جمعني لقاء مع أحد المشايخ الطيبين الزاهدين والذي يتميز بروحانية وصفاء ونقاء يقربك من الله، وذكر لي بنبرة حزينة التحول الذي حدث في إدراك الناس ومشاعرهم تجاه من تبدو عليهم علامات التدين، حيث كانوا يشعرون بالأمان والطمأنينة تجاه الشيخ ذي اللحية على أنه رجل طيب، أما الآن فأصبح الأمر مختلف نتيجة الصراعات السياسية القائمة.
ظلت هذه الفكرة تشغلني طوال الفترة السابقة خاصة كلما اشتدت الأحداث واحتدم الصراع بين أنصار الإسلام السياسي والسلطة، وأشعر بالألم كلما ظهرت صورة الشاب الملتحي في المظاهرات والذي ألقى بثلاث ضحايا من فوق سطح أحد العمارات، وقد ذكر في التحقيق أنه نادم "فقط" لأنه لم يستطع أن يجعل الشخص الأخير الذي ألقاه ينطق بالشهادة!!. وتكرار هذا المشهد وغيره ينتج عنه ارتباط شرطي بين المتدينين والعنف سواء كانوا هم المحرضين عليه أو القائمين به أو حتى كانوا ضحاياه. والعنف ليس فقط عنفا جسديا، بل قد يكون لفظيا وهذا ما ألحظه ويلحظه غيري من ميل الشباب المنتمي لأحد فصائل تيار الإسلام السياسي إلى السب والشتم وسرعة الاتهام والتخوين تجاه أي مخالف لهم في الرأي، وكأنه يملك هو الحق المطلق وكل من يخالفه يصبح في دائرة الضلال والتآمر.
ولقد جاءت أم بطفلها إلى العيادة لأنه يرفض الذهاب إلى المدرسة خوفا من "السنيين"، وتكرر هذا الموقف مع أطفال آخرين وحتى مع كبار يخشون الخروج إلى الشارع لنفس السبب أو تأتيهم كوابيس فيها مشاهد تتصل ببعض من تبدو عليهم مظاهر التدين، لدرجة أنني خشيت أن يصبح لدينا "فوبيا السنيين". وقد يعترض معترض فيقول: "ولماذا لا يخاف هؤلاء أيضا من رجال الشرطة والجيش وهم يرونهم يفضون الاعتصامات بالقوة ويطلقون النار على المتظاهرين؟؟"
وهنا أقول: ربما يحدث ذلك، ونحن نسعى أن ينتهي العنف والعنف المضاد في المجتمع، وهناك قاعدة تقول: "قدم المعروف تجده"، ونحن نأمل أن يكون المتدينون بادئون بتقديم المعروف والمبادرة بنزع فتيل العنف، والميل للتصالح وعودة الوئام رغم كل الجراح والآلام، ووقتها لن يجد رجال الشرطة أو الجيش مبررا لضرب أحد.
وأتحسر على أيام كان جل نشاط الإسلاميين عبارة عن أعمال خيرية، بناء مساجد ومدارس، دعم مستشفيات وتأسيس مستوصفات خيرية للفقراء، وبناء مؤسسات لرعاية الأيتام، ومساعدة الأرامل والمطلقات، وتزويج الفتيات، والإصلاح بين المتخاصمين، وتغسيل وتكفين الموتى ودفنهم على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإغاثة الملهوفين وتخفيف كروب المكروبين، هذا إضافة إلى دورهم الدعوي والتربوي في تنظيم الخطب والمحاضرات والندوات الدينية واستدعائهم لكبار الدعاة المحبوبين والمؤثرين.
ولا أنسى ذلك الشاب المسلم الملتحي حين دخل عليّ وأنا في المستشفى وكان يحمل رجلا عجوزا قبطيا مريضا، وظل معه حتى تم عمل التدخلات الطبية اللازمة وذهب واشترى له علاجات من الصيدلية، ثم حمله عائدا إلى بيته، وظل يحضره بنفس الطريقة كل أسبوع للمتابعة حتى شفي من مرضه، وكان الرجل يدعو له بمفردات الدعاء المسيحية فيربت الشاب على كتفه في مودة وحنان.
