دخل عبد الرحمن على الطبيب النفسي في أحد أيام الشتاء الباردة لكنه رغم ذلك كان جبينه يتفصدُ عرقًا وكان يمسح حبات العرق بمنديله ما بينَ الفينة والفينة، كما كان يحملُ في يده مظروفًا منتفخا يبدو عليه القدم، وقال للطبيب: لقد جئتكَ لكي تفصلَ لي في أمرٍ يطولُ شرحهُ لكنني لم يعد لديَّ حلٌّ آخر فهل ستسمعني؟ أنت ثالثُ طبيبٍ نفسي ألجأ إليه وأتمنى أن تصبرَ علي، فطمأنهُ الطبيب وطلبَ منه أن يبدأ حكايته فقال:
في مثل هذه الأيام منذ سنتين صحوت من نومي في الصباح وأنا أشعرُ شعورًا غريبا في نصف وجهيَ الأيسر ولكنني لم أنتبه إلا عندما أخبرتني زوجتي بأن فمي ينحرفُ ناحية اليمين عندما أتكلم، وهكذا كنت في نفس اليوم عند جراح المخ والأعصاب وأنا في منتهى الخوف لأن والدي توفي بسبب الشلل النصفي وكان فمه يميل بنفس الطريقة وفي نفس الاتجاه عندما يأكل، المهم أن الطبيب قال لي أن حالتي هيَ شللٌ في العصب السابع، وأنها تعالجُ وليست كحالة والدي، وأنني محظوظٌ لأنني ذهبت إليه بسرعة قبل أن تصبح حالتي كحالة والدي، وهذه كانت البداية... فقد قيل لنا أكثر من مرة أن الأطباء تأخروا في تشخيص الحالة وأن كثيرا من الأعراض التي كان يشتكي منها كانت تستدعي اهتماما أكثر مما أعطيت وربما لو عولجئت في وقتها ما وصل الأمر إلى ما وصل.
وهنا بدت على الطبيب النفسي الدهشة وسأله: هل قال لك جراحُ المخ والأعصاب ذلك أم أنك تضيف مخاوفك إلى كلامه؟ فأجابَ بأن جراح المخ والأعصاب قال بالحرف الواحد: أنت محظوظٌ لأنك جئتني في نفس اليوم لكي لا يحدثَ لك مثلما حدثَ لأبيك، وأضاف أنهُ عرفَ أن ما قاله جراحُ المخ والأعصاب لم يكن سوى نوع من المبالغة من أجل أن يلتزم بالعلاج، فهذا ما قاله له اختصاصي العلاج الطبيعي الذي عالجه وطمأنه عدة مرات، لكن المشكلة لم تنته معه، فرغم أن فمه ووجهه وعينه اليسرى عادت جميعها إلى طبيعتها ولم يعد أثرٌ لتلك الحالة إلا أنهُ من يومها وهو يخافُ من المرض ويشعرُ أن الأمراض جميعا تتربص به، وبدأت أحاسيس غريبة تضايقه في بطنه لا سيما السخونة وأحيانا الألم وبدأ بعد ذلك جولة طويلة بين الأطباء والجراحين.
ووضع عبد الرحمن المظروفَ أمام الطبيب النفسي وقال له هنا كل شيء، فقد جمعتُ كل تقارير الفحوص ورسوم القلب والمخ والوصفات العلاجية كلها، وأيضًا تقرير المستشفى الذي أجروا لي فيه عملية استكشاف لمعرفة سبب آلام البطن التي عذبتني كثيرًا، ورغم أنهم وجدوا الزائدة الدودية ملتهبةً وقاموا بإزالتها، إلا أن نفس السخونة في بطني ما تزال تعاودني من وقت لآخر، ولم يجد أحد لها سببا.... وأما المعلومات التي أظهرتها الفحوصات والوصفات الطبية فلم تكن إلا وجود ارتفاع في ضغط الدم إلا أن دهون الدم كانت في مستويات جيدة ربما بسبب عمله اليدوي، وكذلك التهابا في جدار المعدة عولج بنجاح مرتين.
ظل عبد الرحمن يعملُ في أحد أعمال البناء اليدوية منذُ حصوله على دبلوم الصناعات العالي، وإن كان قد بدأ العمل في نفس المهنة قبل إنهاء دراسته بعامين، ولكنه استطاع في نفس الوقت إكمال أحد المعاهد الهندسية وأصبح مهندسا لكنه يعمل منذ إكمال دراسته كمقاول وهي مهنة أبيه، وهو متزوجٌ وأب لطفلٍ في الرابعة من عمره وزوجته لا تعمل، وقد بدأت حكايته مع المرض منذ سنتين فقط أي وهو في الخامسة والعشرين من عمره، وقد أخبره عمه منذ فترة بأن أباه كان موسوسا في شبابه بالمرض وظل لسنوات يتنقل بين الأطباء، لكنه لا يمتلك تفاصيل أكثر من هذا، أما والدته فقد وصفها بأنها كانت مفرطة الخوف على أبنائها خاصة الذكور ويذكر أنه سمع مرة من ممرضة ومرة من طبيب من يصفونها بأنها تخاف على أولادها من اللا شيء .... وأنها بهذا الشكل ستجعلهم يمرضون فعلا.
