كيف يتكون السلوك التديني:
التدين سلوك بشري يتشكل من تفاعل شخص أو جماعة مع المنهج الديني كما يفهمه أو كما يفهمونه، ويتشكل السلوك التديني عبر المراحل التالية:
1 – النص الديني، وهو نص مقدس مصدره الوحي، أو أقوال النبي أو الرسول التي صح نسبتها إليه.
2 – تفسير النص الديني، وهو اجتهاد بشري يرتكز على قواعد لغوية وفهم مقاصد الشريعة وظروف نزول النص وأقوال الصحابة والتابعين فيه.
3 – فهم النص الديني، ويختلف من شخص لآخر حسب اختلاف الأفهام.
4 – صياغة مشروع سلوكي (شخصي أو عام) بناءا على فهم الشخص أو الجماعة للنص الديني.
5 – تنزيل المشروع السلوكي على الواقع، بمعنى تحويله إلى فعل يومي على الأرض ووسط الناس.
ومن هنا نفهم اختلافات الناس في أنماط تدينهم على الرغم من انتمائهم لدين واحد أو لطائفة دينية واحدة، وأيضا نتوقع أنماط تدين بتعداد البشر حتى ولو اتبعوا جميعا دين واحد، فالتدين من هذا المنظور يصبح كبصمة الإصبع يميز كل شخص عن الآخر، ومن هنا يأتي الإنسان أمام الله فردا يوم القيامة يحاسب على ما كسبت يداه.
التدين بين الحب والصراع:
ولكي نبسط الموضوع بعض الشيء نستدعي نظرية أن الحياة على الأرض يحكمها قانونان رئيسان: قانون الحب وقانون الصراع ، فقانون الحب نشأ مع العلاقة بين أبينا آدم عليه السلام وأمنا حواء، أما قانون الصراع فنشأ مع العلاقة بين قابيل وهابيل. ومن حسن الحظ أن قانون الحب سبق قانون الصراع، وهو أقوى منه في الأغلب ولذلك نجد أن الحياة تستمر وتتطور على الأرض رغم مايدور بين البشر من صراعات، ولو كان قانون الصراع هو الأقوى لانتهت مظاهر الحياة بفعل الصراعات والحروب بين البشر. وكل شخص يأخذ بقدر من هذين القانونين فتتشكل لدينا ألوان طيف هائلة في السلوك البشري، من أناس يفيضون حبا وحنانا ورحمة وإيثارا وتسامحا إلى أناس يفيضون غلظة وقسوة وعدوانا وانتقاما، وبينهما درجات بينية عديدة.
إذن حين يستقبل شخص (أو مجموعة من الناس) الحقيقة الدينية على دائرة الحب فإننا نتوقع إدراكا سمحا واسع الأفق للدين وللحياة وللبشر يفجر في نفس صاحبه الحب والرغبة في العطاء والرحمة للبشر (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، أما إذا وقعت الحقيقة الدينية في دائرة الصراع في النفس البشرية فإنها تتشكل في صورة استعلاء ديني عنصري وكراهية للآخر واحتقار له والدخول في صراع دائم مع كل من يختلف مع فهم الشخص للحقيقة الدينية، ومن هنا يتشكل ما نطلق عليه التدين الصراعي.
سمات التدين الصراعي:
1 – يقوم على فكرة الإستعلاء العقيدي لدى الشخص (أو الجماعة)، فيرى نفسه أفضل من الآخرين وجدير بقيادتهم والتحكم في توجهاتهم حتى ولو لم يرضوا بذلك فهم في رأيه لا يعرفون مايصلحهم، بمعنى أنهم في حالة ضلال. وهو يقرأ الآية الكريمة "ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين" على أنها موجهة له شخصيا، ولم لا وهو حامل راية الدين من دون سائر البشر الغارقين في الضلال، ويقرأ الآية الكريمة "إن أكرمكم عندالله أتقاكم" على أنها تقصده هو، فهو الأكرم والأتقى والأنقى.
2 – يفترض دائما أن الآخرين في حالة رفض وكراهية وتآمر على الدين ومن يمثلونه، أي أن ثمة مؤامرة محلية وكونية دائرة طول الوقت لاجتثاث الدين ومن آمنوا به.
