عقدة سندريلا (4) مظاهر العقدة
خامسًا: العوامل التي تسهم في ظهور المشكلة (العقدة) :
وبعد أن تناولنا أهم مظاهر عقدة سندريلا كما عرضتها كوليت دولنج وكما استخلصناها من ثنايا الكتاب، فإننا سنحاول في هذا القسم من الدراسة أن نستخلص أسباب وعوامل نشأة عقدة سندريلا، علمًا بأن هناك خلطًا شديدًا بين ما يمكن أن نعتبره مظاهر وما يمكن أن نعتبره عوامل، والمؤلفة لم تصنف كتابها على هذا النحو بل سردت أفكارها سردًا أقرب إلى السرد القصصي، لذا فقد عمد كاتب الدراسة الحالية إلى هذا التصنيف كنوع من العرض المنهجي لتصل الأفكار الخاصة بالعقدة على نحو علمي بمنهج قد يثير عند البعض الرغبة في دراسة بعض جوانب هذه العقدة.
وعلى أية حال فإن حديث (كوليت دولنج) عن عوامل عقدة سندريلا كله يرتبط بالتنشئة الاجتماعية فهي لم تتحدث عن أية عوامل جبلية أو جينية وإنما حديثها كله عن عوامل التنشئة والتربية فكل من الصبيان والبنات يربى بطريقة تحدد دوره في المجتمع، ففي الوقت الذي يتعلم فيه الصبي الاستقلالية والاعتماد على الذات في المنزل بالدرجة الأولى ثم في المدرسة وبقية مؤسسات المجتمع، تربي البنت على أن تكون اعتمادية وأن آخرين سيتولون رعايتها.. ومعالجة كوليت على هذا النحو توحي بأنها تنكر أية عوامل بيولوجية في الفروق بين الجنسين وان كانت لم تذكر ذلك أو أي شيء قريب منه طوال الكتاب.
وسنحاول في هذا القسم أن نكمل الحديث عن العوامل كما استخلصانها من المؤلفة في ثلاثة نقاط وهي: ما يسمى بزملة ولادة طفل آخر والنشأة الاجتماعية وقلة الحيلة المكتسبة، وسنعرضها بتركيز ثم نعقبها بتعليق مختصر من كاتب الدراسة:
1- زملة ولادة طفل آخر:
زملة ولادة طفل آخر Have-Another-Child-Syndrome تعنى الانسحاب من الحياة العامة والعودة إلى المنزل والتي قدمت هذا المصطلح هي الدكتورة (روث مولتون)، وتذهب مولتون إلى أن النساء- حتى المتفوقات منهن- يتعمدن أن يحملن كي يتجنبن القلق والصراعات التي تبدأ في الازدهار وازدياد العبء اللازم لإدارتها والإشراف عليها.
وبالنظر في جدول ممارسة د. مولتون لعملها مع مرضاها في السنوات الأخيرة اكتشفت د. مولتون أنها تستطيع أن تحصر ببساطة ما يقرب من عشرين سيدة ممن تتراوح أعمارهن بين سن العشرين وسن الأربعين من اللاتي استخدمن الحمل كوسيلة للهرب من مسئوليات العالم الخارجي.
وتطلق د. مولتون على هذه الزملة تربية الطفل الإجبارية Compulsive Child Rearing وتعنى بها: البحث عن الأمومة ليس لإشباع دوافع الأمومة في ذاتها وإنما لدوافع الهرب من مسئوليات الضغوط والتوترات المرتبطة بالعمل خارج المنزل. وحتى هذه الزملة يمكن النظر إليها على أنها من مظاهر العقدة وليس من أسبابها مما يشير إلى الخلط والتداخل بين المظاهر والعوامل التي أشرنا إليها.
2- التنشئة الاجتماعية:
لم تتحدث كوليت دولنج عن التنشئة الاجتماعية بشكل منظم بل أن الكتاب مليء بالعبارات والأفكار المتناثرة حول دور التنشئة الاجتماعية بصفة عامة والتنشئة الوالدية بصفة خاصة في نشأة هذه العقدة عند البنت- مما قد اشرنا إلى بعضه عند حديثنا في بداية الدراسة عن إبعاد المشكلة وتشخيصها- فالصبي ينبغي أن يعتمد على نفسه لأنه سوف يتعامل بالدرجة الأولى مع العالم الخارجي وما يتضمنه من تحديات ومخاطر ونزعات عدوانية وبالتالي فلابد أن يُجَهز وأن يُعدّ لهذه الحياة من حيث تعويده الاستقلالية والاعتماد على النفس وعلى مقارعة الآخرين وعلى استخلاص حقه بكل الوسائل بما فيها استخدام القوة والشدة.