لقد تراجع الدور الدعوي والخيري للجمعيات والجماعات الإسلامية في العامين الأخيرين حين تورط الجميع في العمل السياسي والصراع السياسي وغرقوا في المستنقع السياسي إذ يبدو أنهم لا يجيدون لعبة السياسة ولا يعرفون دهاليزها ومكرها، وبدلا من أن يكونوا رحمة لكل أفراد المجتمع ومحبوبين للجميع على أنهم أناس طيبين "بتوع ربنا" وأهل خير، أصبحت الصورة أنهم فريق سياسي يسعى إلى السلطة ويقاتل من أجلها (بدعوى الشرعية أو سعيا نحو تحقيق المشروع الإسلامي أو الخلافة الإسلامية)، وأنهم مستعدون لاستمرار الصراع على السلطة حتى لو تحول الأمر إلى حرب أهلية تحرق كل شيء، وحتى لو استدعى ذلك تدخلا دوليا، أو أوروبيا، أو أمريكيا.
واستغل الكارهون للتيار الإسلامي هذه الفرصة وخلطوا الأوراق وضخموا الأخطاء وسلطوا الأضواء بقوة عليها، وأبرزوا مواطن الضعف، ومساخر بعض المنتسبين لهذا التيار، ثم استغلوا حالة الصراع القائمة ونسبوا كل الموبقات والرزايا إلى التيار الإسلامي دون تمييز، ووصموه بالإرهاب والتطرف وانعدام الانتماء.
ولا ينكر أي محلل موضوعي مسئولية بعض فصائل وقيادات التيار الإسلامي عن هذه الصورة المشوهة من خلال تصرفات وسياسات طائشة وطامعة وفاشية وفاشلة، ومن خلال الإنهماك واستنزاف الطاقة والوقت والمال والنفوس في السياسة والصراع السياسي أكثر مماينبغي وكأن السلطة هدف في حد ذاتها، وجاء ذلك على حساب النشاطات الإيجابية والبناءة التي كانت قائمة قبل ذلك وكانت تجعل للتيار الإسلامي صورة طيبة عند عموم الناس (باستثناء قطاعات من النخبة العلمانية التي تكره هذا التيار بكل مظاهره وتجلياته ومعتقداته).
والآن وبعد الخسائر الفادحة التي تكبدها التيار الإسلامي في الصراع السياسي، هل يفيق ويحاول التوقف ومراجعة الموقف وإعادة الحسابات ومراجعة الأهداف ومعرفة حجم المكاسب والخسائر التي نتجت عن التورط أكثر من اللازم في هذا الصراع العبثي، أم يظل في حالة مواجهة دائمة تستنزف مابقي لديه من رصيد وتزيده تشوها في وعي الناس؟؟
نعم لقد أدرك التيار السلفي (أحد فصائل التيار الإسلامي ذي الشعبية الواسعة في المجتمع المصري) هذا الأمر وبدأت تتسرب أخبار عن نية هذا التيار في العودة إلى المساجد والتفرغ لتربية النشء وتعليم الناس أمور دينهم، وإعطاء اهتمام أكبر للعمل الخيري الموجه نحو الناس، كل الناس، بعيدا عن التقسيمات والصراعات الحزبية والسياسية التي فرقت الناس وجعلتهم يتقاتلون على أعراض دنيوية. ولقد أطلق أحد كبار الدعاة صيحة "عودوا إلى مساجدكم"، وأعلن قبل شهور انسحابه من العمل السياسي وتفرغه للعمل الدعوي الخالص. وورد اليوم (23/8/2013م) خبرا في الصفحة الأولى لجريدة الوطن تحت عنوان: "مفاوضات مكثفة بين الإخوان والدولة لحل الأزمة، الجماعة توافق على الحل السياسي، و"بشر": نحترم رأي الشعب الذي خرج في 30 يونيو، وهناك أخطاء في فترة "مرسي".
وكما ننادي بابتعاد الجيش والقضاء والشرطة عن الدخول في الأحزاب والاستقطابات السياسية، ننادي أيضا بأن تظل النشاطات الدعوية غير متحيزة أو متحزبة أو مستقطبة لأنها تمنح الخير والرحمة والهداية لكل الناس بلا تفرقة تحقيقا للآية الكريمة "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".
وبعد التيار الإسلامي الدعوي عن الصراع السياسي لا يعني عزل الدين عن الحياة، بل على العكس هو يقوم بتربية الناس (كل الناس) وتعليمهم العقيدة الصحيحة وترسيخ القيم الأخلاقية الرفيعة في نفوسهم، وهذا يرتقي بالمجتمع ككل ويجعل الناس يختارون من لديهم القيم الدينية والأخلاقية في مواقع المسئولية.
واقرأ أيضاً: