يدّعي بعض دارسي المجتمع الأمريكي أنه يتسم بالتعددية والتنوع والانفتاح، إلا أن واقع الولايات المتحدة يبيّن أنه مجتمع تسود فيه النمطية بشكل مذهل، مما يؤدي في نهاية الأمر إلى طمس المعالم الخاصة لكل الهويات المختلفة ودمجها في هوية علمانية واحدة. فهذا المجتمع تسوده أسطورة علمانية واحدة، ومعيار قبول اجتماعي علماني عقلاني مادي واحد، وهو معيار يسمح للجميع بالانتماء شريطة أن يتخلوا عن خصوصيتهم الدينية والإثنية، أي عن القسط الأكبر من هويتهم لتحل محلها هوية واحدة، وكلما ازداد تخليهم عن هويتهم، ازدادت أمامهم فرص الحراك الاجتماعي، فما يسود المجتمع ليس تنوعاً حقيقاًَ وإنما وحدة عقلانية علمانية عميقة وتنوعاّ إثنياً سطحياً -وهذا هو جوهر "الأمركة".
وتبدّت هذه الرؤيا في فكرة بوتقة الصهر melting pot التي يقفز فيها المهاجرون ثم يخرجون منها وقد نسوا تاريخهم وتراثهم وهويتهم ويتم دمجهم والقضاء على ما قد يكون قد بقي فيهم من رواسب تاريخية أو تراثية قديمة، فيصبحون مواطنين أمريكيين كاملين، عقولهم صفحة جديدة بيضاء مثل صفحة لوك الشمعية.
ولكن لوحظ أنه منذ أواخر الستينات ظهر احتفاء بالإثنيات في الولايات المتحدة، ويمكن تفسير هذا التحول بالإشارة إلى أن المؤسسة الحاكمة أدركت أن صفحة العقل لم تكن بيضاء تماماً، وأن بوتقة الصهر تفترض مركزية الواسب Wasp اختصار عبارة (وايت أنجلو ساكسون بروتستانت)، أي بروتستانتي أبيض من أصل أنجلو ساكسوني يتحدث الإنكليزية، وهي فكرة سادت في المجتمع الأمريكي حتى منتصف الستينيات، إذ كان يفترض أن يتأقلم المهاجر تماماً وينسى هويته ليصبح أمريكياً قلباً وإن أمكن قالباً.
من هنا، ظهرت مشكلة السود الذين لم يكن بوسعهم تغيير لون جلدهم وثقافتهم الأفريقية الأمريكية، التي كانت مختلفة بشكل جوهري عن ثقافة الواسب، كما أن الصهاينة بدأوا يتحدثون عن الهوية اليهودية، ثم تدفق مهاجرون من كوريا والصين وأمريكا اللاتينية وبدأوا هم أيضا يتحدثون عن إثنيتهم؛ فانحسرت أسطورة بوتقة الصهر وظهرت استحالة تنفيذها، فحلت محلها أسطورة أكثر تركيباً وإن كانت لا تقل عنها أحادية، إذ أنه أصبح من الممكن الاحتفاظ بالميراث الإثني أو حتى الديني القديم في الحياة الخاصة طالما أن هذا لا يتعارض مع مقدرة الشخص على الأداء الكفؤ في الحياة العامة أو مع المنطلقات العامة للجميع، بل ويمكن الاحتفاظ بالهويات الإثنية والدينية في الحياة العامة طالما أن ذلك لا يتعارض مع الولاء الأساسي للدولة (ذلك المطلق الذي يلتف حوله العلمانيون الشاملون)؛
هذا يعني أن الدين والإثنية ينكمشان ولا يتناقضان بأية حال مع مرجعية المجتمع النهائية.. فيمكن للعربي أن يرقص الدبكة ويأكل الكبة أو الملوخية، ويمكن أن يؤدي الصلاة في المسجد، طالما أنه يدور في إطار المرجعية المادية النهائية للمجتمع المبني على التنافس والتي لا ترى الإنسان إلا باعتباره إنساناً اقتصادياً جسمانياً، يدخل حلبة الصراع اليومية.
