ما كنت أتوقع أن يتجرأ أحد في سورية على الخروج متحدياً النظام السوري ولو بكلمة، لكن ذلك حدث وبجرأة واستبسال رائعين يدلان على أن السوريين تغيروا وصاروا جديرين بحكام أحسن وأقل سوءاً من حكامهم الحاليين. ما حدث في تونس ومصر شجع الشباب في سورية وأعطاهم الأمل في تغيير واقعهم وأعاد لهم الشعور أن الجهود يمكنها أن تؤثر، وأنه لا بد لنا من التحرر من اليأس والشعور أنه لا جدوى من المحاولة اللذين كانا مسيطرين علينا. لقد كان سقوط ابن علي ومبارك سريعاً وسهلاً ومغرياً للجميع بالمحاولة، لكن الأمور لم تنجح بنفس السهولة في اليمن وليبيا وسورية، ونحن مدعوون للتفكر في العوامل التي أدت إلى النجاح السهل السريع لثورتي تونس ومصر بينما تطلب الأمر دماراً واسعاً وشهداء بعشرات الآلاف وتدخلاً عسكرياً مكلفاً للإطاحة بالقذافي، ولم تثمر المليونيات العديدة في اليمن حتى الآن.
الذي علينا الانتباه له هو أن استقلال الكثير من بلادنا ما زال منقوصاً وما زالت الدول المستعمرة تمارس التحكم بمصائر بلادنا وسياساتها عن طريق التحكم عن بعد وبطريقة غير ظاهرة للعيان بحيث تعيش الشعوب العربية وهم الاستقلال بينما هي ما تزال في الحقيقة شبه مستعمرة.
خرجت فرنسا من تونس لكنها سلمت البلاد لمن يحكم تونس نيابة عنها ويضمن استمرار تبعية تونس لها في كل شيء، ولم يكن الحكام وحدهم من يعمل لحساب فرنسا هناك، بل حرصت فرنسا على الإمساك بخيوط التحكم بالجيش التونسي بحيث لا يستطيع أي حاكم أن يتمرد على فرنسا لو سولت له نفسه ذلك، وهكذا مرت عشرات السنين والشعب التونسي ينعم باستقلالية معلنة وظاهرية، لكنه مستعمر من قبل وكلاء الاستعمار الذين يضمنون للمستعمر الحد الأدنى من مصالحه بينما يترك لهم الحرية لينهبوا ويفسدوا كما يشاؤون لأنها الطريقة غير المكلفة له لدفع أجورهم.
ثم ذات يوم ثار الناس في تونس، وسقط شهداء، لكن ثورة الجماهير استمرت ووصلت إلى أسماع المستعمر الذي خاف أن تنجح الثورة في القضاء على كل الترتيبات التي مازال يحكم تونس من خلالها فكان لا بد له من إنقاذ الموقف عن طريق الاستجابة لمطالب الجماهير في التغيير سواء تغيير الوجوه أو إعطاء الحريات والديمقراطية، عندها كان القرار أن ابن علي عليه أن يرحل، وكانت التوجيهات للجيش التونسي أن يتركه يسقط، وأن لا يسانده أبداً في محاولته البقاء، كان الرجل أذكى من غيره فحمل ما خف وزنه وغلا ثمنه ورحل غير مأسوف عليه. وانتصرت ثورة تونس بيسر وسهولة لم تكن تخطر ببال الكثيرين.
إنه انتصار جزئي حيث ما زال الجيش التونسي على حاله وهو الجهة الوحيدة في البلاد القادرة على فرض ما تريد وقتما تريد لأن القوة هي الحق كما يقول المثل الإنكليزي. وهذا أبداً لا يقلل من قيمة التغيير الذي حصل في تونس لكن يجب الانتباه إلى أنه جزئي ونسبي ولن يكون جذرياً كما حلم الذين طالبوا به. الأمور لن تصبح مثالية في تونس قريباً، لكنها بالتأكيد ستكون أقل سوءاً، وسيكون الشعب التونسي قد حقق درجة أكبر من الاستقلال عن المستعمر الذي لن يزعجه أن تتحسن معيشة التونسيين وأن يتمكنوا من التعبير السلمي عن آرائهم طالما أن مصالحه الاستراتيجية مضمونة له.
ستأتي حكومات منتخبة تعبر عن اختيارات الشعب وستمارس سياسات تنطلق من مصالح الشعب لكن الجيش سيبقى دائماً جاهزاً لإجهاض أية ديمقراطية تهدد مصالح فرنسا وسياستها، أي تتجاوز خطوطاً حمراء بالتأكيد منها أمن إسرائيل والحيلولة دون قيام دولة إسلامية مماثلة للدولة الإيرانية.