3 – يستشعر هشاشة الدين وضعفه وقابليته للإجتثاث والمحو، ولهذا يكون دائم القلق والخوف على ضياعه.
4 – يستشعر مسئوليته الشخصية عن بقاء الدين على الأرض وأن زواله يعني زوال الدين، وينسى أن الله سبحانه تعهد بالحفاظ على الدين (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).
5 – يستشعر المسئولية نحو دفع الناس للإيمان بالدين حتى ولو قهرا ، وينسى أن الله تعالى جعل الأمر اختيارا (فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر) (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي).
6 – يلجأ للسرية دائما ليحتمي من الأعداء الكثيرين المتوقعين أو المتوهمين، ويبرر ذلك بأن الأديان في أغلبها لجأت للسرية للحفاظ على أتباعها، وينسى أن ذلك كان يحدث لفترة قصيرة جدا (سنوات قليلة) تكفي فقط لتكوين النواة اللازمة من الأتباع ليحملوا رسالة الدين وليتحملوا رفض النظم القائمة لانبثاقة الدين الأولى.
7 – يلجأ للتقيّة ليناور بها الأعداء المنتشرين في كل مكان (حسب إدراكه) فتتشكل حالة اذدواجية في السلوك فيخالف ظاهره باطنه ويحدث بذلك حالة ارتباك وعدم مصداقية لكل من يتعامل معه.
8 – يسئ الظن ويتشكك في نوايا الآخر ويعتبره عدوا (ظاهرا أو كامنا) للدين يجب الحذر منه طول الوقت، ويكون أقرب للتركيبة البارانوية التي لا تثق بأحد.
9 – يعيش في مجموعات مغلقة تتبنى نفس الفكر وتنهج نفس السلوك وتحتمي ببعضها من القهر الخارجي، ويوظف حالات التهديد أو القهر الخارجي ليحافظ به على تماسك المجموعة وتميزها عما يحيط بها من بشر.
10 – ينعزل وتنعزل معه مجموعته عن الفضاء المجتمعي الأوسع، ويفقد القدرة على التواصل المفتوح
11 – يهتم بامتلاك أدوات القوة والسيطرة والتحكم استعدادا لمعارك قادمة ومؤكدة في وعيه
12 – يتورط في ممارسات عنف من وقت لآخر وربما يستمر طول الوقت في سلوك العنف، وقد يعتذر في بعض المراحل عما اقترفه من العنف ويعلن بعض المراجعات لينال قبولا مجتمعيا أو يحقق مصالح في فترة بعينها ولكن حتما سيعاود سلوك العنف لأنه أمر جوهري في تكوينه نابع من فكرة الصراع المقدس أو الذي يضفي عليه هو القداسة.
13 – تغيب عنه روحانيات الدين ومعانيه العميقة ويتمسك بالشكليات والمظاهر والنصوص.
14 – لا يتورع عن أي سلوك براجماتي (نفعي) أو انتهازي لأنه يعتبر نفسه في معركة ولها ضرورات تبيح مايفرضه الدين من محظورات.
15 – تتغير الموازين الأخلاقية والمعايير السلوكية حسب الظروف والأحوال فالبوصلة متجهة دائما نحو تحقيق أهدافه.
16 – يتميز سلوكه في فترات الصراع والمواجهات بالعنف اللفظي (السب والشتم والدعاء على المخالفين له في آرائه وتوجهاته) والبدني الظاهر على الرغم من تظاهره في الأحوال العادية بالطيبة والهدوء والورع.
17 – في حالة استنفار دائم وجاهزية للاشتباك.
18 – يبالغ في استخدام الدفاعات النفسية كالإنكار والتبرير والتهويل والتهوين والإزاحة لكي يرى حقائق العالم كما يريد أن يراها وليس كما هي على أرض الواقع، وهذا يجعله منفصلا تماما عن الأحوال المحيطة به فتتخبط قراراته وتضطرب خطواته ويصاب بفشل ذريع يقوم بإسقاطه فورا على قوى الشر التي يراها تحوطه في كل مكان وتتكون من كل من هو مخالف له، فيقوم بسبهم والدعاء عليهم ويدخل في حالة عداء تجاههم.
