الحبيب أ.د وائل، طلبت مني أن أكتب عن يومياتي في رابعة والمشكلة معي الآن أنني غير قادرٍ على الخروج من "الشعور بما يجري" إلى "تحليلِه". الملامح الأساسية واضحةٌ، ولكن تفاصيل ما يجري في الأنفس أعمق من أن تؤخذ بمقاييس سطحية، أو لقاءات عارضة. الأمر في حاجة إلى معايشة المعتصمين، معايشةً كاملة: مبيتاً، وطعاماً، وحراسات، ومسيرات -معايشة تامة- حتى نخرج ببعض ما نحتاج إليه.
أما "سياحة المعرفة" التي أتبعها أنا أو غيري فلن تمنح إلا ملامح ظاهرة، يعرفها الآخرون قبل أن نكتبها لهم. لكني أحدثك عن نفسي في الأيام الثلاثة الماضية، باعتباري "حالة" ".. لا "محللاً". ليلة مذبحة المنصة كانت فارقةً في العدد، والامتداد في المكان. كانت "ذروةً" لتصاعد الأحداث المتشابكة منذ شهر، وكانت صبيحتها هُوَّةَ الإحباط!!
أفطرت يوم الجمعة في الميدان مع إخوةٍ من الصعيد... ضمن أمواج البشر الهائلة، وأنا أودعهم بعد الإفطار كانوا يتأهبون للخروج إلى الحراسة..وقف أحدهم وكلم "المسئول": يا عم مش عايزين الحراسات دي، عايزين حاجه فيها غاز، فيها حاجه تستاهل، زي اللي كانت عند الحرس الجمهوري كده!!!
رجل ريفي، ممتلئ الجسد، بسيط، أظنه لم يزر "مدينة نصر" من قبل، ولكنه الآن "مزروعٌ في ميدان رابعة"، وكأنما هو هنا قبل أن يُبنَى المسجد!! بالأمس قابلت صديقه، فاعتذر لي بالانشغال، لأن أخانا الذي كان يطلب حراسةً فيها "غاز"، في المستشفى الآن، بعد أن أصابته رصاصة في رأسه!!....... كل من تقف معه هنا لديه قصَّة، وفي قلبِ كلِّ قصَّة شموخ إنسانٍ كنت تمرُّ به من قبل دون أن تأبَه له.
في ليلة المنصة، اتصل بي أخي، وأخبرني أنه عند المنصة، وهم يطلقون الغاز عليهم. في ليلة المنصة كنا أربعة إخوة، وابن عم، وابن عمَّة. كلنا زُوَّارٌ للميدان وكلنا يشعر بالذنب أنه لم يعتصم، وكلنا موقنٌ أن ما يجري هنا يحدد مستقبل العالم العربي، لعشرات السنين المقبلة. وأنا في منزلي في رابعة، كانت أصوات الرصاص لا تنقطع، من بعد الفجر حتى السابعة، حين نمت. في العاشرة والنصف كنت أمام منصة رابعة، الإخوة والأخوات د. صلاح سلطان على المنصة، ثم شيوخ بعده. الناس واقفةٌ كما أعهدهم، يهتفون بالهتاف الذي تكرر حتى أصبح عقيدة، منذ اليوم الأول للاعتصام.
كنت أخشى أن تكون مذبحة المنصَّة هوَّة الإحباط الذي تسقط فيها إرادة المعتصمين ويبحث الأفراد بعدها عن "مخرجٍ آمن"، أو تذوب الأنفس كمداً وهي تُرمى في المعتقلات عشرين سنةً قادمة. التقيت بأعداد من الشباب، وكانت الإجابات –بعد تحليل طويل- تقف عند حجر الزاوية: نحن هنا، ننتظر قضاء الله، هو الأعلم الأحكم. كان بعضهم مسَلِّماً بالقضاء حيث كان، والبعض يسأل ربه: ربنا هذا آخرُ البذل، فامنحنا أوَّل العطاء!!......
البارحة أعلنوا عن مسيرة، تخرج من رابعة، تتحرك من أمام طيبة. خرجنا ونحن لا ندري أين الوجهة، ولكنها المسيرة!! كانت المسيرة نهراً متدفقاً من الأحرار والحرائر، خرجت من هذه المسيرة بقواعد لي، أولها: أن القراءة عن الحريَّة لا تصنع الحريَّة، وإنما ممارستُها، البذل لها، معايشةُ آلامِها، في العلاج النفسي يسألنا الناس دائماً عن الأساليب "السهلة، اليسيرة"، التي تخلصهم من آلامهم، ونحن نؤكد لهم أنه دون "بذل ومجاهدة" لن يحدث "تَحَسُّن". في المسيرة شعرت أنني كنت أسير في الاتجاه الخطأ، حين بحثتُ عن تكوين "صفاتٍ كريمةٍ" في نفسي فقط بالقراءة عنها!!
والثانية: أن أبطال التاريخ كانوا بشراً، مثل كل من أراهم حولي في المسيرة الآن، حين تعايش التاريخ لا تملك إلا أن تضع فاصلاً بين "اليومي، التافه، المتكرر" وبين "العظيم، المفارِق، السامي"، في المسيرة تشعر أن "المُفارِق" ينبتُ من "العادي"، و"التفرُّد" يصاحب "التكرار"، والعظيم هو أنت، حين تأذن للعظمةِ فيك أن تأخذَ مكانَها.
الثالثة: بركةُ الجموع، كلُّ واحدٍ ممن سار في المسيرة واحدٌ..!! ولكنه حين ينتظم في جمعٍ له هدفٌ سامٍ جامعٌ، يشكِّلُ مع المجموع عظمَة الإنسان. إذا أردنا أن نساعد أنبلَ ما في الإنسان على أن يخرجَ، فلابد من "هدفٍ"، و"جَمع".
الرابعة: أن هُوَّة الإحباط التي سقطتُ فيها بعد مذبحة المنصَّة صارت وقوداً لوثبةٍ جديدة، كانت الجموع هائلة، والروح في الذروة، والهتاف يتصاعد، والسيارات على الطرف الآخر تتناغم بأبواقها معنا، ويلوح الكثير من ركابها بشارة النصر، ويرفع سكان البيوت لنا أعلام مصر.
وقفنا أمام المخابرات الحربية، وصلينا صلاة الغائب، وهتفنا، ونظرنا إلى مبناها بمن فيه: هذا المكان لنا، لشعب مصر، فلماذا يُصرُّون على أن يجعلوا بيننا وبينه جبلاً من النار، والقتل، والمَجهَلة؟! سيلٌ هادرٌ من البشر، هتاف يستخرج من الكوامِن بذورَ الذل، ويحرك في الروح أشواقَ الحريَّة.
بالأمس شعرت أن الدائرة تضيق على الظالم، والروح تتسع.. في المظلوم. هؤلاء الذين رأيت، لن يرجعوا، ما دام لهم هدفٌ جامعٌ، وهم أرواحٌ مؤتلِفة. بالأمس شعرت بمعنى الحريَّة، حقاً وبأن عملك، وعملي أن نعيشها أولاً، ثم نحملها إلى من لم يذق طعمها. شعرت بمعنى أن يكون "العلاج النفسي" فتحاً لأبواب الحريَّة، في قلب من يستعبِدُه "الاضطراب". ولكن الحرية تبدأ مني، قبل أن تنقلها مواعظي إليه!!......... هذا بعض ما عايشته، والقادمُ أجمل، إن شاء الله.
واقرأ أيضًا:
الثورة بحق وحقيق والثورة تمثيل ! / نظارة السيسي السوداء نهاية تمثلية الثورة ! / دور الشرطة المصرية في إفشال الانقلاب!