أما الفتاة، فهي تعيش حياة مختلفة تمامًا، وبالتالي فهي ليست بحاجة إلى تعلم الكثير مما تحرص الأسرة على تعليمه للصبي، فهي في كنف الأسرة ورعايتها حتى تتزوج فتنتقل حمايتها إلى زوجها الذي يكون مسئولاً عنها; وعلى ذلك فهي في حماية دائمة وعليها المسئوليات الداخلية للأسرة وهى العناية بالمنزل وتربية الأطفال مقابل أن يتولى الزوج الإنفاق على الأسرة فكأن المسئولية قد قسمت بينهما على أساس أن الزوج يكافح خارج المنزل والزوجة تكافح داخل المنزل.
وتقول كوليت دولنج ما نعرفه على أن القسمة في المسئوليات بين الزوجين لم تعد كما بدأت أن أحد الزوجين يعمل خارج المنزل والآخر يعمل داخل المنزل، فإن كانت الزوجة قد خرجت للعمل خارج المنزل، فهذا لم يقلل كثيرًا من أعبائها داخل المنزل، بمعنى أن الزوج لم يشارك في الأعمال المنزلية بقدر إسهام الزوجة في العمل خارج المنزل خاصة إذا كان الزوج يدرك أن خروج زوجته للعمل لا يتم بهدف تعزيز ميزانية الأسرة وإنما لتحقيق ذات الزوجة ولتشعر أنها تؤدي أعمالاً هامة أو لأن الأعمال المنزلية لا تكفيها أو لا تشعرها بقيمتها .
3- تعليم قلة الحيلة المكتسبة:
قلة الحيلة المكتسبة أو العجز المتعلم Learned Helplessness من نتائج عملية التنشئة الاجتماعية وتعني أن الطفل قد يعيش ظروفًا يتعلم فيها أن يكون عاجزاً كأن يحمل أعباء فوق طاقته دائمًا أو أعباء لم يعد يتحملها أو أن يعاقب باستمرار على كل المحاولات التي تصدر في موقف معين فينتهي إلى حالة اللاسلوك والعجز .
وتزعم كوليت دولنج أن البنات يتعرضن في تربيتهن المبكرة من الأسرة إلى أن يتعلمن قلة الحيلة في مواقف معينة وهى مواقف المواجهة والتحدي والعدوانية وهى المواقف المرتبطة بالعمل خارج المنزل أما المواقف الداخلية في الأسرة فإنها لا تتضمن هذه النزعات وبالتالي فإن البنت ليست في حاجة إلى تعلم المواجهة والتحدي والعدوانية مادامت ستكون في رعاية شخص آخر يتولى حمايتها والدفاع عنها، ولذا تميل الأمهات إلى زيادة ارتباط البنات بهن ولا تفعلن ذلك مع البنين، يشجعن الاستقلالية عند أبنائهن الذكور ولا يفعلن ذلك مطلقًا مع بناتهن.
والدراسات النهائية لكل من جيروم وكيجان وميوسن تبين أن البنات ينمين اتجاهات سلبية إزاء بعض البالغين، وفى نفس الوقت ينمين اعتمادية عليهم، وأن هذين الاتجاهين يستمران مع البنات حتى سن البلوغ ويقول العلماء أن هذين العاملين يكونان أكثر عوامل الشخصية ثباتًا، وبالتالي فهما أكثر قابلية للتنبؤ بهما في كل سمات شخصية الأنثى.
والبنت لا تستخدم نموها المطرد في الاستقلال عن الأم أو إشباع دافع السيطرة والتمكن ولكنها تستخدم هذا النمو في الحصول على موافقة الآخرين وخاصة الأم وتكون حريصة على أن تفهم وتلبي مطالب الكبار وأن تكون مطيعة لهم وهذه التوجهات السلوكية من البنت هي التي تتوقعها الأسرة وتعززها بقوة وترفض أية سلوكيات متناقضة مع هذه السلوكيات ويحدث أن الأم تسلك مع البنت التي تثور وتتمرد -إذا حدث -على نحو يستوعب الموقف ويحاصره ولكن لا تفعل ذلك مع ابنها حتى لو كانت ثورته أو تمرده أشد.
وبعبارات أخرى فالبنات يتعلمن أن النجدة والمساعدة تأتي بسرعة إذا ما صرخن طلبًا لها، والأمهات تعرف أن صراخ الفتيات يتوقف بمجرد الجري لمساعدتهن.
ولكن هذا لا يحدث مع الذكور، لأنهم تعلموا أن يكونوا أصلب عودًا، وكثير من الفتيات يتعلمن قلة الحيلة أو العجز في ظل هذه التربية.
وقد حاولت (ديانا فولنجستاد) من جامعة جنوب كاليفورنيا علاج بعض مرضاها من النساء المُساءة معاملتهن بمحاولة محو التعلم الذي تعلمنه وهو تعلم قلة الحيلة، وكانت تعلمهن أيضًا في برامجها العلاجية تنمية وجهة ضبط داخلية، بمعنى: أن تتعود المرآة أن تنسب الأعمال الناجحة إلى قدراتها وإمكانياتها وليس إلى الحظ أو الصدفة، ولا تنسب الأعمال غير الناجحة إلى نفسها، لأن هذا من شأنه أن يزيد ثقتها في نفسها وفى إمكانياتها وفى أنها لا تقل قدرة عن الآخرين.