ما حدث في تونس جعل المستعمرين يدركون أن الشعب التونسي قد تغير بعض الشيء ولم يعد قابلاً للاستعمار بنفس الدرجة التي كان عليها، وبالتالي لن يتحمل نمط الاستعمار السابق، ولا بد من التراجع أمامه ولو درجة . القابلية للاستعمار مفهوم اعتمد عليه مالك بن نبي رحمه الله في محاولته لفهم واقع بلداننا وتخلفها، وهو مفهوم مهم وصحيح. فبقدر ما يتحمل شعب من الشعوب من استعمار، وبقدر ما تكون الشعوب الغالبة مستعدة لدفع ثمن سيطرتها واستغلالها للشعوب المغلوبة، وبقدر المنفعة المتوقعة من استعمار أمة لأخرى، تتحدد نوعية الاستعمار ودرجته.
انتهت الحرب العالمية الثانية بهزيمة ألمانيا واليابان واستسلامهما دون قيد أو شرط، لكن الدول المنتصرة لم تقم باحتلالهما بل اكتفت بقواعد لها في أراضيهما وبفرض قيود سياسية وعسكرية عليهما، بينما نجح البلدان المهزومان في بناء أقوى اقتصادين في العالم بعد الاقتصاد الأمريكي. لم يمتنع الغالبون عن استعمار ألمانيا واليابان بالطريقة التي استعمروا بها بلادنا كرماً أو أدباً منهم، بل لأن شعبي البلدين غير قابلين لذاك النوع من الاستعمار، ولئن أصر الغالبون عليه فستكون الكلفة عالية جداً، أي هم استعمروهم بقدر ما يتحملون. والمتأمل يمكنه ملاحظة أن اليابان ما تزال غير مستقلة تماماً في سياستها الخارجية عن الولايات المتحدة التي تغلبت عليها . وهذا لا يعني أن وضع اليابان ليس أحسن من وضع البلاد العربية، ولا بد لليوم الذي تتحرر فيه اليابان من جميع آثار هزيمتها من أن يأتي.
أما مصر التي خرجت منها بريطانيا مهزومة وحصلت على قدر كبير من الاستقلالية فقد تم في عهد مبارك أن تحولت إلى شبه مستعمرة أمريكية. فمنذ كامب ديفيد ومصر تنفذ سياسات أمريكا في المنطقة وتتلقى ثاني أكبر مساعدات تقدمها أمريكا إلى دولة أخرى بعد إسرائيل. لكن هذه المساعدات أغلبها مساعدات عسكرية لا لأن أمريكا تريد تقوية مصر عسكرياً، بل لتصل تلك الأموال إلى الجيش المصري الذي صارت رفاهية ضباطه معتمدة على المال الأمريكي، وتحول كبارهم إلى موظفين عند أمريكا يقومون بضمان أمن إسرائيل وحماية النظام الذي ينفذ سياسات أمريكا.
قامت الاحتجاجات في مصر وكانت أمريكا ذكية حيث كان قرارهم منذ الأيام الأولى الاستغناء عن مبارك ومعاونيه من أجل أن تبقى مصر تحت نفوذها، أي تخسر مبارك ولا تخسر مصر. وهكذا كان. منذ الأيام الأولى للاحتجاجات سافر المشير طنطاوي إلى الولايات المتحدة وتكررت تطمينات الأمريكيين أن الجيش المصري لن يطلق النار على المتظاهرين، وأخذ الجيش المصري موقفاً سلبياً جعل مبارك يسقط بسرعة وسهولة، ولو أن الجيش المصري كان يتلقى تعليماته من مبارك لما سقط مبارك، ولكان الذين سقطوا بدلاً عنه عشرات بل مئات الآلاف من القتلى والجرحى.
عندما قامت الثورة الإيرانية عام 1979 كانت سلمية مئة بالمئة، وكان المتظاهرون يحملون الورود ويقدمونها للجنود، لكن الجنود كانوا ينفذون أوامر قادتهم ويطلقون النار على المتظاهرين حتى سقط أكثر من سبعين ألف شهيد، عدا عن أضعاف هذا العدد من الجرحى، قبل أن تبدأ حالة من التململ في الجيش الإيراني جعلت الشاه يغادر البلاد، ليقوم مجموعة من السياسيين الذين ترضى عنهم أمريكا بإعلان جمهورية إسلامية، كانت بمثابة نجاح جزئي للثورة الإيرانية التي قبلت بهذا التغيير الجزئي حتى حين، لتقوم بعد أشهر بثورة على الثورة، قامت فيها بتطهير النظام الجديد من كل من له ولاء لأمريكا، والذي ساعد على ذلك أن الثورة الإيرانية كانت منظمة ومخطط لها ولها قيادة موحدة ومطاعة إلى أبعد الحدود بخلاف ثوراتنا العربية الحالية العفوية الارتجالية.