أمّا الأبعاد الإثنية والدينية، فيتم تهميشها وتصبح زخارف مسلية يمكن الاحتفاظ بها، لأنها لا تنطوي على أي تحدٍ للقيم السائدة. وقد أدى هذا الوضع إلى زيادة الإنتاجية، إذ تم ضبط حياة الإنسان الأمريكي الخاصة، فهو تحكمه معايير أخلاقية، دينية أو إثنية، وتنظمه، ثم ينطلق في رقعة الحياة العامة المنفصلة عن القيمة ليقاتل ويتنافس ويتصارع حسب القوانين الداروينية.
هذه خلطة فريدة تسببت في نجاح المجتمع الأمريكي، وإن كان من الملاحظ أن أبناء الجيل الثاني والثالث من المهاجرين يتخلى تدريجياً عن المنظومات الإثنية والأخلاقية التي أتى بها من العالم القديم، كما أن رقعة الحياة الخاصة آخذة في التآكل هي الأخرى، إذ يغزوها الإعلام والمؤسسات التعليمية المختلفة التي تدافع عن حداثة منفصلة عن القيمة فينخرط الجميع في الحياة الاستهلاكية الأمريكية والتمركز حول الذات.
ومع هذا يأتي فوج جديد من المهاجرين ينتمون إلى النمط القديم ويدفعون بعجلة الإنتاج الأمريكية، وتظل المرجعية النهائية هي العلمانية الشاملة بإنكارها أي تركيبية إنسانية وباختزالها الإنسان إلى بعض العناصر المادية. وهكذا، تعامل الإثنية ذاتها معاملة الدين، أي يتم الاعتراف بها ما دامت لا تتناقض مع منطلقات المجتمع وقيمه الأساسية ولا تكون إطاراً لسلوك الإنسان في الحياة العامة.
وثمة أسباب سياسية واجتماعية واقتصادية جعلت الولايات المتحدة مرشحة لأن تكون أول حضارة علمانية شاملة:
1- رقعة الحياة العامة في الولايات المتحدة اتسعت بشكل هائل، وهي حياة تهيمن عليها الحكومة والاحتكارات ووسائل الإعلام وقطاع الاستهلاك التي تشيع قيماً مادية نفعية صارمة لا تتسامح البتة مع أي مطلقات إنسانية أو أخلاقية أو دينية. وهي مؤسسات من القوة من حيث أنها تصل إلى الفرد في حياته الخاصة وفي عالم أحلامه ورغباته.
2- يوجد في الولايات المتحدة دولة قومية مركزية قوية قادرة على الوصل إلى كل أرجاء الرقعة التي تحكمها. ويقال إن طبيعة أمريكا الشمالية المنبسطة، وعدم وجود حواجز طبيعية (جبال وغيرها)، سهلت عملية المركزية هذه.
3- أصبحت الدولة المركزية دولة متغولة، يتبعها نظام تعليمي قوي قادر على صياغة المواطنين وعلى ترشيدهم وتلقينهم القيم العلمانية. فالكتب المدرسية لا يمكن لها أن تشير إلى أي قيم دينية، فهذا مخالف للدستور، لكنها تشيع القيم النسبية. وأخيراً، بدأت كتب المطالعة تتحدث عن الشذوذ الجنسي (أو الجنسمثلية) باعتباره شكلاً من أشكال الاتصال المشروع.
وتعتمد هذه الكتب النظرية الداروينية في أصل الأنواع باعتبارها نظرية علمية لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ولذا لا يمكن الإشارة إلى نظرية الخلق الإلهي. وحينما حاولت بعض الجماعات الدينية أن تذكر الكتب الدراسية نظرية أخرى في أصل الأنواع وهي نظرية التصميم الذكي intelligent design والتي تستند إلى أساس علمي لا يقل مصداقية عن الأدلة التي يأتي بها الداروينيون، رفضت المحكمة العليا هذا الطلب!.
