حين نستعرض العلوم الحديثة (المادية بشكل خاص) نلاحظ غياب الأسماء والإسهامات العربية والإسلامية عنها (إلا فيما ندر)، وحتى إذا وجدنا إسهامات فهي في الغالب مستندة أو متطفلة على الإسهامات والأسماء الغربية ومحتمية بها وباحثة عن مصداقيتها من خلال الاستدلال بها.
ولو توقف الأمر عند العلوم المادية الحديثة لهان الأمر بعض الشيء فالغربيون قد أعطوا الدنيا والمادة كل اهتمامهم، ولا غرابة إذا برعوا فيها، ولكن الأمر تجاوز ذلك الحد حتى وصل إلى تفوقهم وتقهقرنا، وإبداعهم المستمر وتطفلنا المستمر في مجال العلوم الإنسانية التي كان من المفروض أن يتفوق فيها العرب والمسلمون نظراً لما لديهم من كنوز دينية وتاريخية تثرى هذا المجال كأعلى ما يكون الثراء.
ورغم انتشار جامعاتنا ومعاهد أبحاثنا وبعثاتنا الخارجية والداخلية إلا أن بحوثنا مازالت تابعة ومقلدة في أغلبها وأصبحنا في موقف المتلقي السلبي وليس المتلقي الإيجابي (راجع رسائل الماجستير والدكتوراه وأبحاث الجامعيين الملقاة على أرفف المكتبات بجامعتنا ومعاهد أبحاثنا).
وأصبح محظوراً (أو شبه محظور) على عالم عربي أو مسلم أن يعلن رأياً أو يضع نظرية أصلية مستقلة تمثل بيئته وفكره الإسلامي وحركة تاريخه، إلا أن يكون مستأنساً ومستنداً إلى آراء ونظريات غربية مشابهة يعتبرها جذوراً لرأيه أو نظريته.
والذين مروا بتجربة عمل رسائل جامعية (ماجستير أو دكتوراه) كانوا يحسون ميل المشرف (أو المشرفين) لأن تكون نتائجهم قريبة من نتائج الدراسات الغربية المشابهة، وأحيانا يضطر الباحث إلى لوي عنق النتائج لتحقق هذا الغرض وتقبل الرسالة.
وكانت النتيجة أننا فقدنا الكثير من أصالتنا وقدراتنا الإبداعية الفطرية التي منحها الله لنا ولكل الناس في كل زمان ومكان، وأصبحنا مجرد متلقين سلبيين وحفاظاً للعلوم الغربية (المادية والإنسانية على حد سواء).
وقد نشر أخيراً (2003 م) أنه قد تم تسجيل 640 براءة اختراع في إسرائيل (حوالي ثلاثة ملايين نسمة) في العام الماضي في حين تم تسجيل 24 براءة اختراع فقط في نفس العام في العالم العربي كله (280 مليون نسمة).
وهذه الأرقام ربما تشير إلى حجم المشكلة (المأساة) بشكل يستدعى القلق وإعادة النظر في طرق التربية في بيوتنا والتدريس في مدارسنا وتجعلنا نتساءل: ما الذي أدى بنا إلى هذا الوضع؟… هل نحن نوع خاص من البشر لا يملك قدرات إبداعية، ولذلك ليس أمامنا إلا التطفل على إبداع غيرنا؟…
بالطبع هذا قول غير صحيح من الناحية العلمية والواقعية…حيث أن الإبداع طاقة فطرية موجودة في كل الشعوب والأجناس ولكنها تحتاج إلى وسط مناسب يفرح بكل إبداع ويرعاه ويتبناه وينميه حتى يحدث التراكم الإبداعي الذي يجدد الحياة ويجعل لها معنى ومذاق متجدد.
إذن فلنبحث عن الظروف التي كبتت الابداع وأحبطته في مجتمعاتنا العربية والإسلامية ونوجزها فيما يلي:
1- الخلط بين مفهوم الابداع والابتداع : مما جعل الناس بشكل مباشر أو غير مباشر ينفرون من الإبداع خوفا من الوقوع في دائرة الابتداع. والإبداع هو رؤية علاقات جديدة بين الأشياء وربطها بشكل جديد والوصول إلى أشياء جديدة تضاف إلى الرصيد البشرى في التطور. أما الابتداع فهو محاولة إضافة شيءغير أصيل وغير ثمين إلى شيء أصيل وثمين.
وهذا المفهوم (الابتداع) يستخدم على وجه الخصوص في المجال الديني وهو مفهوم سلبي لأن الإضافة في هذا المجال تشويه وتلويث خاصة إذا اقتربت من الأصول المحكمة التي لا خلاف فيها ولا مجال للاجتهاد.