نجحت الثورة في إيران في أن تكون كاملة وجذرية وتحررت إيران من التبعية للغرب تحرراً تاماً، ولا يخفى علينا مقدار الإرباك والإزعاج الذي سببته إيران لإسرائيل والغرب منذ سقوط الشاه. لكن ما حدث في إيران لن يحدث في مصر بل ستبقى مصر تابعة في سياساتها الاستراتيجية لأمريكا، وسيبقى الجيش المصري حارساً للمصالح الأمريكية والإسرائيلية في مصر حتى لو جاءت حكومات منتخبة تمثل الشعب المصري تمثيلاً حقيقياً، فهي لن تستطيع أن تخالف الجيش الذي يمسك بزمام القوة والقادر على الإطاحة بأية حكومة لا ترضى عنها أمريكا ولن يصعب عليهم إيجاد المبررات والأعذار لذلك. وحال تركيا وديموقراطيتها المنقوصة التي تعرضت للإجهاض مرات عديدة على يد الجيش التركي كلما تجاوزت الحكومات المنتخبة خطوطاً حمراء عنوانها علمانية الدولة، هذه الحالة تصلح توضيحاً للدور الذي يلعبه الجيش المصري الآن والمتوقع له أن يلعبه لعدة عقود قادمة.
مع ذلك فإن التغيير الذي وقع في مصر جيد وخطوة نحو التغيير الجذري المنشود، لكن التغيير الذي نحلم به لا يمكن أن يتم ما لم يكن التغيير في نفوس المصريين من حيث أفكارهم ومشاعرهم وأخلاقهم تغييرا كاملاً يتخلصون فيه من عللهم الاجتماعية ومن قابليتهم للاستعمار، وقد يحتاج المصريون لبلوغ ذلك إلى أجيال. المهم أنهم يسيرون نحوه والتغيير الذي أنجزوه في نفوسهم يجعلهم جديرين بنظام حكم أقل سوءاً وأكثر حفاظاً على كرامتهم ومصالحهم المعيشية، والأوضاع الجديدة ستساعدهم على المزيد من تغيير ما بنفوسهم لتتغير أحوالهم. فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وتغيير ما بهم يتناسب مع مقدار التغيير الذي حققوه في نفوسهم.
الوضع في ليبيا واليمن مختلف حيث يمسك الحاكم بعوامل القوة في البلاد ويضمن للمستعمر تحقيق السياسات التي يريدها مقابل أن يتركه يفعل ما يشاء ويساعده على القضاء على خصومه السياسيين بغض النظر عن المباديء والقيم، فالغربيون منافقون بما يخص حقوق الإنسان، وكما قال الشاعر، فإن قتل شخص واحد منهم جريمة لا تغتفر، بينما قتل شعب آمن منا قضية فيها نظر.
الغرب خائف من مجيء حاكم لا يكون مخلصاً لهم مثل علي عبد الله صالح، لذا تراهم لا يدعمون الحراك الشعبي دعماً حقيقياً، بل يدعون إلى تغيير يتحكمون به، تعبر عنه المبادرة الخليجية ،مع أنه صار واضحاً أن استمرار علي عبد الله صالح ليس في صالح أحد. لو كان الجيش اليمني يتلقى التعليمات من دولة أجنبية لسقط علي عبد الله صالح ربما بنفس السرعة والسهولة التي سقط فيه ابن علي ومبارك، لأنه وقتها لن تتردد القوى الاستعمارية في تغييره إرضاء لشعب صار واضحاً أنه الآن أكثر وعياً وأقل جبناً. ولو كان البديل عن صالح جاهزاً لما تمكن صالح من العودة إلى اليمن بعد أن خرج منها مصاباً، لكن ما زال في ظن هذه القوى أن صالح خير من غيره ريثما تتم ترتيبات لإحداث تغييرات ترضي الناس جزئياً دون أن تكون جذرية تهدد مصالح الغرب في اليمن والمنطقة.
1/10/2011
يتبع................. ما يحدث في سورية: إلى أين؟2
واقرأ ايضًا:
مخيم اليرموك وذاكرة الأسنان اللبنية / مرسي والكرسي / الحكم بالأزمات / السقوط الثوري / الفوز للكرسي أم للوطن؟ / الشك الثوري