4- ثمة أسباب اقتصادية متداخلة مع الأسباب التاريخية، فالولايات المتحدة لا تعرف في تاريخها القصير إلا نمطاً اقتصادياً واحداً هو الرأسمالية المبنية على التنافس والفردية والقيم البراجماتية والداروينية والنيتشوية. فهي لا تعرف نظاماً إقطاعياً سابقاً، على قمته طبقة أرستقراطية تدين بالولاء لبعض المقولات غير المادية، مثل المكانة والفروسية والأريحية والجماعية والاهتمام بالزراعة، باعتبارها عملاً نبيلاً، واحتقار التجارة والبزنس.
5- وإذا كان السوق هو الإطار الأساسي للحضارة في الولايات المتحدة، فإن المصنع هو الجانب الآخر، خصوصاً بعد تطوير خط التجميع. فالمصنع يقوم بعلمنة العمل والإيقاع الإنساني تماماً ولا يعترف بأي خصوصيات. ويذهب ماكس فيبر إلى أن الترشيد الكامل هو تحويل العالم إلى حالة السوق والمصنع، وقد وصلت الولايات المتحدة إلى هذه المرحلة بطريقة نموذجية تقريباً.
6- وتشجع الخلفية البروتستانتية للحضارة الأمريكية (التي لا يسبقها تراث كاثوليكي) على الفردية وعلى الخلاص الشخصي وإنكار أهمية الجماعة، وعلى تمجيد قيم المنافسة ومراكمة الثروة. ولكننا بهذا نكون قد تحركنا من المجال الاقتصادي إلى المجال الديني والثقافي.
7- يمكن القول إن الأسباب الثقافية والسياسية والتاريخية متداخلة لدرجة لا يمكن الفصل بينهم إلا كضرورة تحليلية. ينص إعلان استقلال أمريكا على فصل الدولة عن الكنيسة وتهميش الدين تماماً حتى أصبح شأنه من شؤون الضمير. وفي عام 1840، اعترض المواطنون في ولاية نورث كارولينا على إشارة حاكم الولاية للثالوث المسيحي في دعاء عيد الشكر، وتم استبعاد أي إشارات دينية من الحياة العامة.
ولم تسيطر الرموز المسيحية على الولايات المتحدة، ولم تختلط بالرموز القومية إلا لفترة قصيرة من تاريخها. وتمت علمنة الرموز تماماً حتى وصلنا إلى مرحلة أصبح من المستحيل على المسيحيين أن يبنوا تماثيل صغيرة تبين منظر مولد المسيح في الحدائق العامة باعتبار أنها ملكية عامة، ولذا فهي خاضعة للدستور الأمريكي الذي يفصل الدين عن الدولة.
وتم فصل أي مطلقات أخلاقية في الولايات المتحدة منذ البداية عن كثير من نشاطات الإنسان، إذ ساد تماماً الاقتصاد الرأسمالي الحر الذي يستند إلى آليات السوق والبيع والشراء وسادت الفلسفة البراجماتية التي ترفض التجاوز ثم سادت معها الفلسفة الداروينية الاجتماعية.
كل هذه العوامل أدت إلى ظهور مجتمع علماني نماذجي أو شبه نماذجي وظهور فكر علماني شامل صرف. ومن هنا ظهور الداروينية الاجتماعية والبرجماتية وهيمنتهما على المجتمع الأمريكي، وهي فلسفات علمانية شاملة شرسة، جوهرها إنكار أي قيم متجاوزة ثابتة، إذ يصبح العالم حلبة صراع بين بشر نيتشويين (سوبرمان وفوق البشر) يبطشون بالآخرين (ويفرضون إرادتهم على الواقع وعلى الآخرين) من جهة، ومن جهة أخرى بشر خانعين (سبمن Submen دون البشر) عليهم التكيف مع الأمر الواقع (الذي خلقته إرادة الأقوياء) من دون أي تجاوز، أي أن ما يظهر هنا هو نماذج بشرية تجسد الواحدية المادية.