استدعاءات التدين الصراعي:
ينتج عن حالة التدين الصراعي لدى الفرد أو لدى الجماعة ردود أفعال من الوسط المحيط به (سلطة أو شعبا) تتوجه نحو ذلك المتدين الصراعي بالإيذاء البدني أو اللفظي أو الاغتيال المعنوي، ويسير هذا الأمر في الخطوات التالية :
1 – استدعاء الكراهية، حين يكتشف الناس حقيقته أو يتوجسون من خطره أو يقلقون من غموضه وسريته أو يعانون من سلوكه الانتهازي الذي يستغل الدين لتحقيق مصالح خاصة.
2 – استدعاء المحنة، بأن يؤدي السلوك الشخصي أو الجماعي لإيقاع الأذى والمطاردة والمحاصرة والسجن والإعتقال وربما القتل لأصحاب التدين الصراعي، وهم يستلذون المحن أحيانا في حالة من الماسوشية، ويبررونها على أنهم أبرار وأطهار في مواجهة كفار أو ضالين أو ظالمين.
3 – استدعاء المظلومية والاضطهاد، حيث تتكرر المحن والمصائب نتيجة تكرار سلوكيات التدين الصراعي ، فتتشكل منظومة من مشاعر الظلم والإضطهاد لدى الشخص أو المجموعة المضطهدين، كما تتشكل علاقة سلبية بينهم وبين سائر المجتمع المحيط بهم والمتوجس منهم خيفة والمعادي لهم.
4 – استدعاء الوصم، بمعنى أن تتشكل صورة ذهنية منفرة ، ويحمل الشخص أو المجموعة وصمة تجعله محل اذدراء وكراهية من المجتمع. وقد تلعب وسائل الإعلام بنفسها أو مدفوعة من السلطة دورا في شيطنة وتشويه أصحاب التدين الصراعي كراهية لهم ونكاية فيهم.
5 – استدعاء العنصرية، حيث يتعامل الناس مع أصحاب التدين الصراعي بشكل عنصري فيمارسون ضدهم التمييز العنصري فيمنعونهم الوظائف الهامة ويطاردونهم ويلاحقونهم طول الوقت ويلحقون بهم الأذى الذي ربما يصل إلى القتل.
6 – استدعاء الإقصاء والنبذ وربما الإجهاز والمحو
التدين الصراعي في المجال السياسي:
ولقد ابتلي العالم العربي والإسلامي بأفراد وجماعات تمارس هذا النوع من التدين الصراعي كانت تتوالد ذاتيا من بعضها البعض، منها من يبدو هادئا معتدلا في بعض المراحل ثم يتحول إلى العنف، ومنها من يبدأ عنيفا منذ البداية، وقد أرهقت تلك الجماعات مجتمعاتها وأدخلتها في تقسيمات وصراعات وانشقاقات على أسس دينية ومذهبية وطائفية. وفي الحقيقة لم تقتصر مجموعات التدين الصراعي على المسلمين (سنة وشيعة) فقط ولكنها ظهرت لدى بعض الطوائف المسيحية كما ظهرت لدى اليهود وبعض الديانات الأخرى.
ودخلت أغلب هذه المجموعات في الصراع السياسي باسم الدين ومن هنا تشكل ما سمي بتيار الإسلام السياسي الذي استقطب أعدادا كبيرة من الشباب يتوقون بنية طيبة إلى تحقيق مشروع حضاري إسلامي وإلى إعادة المجد للإسلام وإلى تحرر المجتمعات الإسلامية من قبضة السيطرة الأجنبية، وقد فرض على هذا الشباب مبدأ السمع والطاعة بدعوى "الجندية" واستغلت حماسته وقودا في الصراعات السياسية وصراعات المصالح باسم الدين، وزج به في مواجهات مع السلطة (أي سلطة) ومع فئات الشعب الرافضة للهيمنة والتسلط باسم الدين.