تذكر (كارول جاكلين) -من قسم علم النفس بجامعة ستانفوردان - أن الدراسات الحديثة تدل على أن قلة الحيلة المكتسبة تعلم لبناتنا في المدرسة الابتدائية أيضًا من جانب المعلمات فالمعلمات يقلن أشياء طيبة عن الصبيان فيما يتعلق بتحصيلهم الأكاديمي وأشياء سيئة عن سلوكهم مثل إلقاء الطباشير وعمل الضوضاء أما البنات فيحصلن على التدعيم اللفظي التهنئة والشكر على أعمالهن غير الأكاديمية وكيف أنهن نظيفات أنيقات مطيعات جميلات وأشياء من هذا القبيل، وتؤكد على أن البنت تجد تدعيمًا هائلاً من المحيطين بها عندما تطيع وتذعن فلم إذن تغامر إذا استطاعت بفقدان كل هذا التقدير والتدعيم التي تتمتع به وهى مطيعة ومستجيبة.
تعليق ختامي:
هذه هي الأفكار الأساسية لكتاب (عقدة سندريلا، خوف المرأة الخفي من الاستقلال) ولنا ملاحظات أولية نوجزها فيما يلي،خاصة وأن الكتاب يعالج قضية لها جوانبها الثقافية والاجتماعية ومن هنا ينبغي التنبه إلى هذا البعد رغم الطابع العالمي للمشكلة والذي يمكن أن ندركه بوضوح بين مجتمع متقدم مثل المجتمع الأمريكي والمجتمعات النامية ويمكن أن نتعامل مع أفكار الكتاب وفى أذهاننا اعتبارات من قبيل الاعتبارات الآتية والتي يمكن أن نصيغها على شكل تساؤلات تبين الفروق الثقافية في تفاصيل الصورة وإن تكن في مجملها ذات طابع عالمي:
- هل الميل أو الدافعية إلى العمل خارج المنزل أقوى عند المرأة المصرية والعربية مما هو عند المرأة الأمريكية؟
- هل تخطت المرأة المصرية والعربية مرحلة المخاوف اللاشعورية من الاستقلال وأصبحت قادرة على تحقيق الاستقلال على أسس صحيحة بخلاف المرأة الأمريكية التي تحدثت عنها د. كوليت دولنج ؟
- ماذا عن المرأة المصرية في الريف التي تشارك زوجها في العمل في أداء بعض الأعمال إضافة إلى أعبائها المنزلية وبعضها لها جانب إنتاجي اقتصادي؟ وهل تشعر الفلاحة المصرية بالدونية والهامشية في الحياة قياسًا إلى الرجل؟ أم أنها تقوم بدورها في الحياة في كل المجالات المتاحة لها بدون إهمال أو تقصير وبدون مشاعر نقص أو دونية؟
- هل تشعر المرأة المصرية على الإجمال بهذه العقدة؟ وإذا كان ذلك صحيحًا فهل تتساوى في ذلك المتعلمات تعليمًا عاليًا مع من لم يتلقين تعليمًا نظاميًا؟ وهل تتساوى في ذلك العاملات خارج المنزل مع ربات البيوت اللائي لا يعملن خارج بيوتهن؟
- وهل لنا أن نتساءل إذا كانت هذه العقدة مرتبطة بادوار كل من الرجل والمرأة في الحياة ؟ وإذا كان البعض يتصور أن الأدوار التي يجب أن يقوم بها كل من الرجل والمرأة وحدها هي السبب -وهى وجهة النظر التي يبدو أن المؤلفة د. كوليت دولنج تصدر عنها وإن لم تصرح بذلك -فماذا عن الاختلافات التشريحية والبيولوجية بين الرجل والمرأة والتي قد يترتب عليها اختلافات سيكولوجية توصِلُ إلى اختلافات اجتماعية تفعل فعلها في أدوار كل من الرجل والمرأة في الحياة؟
- وأخيرًا وليس آخرًا لنا أن نتساءل هل الأمر بين الرجل والمرأة أمر اختلاف وتباين يؤدي في النهاية إلى تكامل؟ بمعنى أن هناك أدوارًا ووظائف يقوم بها كل نوع بحيث تكمل الأدوار والوظائف التي يقوم بها النوع الآخر، وأنهما يقومان بهذه الأدوار والوظائف في إطار مظلة واحدة تجمعهما وهى الأسرة فيستفيد كل منهما ويجد إشباعاته، كما تكون محضنًا مثاليًا للأطفال ولتوفير تنشئة سوية صحيحة لهم؟ أم أن الأمر بين الرجل والمرأة أمر تشابه وتناظر في الأدوار والوظائف بحيث يمكن أن يحدث بينهما تنافس (أيهما يؤدي بشكل أفضل) مما قد لا يوفر لأي منهما أو للأطفال بيئة مشبعة ملبية لحاجاتهم جميعًا ؟.
المصدر : مجلة علم النفس عدد 67/68 (يوليو ديسمبر 2003)