ولقد حدث في بعض الأوقات وفي كثير من الأذهان خلط آخر بين مفهوم الابتداع ومفهوم الاجتهاد (وخاصة في العصور المتأخرة ) فتقلص الاجتهاد وتقوقع المجتهدون خوفاً من الوقوع في دائرة الاتهام بالابتداع.
2- إعلاء قيمة الاتباع (والانقياد لما هو سائد) على قيمة الإبداع: وليس المقصود بالاتباع هنا اتباع الأصول الدينية، وإنما اتباع العرف والتقاليد وكل ما هو سائد رغم مخالفة الكثير منه لما هو صحيح. ويزيد من ضغط هذا العامل الترابط الاجتماعي والأسري (وهو عامل إيجابي بلا شك حين يأخذه مساره الصحيح) مما يجعل خروج شخص ما بفكرة جديدة أو عمل جديد يخالف ما هو سائد – عملية تحمل مخاطر تهديد العلاقات الأسرية والاجتماعية مما يجعل الشخص يؤثر كتمان أو قتل أي فكرة إبداعية في مهدها محافظة منه على الاستقرار السائد.
3- طريقة التربية: والتي تعلي من قيمة الطاعة العمياء والانقياد لإرادة وخيارات الكبار وتعطيل إرادة وخيارات الصغار، وتقديس السابقين وتحقير اللاحقين، وعدم الاحتفاء بالجديد بل النظر إليه بخوف وارتياب ومعاملة من أتى به معاملة المارقين الخارجين عن الإجماع.
4- المناخ العام فى المدارس والجامعات: يسود في كثير من مدارسنا وجامعاتنا ومعاهد أبحاثنا مناخ عام ينفر ويفزع (بشكل معلن أو غير معلن) من نبضات الإبداع الجريئة وينبذ صاحب هذه النبضات في أقرب فرصة ممكنة، ولا يسمح إلا باحتضان المسالمين (والمستسلمين) والمنقادين لخط التقليد (والتطفل) العلمي السائد طلباً للسلامة والاستقرار العلمي الزائف.
5- غياب الحرية: سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، فالإبداع لا ينمو إلا في مناخ حر يسمح بتعددية الرؤى والاجتهادات والممارسات، أما في المناخ الاستبدادي حيث أحادية الرؤية والاتجاه والممارسة فإن الإبداع يموت أو يتوارى خشية الاتهام بالمروق والعصيان والتآمر.
6- تقديس ما لا يجب تقديسه: فنحن كأمة نمتلك تراثاً هائلا من الأديان والفلسفات والأعراف والتقاليد، وكلها تأخذ في العق الجمعي مكانة أقرب للتقديس، وهذا يجعل مناطق الحظر عديدة ومتشابكة ويشكل عبئاً تقيلاً على حركة الفكر والإبداع. كذلك يجب إعادة النظر في ذلك التراث بحيث لا نقدس منه إلا ما كان وحياً إلهياً لنبي أو رسول أما قول البشر خارج هذه الدائرة فهو قابل للأخذ والرد.
7- الاحباط وضيق الصدر: فالمبدع يحتاج أن يكون منشرح الصدر ويشعر بالأمان والاطمئنان. وقد توفرت له حاجاته الأساسية فراح يفكر فيما هو أعلى وأفضل، أما إذا كان يعيش حالة من الضنك وضيق العيش وعدم الأمان والقهر والإحباط فإن جذوة الإبداع ستنطفئ بداخله ويعيش عمره مقهوراً محبطاً.
8- فقد الثقة بالنفس: فكثير منا حين يسمع عن إبداع عالم عربي أو مسلم يتشكك في جدواه، وكأنه قد رسخ في أذهاننا أنه ليس هناك ولن يكون هناك إبداع خاص بنا، وأن الإبداع صناعة غربية خالصة، وأننا يجب أن نظل في الصفوف الخلفية، وأن نسمع ونطيع ما يصلنا شاكرين لرواد الحضارة الغربية الحديثة أفضالهم، وأنهم سمحوا لنا حتى بمجرد اتباعهم الذي لا نستحقه. وهذه الدونية والهزيمة الداخلية قتلت بداخلنا دوافع الإبداع وطمست جذوره الفطرية التي منحنا الله إياها.
اقرأ أيضا:
ظاهرة العنف في المجتمع المصري(3) / جمال حمدان: المحنة ... العزلة ... العبقرية