وبعض المدافعين عن هذه الجماعات يدّعي بأنهم حموا الدين أثناء المد الشيوعي، وأنهم حافظوا على الهوية الدينية للمجتمع أمام حركات المد العلماني، وأنهم جعلوا تلك الهوية في حالة نشاط وتوهج خاصة مع انطفاء وذبول المؤسسات الدينية الرسمية، وأنهم شكلوا معارضة قوية للحكام المستبدين وكانوا هم المعارضة الأقوى والمهددة لهم، وهذا كله غير صحيح، إذ أن جماعات التدين الصراعي أعطت صورة مشوهة ومنفرة عن الدين، ووضعته في حالة صراع مع السلطة طول الوقت ومع فئات أخرى في المجتمع؛
وأعطت المستبدين تكئة ليستمروا في حكمهم واستبدادهم عقودا طويلة وهم يستخدمون جماعات التدين الصراعي كفزاعة للداخل والخارج ويصيغون القوانين وبها الكثير من المحاذير والقيود لكي يغلقوا الباب أمام محاولات تسلل قوى التدين الصراعي إلى السلطة وفرضوا الطوارئ سنوات طويلة ليتمكنوا من السيطرة عليهم طول الوقت. أي أن المجتمع كله كان يدفع ثمنا باهظا لذلك الصراع العبثي بين السلطة المستبدة وجماعات التدين الصراعي الطامحة إلى الحكم والطامعة فيه طول الوقت.
وقد رفعت تلك الجماعات شعارات سياسية مختلطة بالدين ومارست الحشد السياسي باسم الدين بدعوى أن الدين يشمل كل شئ في الحياة بما فيها السياسة، ولكنها في الحقيقة كانت تغرق في الممارسات والأطماع والصراعات السياسية طول الوقت تحت غلالة رقيقة وهشة من التدين مما أحدث التباسات شديدة في المجتمع وصراعات عبثية على الهوية والتوجهات استنزفت قوى المجتمع وأخذته بعيدا عن مشاكله وهمومه الحقيقية وحرمته من جهود التنمية الحقيقية ورسخت لانتشار حالات من ادعاء التدين تغطي على طبقات فساد متراكمة لدى الفرد والمجتمع.
وللإنصاف فإن بعض هذه الجماعات كانت تقوم ببعض الجهود في العمل الخيري والتربوي والدعوي في وقت غاب فيه دور الدولة عن الفئات الفقيرة والمهمشة، وهذه الجهود خلقت قاعدة جماهيرية لتلك الجماعات في وقت من الأوقات، ولكن هذه القاعدة ضعفت كثيرا في الشهور الأخيرة مع غرق تلك الجماعات في الصراع السياسي وما ارتكبته من أخطاء كبيرة عرضها لمعاودة القمع والاضطهاد والمظلومية وأنشأ توجها عنصريا تجاهها اختلف هذه المرة في أنه ليس قادما من السلطة فحسب ولكنه قادم من السلطة وفئات غير قليلة من الشعب.
والسؤال هنا: هل تتم في هذه الظروف مراجعة فكرة التدين الصراعي من جذورها، أم يدخل أصحابها في دورات جديدة من استدعاءات القهر والاضطهاد والمظلومية بلا نهاية خاصة وأن لهم أعداءًا كثرا في الداخل والخارج؟؟.
واقرأ أيضا:
فتنة الجامعة... لا إقالة ولا استقالة / ليسوا مشايخ بل مجرمين / شخصية الغزالي / المجتمع الأبوي والسلطة
التعليق: أعلن مقاطعتي التامة لموقع مجانين لإصراره على الخروج عن المهنية والحيدة العلمية بنشر تحليلات المدلس المدعو محمد المهدي التي يصر فيها على إسقاط مفاهيم الطب النفسي على موقف سياسي متحيز، ووصف الطرف الآخر بأشكال من الخلل النفسي لايهام القارئ إن هذا هو راي العلم، وهو ما يفقدني الثقة في كل ما ينشر على الموقع من تحليلات صادرة عن المتخصصين، والتي كنت وغيري أعتبرها مقالات علمية يمكن البناء عليها