين في طلباتهم، متلاعبين، سلبيين ومتهربين من أي عمل يجب أن يقوموا به.
تمر سنوات المرض وتصبح هناك (عادة) و(عِشرة) مع الرحلة إلى المستشفى أو الدكتور أياً كان وفي أي مكان، تألف وتآخي مع علب الدواء وألوانها، مع العقاقير وأشكالها، وصار نهرهم وليلهم مؤسساً على مواعيد أخذ العلاج، وصار المرض ومؤسسته العلاجية ملاذاً ومصدراً للدعم النفسي المتواصل(طول ما أنا مريض طول ما أنا هاروح وهاجي للدكتور، وهاقعد انتظر دوري، وهيكشف عليّ وهينصحني، منخا أقضي وقت ومنها أتعالج؟؟؟).
قال أحد المرضى متبسماً في مرارة (طيب لما أنا دلوقتي أخف هروح فين، هامشي كده في الدنيا لوحدي ـ أعكز على مين)، إذن فلقد تحول المرض إلى عكاز ومبرر، ومع الكرب والاكتئاب تتشكل منظومة من الإحباط للهيئة المعالجة ولأهل المريض ربما لقسوة الحياة وأصبح المرض للمصري البسيط (وَنَسْ) وفي هذا خطورة عظيمة لأن ذلك لا يجوز. على المصري أن يسعى إلى لصحة واللياقة والعمل وتحمل المسئولية.
لكن في ظل تلك الظروف الاقتصادية والحياتية المرهقة تكون المسألة مضنية للغاية (إذن فنار المرض أرحم من جهنم الشفاء!!) .. تفكير مغلوط ونظام أعرج واستمرارية لأدوار غير طبيعية وغير صحيحة بالمرة.
عودة إلى تواجد المرض العضوي مع المرض النفسي وهو ما يصطلح عليه بـ (Comorbidity) .... لماذا تصطحب الحالة المرضية حالة نفسية، هل هي مجرد صدفة، أم أن هناك رابطة سببية واضحة وشائعة أم أن الاضطراب النفسي يؤدي إلى مرض عضوي والعكس صحيح؟!
عن الصدفة فهي واردة فإذا أصيب مريض بارتفاع مفاجئ في ضغط الدم ووجد أنه مصاب بالإكتئاب فعلى الأرجح أن اكتئابه ذلك قديم ويأتي من شكل نوبات، نوبته الأخيرة صاحبت ارتفاع الضغط أما عن العلاقة السببية الواضحة والشائعة فإن الحالة المرضية العضوية وتلك النفسية يتشاركان في مسبب واحد؛
ففي حالة المرضى المصريين من شريحة اجتماعية محددة (المتوسطة الدنيا)، نجد أن مرضى ارتفاع ضغط الدم والسكر قد تعرضوا لظروف حياتية ضاغطة وقاهرة، مؤلمة ومتعبة ومفجرة للحزن والأسى ومضعفة للجهاز المناعي (الزلزال ـ التشريد ـ الإسكان المزدحم غير الصحي ـ فقدان الوظيفةـ ضياع الفلوس مع النصايبن، شركات توظيف الأموال، الدجالين، وفاة العائل أو ست البيت، هروب البنت، إدمان الولد... وهكذا.... ). ظروف وعوامل اجتماعية حياتية أثرت سلباً ومهدت للإصابة بنوبة قلبية أو سكته دماغية.
لكن كيف يمكن للاضطراب النفسي أن يسبب حالة عضوية مرضية، هل هي سمات الشخصية التي تعرضت للقهر والكرب هيـأت تلك الآليات (الميكانزمات) غير المرتبطة بالسلوك، الكامنة في اللاوعي للإصابة بالسرطان مثلاً. هل هي طبيعة الشخصية مع طبيعة الظروف أدت إلى الإصابة بالربو الشعبي، كل هذا افتراض لأنه البرهان العلمي لا يقدم لنا إلا القليل لدعم نظرية أن الاكتئاب مثلاً (يسبب) بشكل غير مباشر الإصابة بأمراض عضوية. لكن هناك ما يدل ويبرهن على أن المصابين بالإكتئاب ثم يصابون بالذبحة الصدرية، يتأثرون سلباً بوجود الحالتين النفسية والعضوية وهذا أمر منتشر على الساحة المصرية.
أما عن المرض العضوي فهو يسبب اضطراباً نفسياً في المهيئين له (من عندهم استعداد بيولوجي كذلك) مثل حالات انخفاض نشاط الغدة الدرقية، جلطة المخ وحالات السرطان. من السهل فهم أن المرض العضوي مع الظروف الاجتماعية القاهرة يتسبب في حالة نفسية سيئة، فإذا أصيب إنسان بالسرطان فمن البديهي أن يصاب بالإكتئاب، كذلك فإنه من البديهي أن يكون اكتئابه مستمراً إذا أدرك أنه لا شفاء من السرطان أو تحت وطأة ومرارة العلاج الإشعاعي والكيميائي وما يصاحب ذلك من آثار جانبية تطال المظهر (سقوط الشعر، فقدان الوزن،...) مما يحدث تحولاً نفسياً سلبياً.
نعود إلى مسألة انخفاض الوعي وما يمكن الاصطلاح عليه بالأمية الثقافية الصحية فنجد أن إحصائيات عام (2003) تدل على وجود مليون مصري مصابون بالالتهاب الكبدي الوبائي الخطير وأن معظم المرضى لا يعلمون بإصابتهم إلاّ بالصدفة البحتة.
*(أوجاع المصريين.. نظرة عامة ـ محمد حسن ـ أحوال مصري ـ العدد 19 ـ شتاء 2003)
للأسف أن هناك (120 ألف) مريض بالفشل الكلوي (إحصائيات عام 2002) نسبة الوفيات بينهم تبلغ (40%) والمخيف كذلك أن الأبحاث أثبتت أن السنوات العشر الأخيرة أظهرت زيادة كبيرة في عدد الأطفال المصابين بالفشل الكلوي مل بين سنتين و (12سنة) وأصبحوا يمثلون (15%) من مرضى الفشل الكلوي وهو رقم يمثل (300%) من الأرقام العالمية.
*(نفس المصدر السابق)
كما أن (15 مليون مصري) مصابون بارتفاع في ضغط الدم، وأن (54%) من نسبة الوفيات في مصر سببها أمراض القلب، وأن الضغوط النفسية والاجتماعية وراء أمراض القلب تلك كعامل حيوي أساسي ومؤثر. علماً بأن تكلفة علاج ارتفاع الضغط حوالي(180 جنيه شهرياً)، ويستهلك المرضى بشكل عام حوالي مليار جنيه شهرياً، وأن(35%) من المرضى فقط يتلقون علاجاً في المستشفيات العامة وبذلك تكون الأرقام السابقة أقل من معدلها الرسمي. فعلاً انتشرت المشكلة بين الشباب وتزيد بين المصريين كشعب فهم مستمرون في عاداتهم غير الصحية (تدخين، أكل سمين حلو، رخاوة ، سكون وعدم تريض).
هل يحتاج المصريون إلى عَرْض ثم عَرْض مرة أخرى، على طبيب مختص ورئيس لجنة لصرف دواء مسجل لكن غير موجود، أم أننا نحتاج بالفعل إلى ثورة سلوكية إدارية تهتم بالأطباء وأجورهم، تستثمر فيهم قبل أن تستثمر في بناء المستشفيات وأن نتأمل المرض والمرضى بعين فاحصة دقيقة تشمل كل شئ وأن نؤسس ونبدأ حملة قومية تعليمية طبية لأبسط القواعد الصحية، لعلّ وعسى
ويتبع >>>>: المصريون وبانوراما النفس والجسد1
واقرأ أيضا:
صحتنا النفسية في تفاعلها مع البيئة نظرة إلى الواقع / المصريون والعفاريت(1)