وكان من الممكن حصار هذا الاتجاه المتطرف نحو العلمنة الشاملة وتحييده لو كانت توجد تقاليد حضارية وتاريخية سابقة تولد ضرباً من التركيب وتفرض قدراً من الثنائية. لكن الولايات المتحدة كانت بالفعل "صفحة بيضاء" بلا ذاكرة تاريخية، من السهل أن يتبلور فيها النموذج العلماني الشامل بواحديته المادية ليقترب من اللحظة النماذجية (لحظة الصفر العلمانية) من دون مقاومة تذكر من أي تقاليد أخلاقية أو حضارية أخرى، ومن دون أي عوائق فكرية تقف في طريقه.
وقد يقول البعض إن ما يهيمن على الولايات المتحدة الأمريكية ويحركها في الوقت الحاضر ليس العلمانية الشاملة أو الحداثة الداروينية، وإنما حس ديني وأن النخبة الحاكمة تأخذ هذا في الاعتبار حين تتخذ قراراً ما. فأنا لا أوافق على هذا القول، فما يحكم الولايات المتحدة في الوقت الحاضر تحالف بين الشركات الكبرى مثل إنرون وهاليبرتون وشركات البترول، وهو تحالف قريب جداً من النخبة الحاكمة، بل يصعب التمييز بين المجموعتين، ويعبر المحافظون الجدد عن فكر ومصالح هذا التحالف.
كل المحافظين الجدد من العلمانيين، ورغم أن معظمهم يهود، فأغلبهم ما يطلق عليه يهود إثنيون أو علمانيون أو ملحدون، وهؤلاء ينظرون لليهودية باعتبارها شكل من أشكال الفلكلور، هذه المجموعة تدرك أهمية العنصر الديني في تحريك الجماهير، فقاموا بتوظيف الصحوة الدينية المسيحية هناك فيما يسمى الصهيونية المسيحية، وهي شكل من أشكال الاحتجاج على التدهور الأخلاقي في المجتمع الأمريكي الذي أصبح حسب وصف أحد المحللين "مجتمع الانفلات".
لكن هذه الصحوة الدينية لا تتسم بذكاء شديد، فالصهاينة المسيحيون يدافعون عن الأسرة والتماسك الاجتماعي ويتصدون للشذوذ الجنسي ويصوتون ضد الاعتراف بالزواج المثلي، ولكنهم بسبب سذاجتهم وضحالة ثقافتهم السياسية لا يرون أي علاقة بين القيم التي يدافعون عنها من جهة، ومن جهة أخرى سياسة أمريكا الخارجية العدوانية؛
كما أنهم لا يدركون أن اعتمادات ميزانيات الدفاع الضخمة وإخفاق الدولة الأمريكية في مواجهة إعصار كاترينا وتخفيض المعونات الصحية وتدهور نظام الرعاية الصحية هو نتيجة رؤية النخبة الحاكمة الإمبريالية والتي تكلف الميزانية الأمريكية مئات البلايين من الدولارات بسبب مغامراتها العسكرية الفاشلة والتي تهدف إلى خدمة مصالح أصحاب الشركات الكبرى، وهم يدافعون عن سياسة السوق الحر والليبرالية الاقتصادية وآليات العرض والطلب والمنافسة، ولا يرون علاقة هذا بالنسبية الأخلاقية المتفشية والإباحية المتزايدة في وسائل الإعلام، وبالحداثة الداروينية ككل.
كما أن جماهير الصهيونية المسيحية يأتون من الكنائس الشعبوية التي ينتمي إليها أعضاء الطبقات المتوسطة الدنيا، وهؤلاء ثقافتهم مستمدة من التليفزيون، خاصة الفضائيات الإنجيلية، ومن الصحف المحلية التي لا تعرف شيئاً عن العالم، وبسبب جهلهم يسقطون في التفسيرات الحرفية التي يمكن توظيفها بسهولة في خدمة أي هدف أو غرض، ومن هنا تأييدهم للدولة الصهيونية الأمر الذي تشجعه بطبيعة الحال النخبة الحاكمة.
والله أعلم.
نقلاً عن موقع الدكتور عبد الوهاب المسيري
واقرأ أيضًا:
الإمبريالية النفسية / الإنسان والتاريخ / أسئلة الهوية / الأمركة والكوكلة والعلمنة