ويستكمل عبد الرحمن ورغم أن الجراحة التي أجريت لي منذ سنة وشهر كانت جراحةً ناجحةً كما قال الطبيب ورغم أنني بقيت في المستشفى عشرة أيام وفي بيتي شهرًا كاملاً، إلا أنني لم أستمتع بما كنت أعيشه قبل عامين من شعور بالصحة والعافية، كنا في شهر رمضان ولم أفطر رغم أن الطبيب قال لي أن من حقي الإفطار في فترة النقاهة لكنني صمت، وفي إحدى الليالي انتقل الشعور بالسخونة من بطني إلى قفاي ورأسي من الخلف إلى حد أنهُ أيقظني من النوم، وشعرت معه بضيق وثقل على صدري ولم تكن لي شهية للأكل، وأصبحتُ أخاف من النوم؛ تتسلط علي فكرة أن مرضا ما سيحدث لي ولن يكتشفه الأطباء في الوقت المناسب بما يؤدي إلى الجلطة في المخ.
ولم أزل أتنقل من طبيب إلى طبيب حتى أرشدني أحد الصيادلة إلى طبيب نفسي في بلدتنا، وقد قال لي الطبيب النفسي عندما شرحت له الأعراض الأخيرة أنني مصابٌ بالاكتئاب والقلق وأنها حالةٌ مرضية ستتحسن على بعض الأدوية، وبالفعل انتظمت على علاجه ولا أنكرُ أنني تحسنت كثيرًا، لكن خوفي من المرض لم يتغير، وقراءتي للنشرات الموجودة في علب الدواء أرعبتني! فأحد الأدوية كان يسببُ التشنجات، وعندما عدت لاستشارة الطبيب النفسي سألني سؤالاً قلب كل شيء علي، فقد سألني إن كنتُ شعرت بالدوخة أو الإغماء؟ كما قال لي أنني محظوظٌ لأنني سارعت بالعلاج ولو تأخرتُ لاحتاجت الحالة إلى العلاج بالصدمات الكهربية، ولا أدري بعد ذلك ماذا ألم بي فلم أعد قادرًا على تناول أيٍّ من الأدوية التي وصفها لي، وما زلت أنتظرُ حدوثَ التشنجات فهذه الأدوية لابد أنها تؤثر على الكهرباء الموجودة في مخي....إلخ.
كانت ثقافة عبد الرحمن الطبية متواضعة رغم وضوح حصوله على قدر جيد جدا في الثقافات العامة، إلا أن طبيعته القروية واهتماماته بأفراد أسرتهم الممتدة (أخوته وزوجاتهم وأطفالهم) كانت واضحة ووصفوه عامة بأنه حنون ولكن قلقه المفرط يتعبه، وربما أدى نشاطه الاجتماعي إلى اعتماده في معلوماته الطبية على معلومات الناس، وكانت له حكايات عديدة مع نماذج مختلفة من الأطباء من ذوي تخصصات متعددة كان أهمها شعوره بأنهم لا يشرحون له بما يكفي ولا يردون على كل أسئلته وأحيانا ينفون نفيا لا يستطيع تصديقه، وكثيرا ما كان يشعر أنهم يجيبون بالنفي لإنهاء المقابلة.... تم الاتفاق مع عبد الرحمن على العلاج الكلامي بأسلوب معرفي سلوكي وأن استخدام العقاقير إن حصل يكون محدودا .... وبدأ العلاج من الشرح والتقييم ثم الصياغة وصولا إلى عدم الانتكاس وسوف نعود في نهاية سلسلة مقالاتنا هذه عن العلاج المعرفي السلوكي ع.م.س لوسواس المرض إلى حالة عبد الرحمن.
عادة ما يعتبر قدرٌ من القلق والتوجس بشأن الحالة الصحية للشخص أمرا طبيعيا ومفهوما عند الشعور بعرض جسدي ما أو التعرض لما قد يؤثر على السلامة الصحية بشكل عام، إلا أن هذا القدر عند بعض الأشخاص يتجاوز الحدود المعقولة منطقيا، بما يسبب معاناة ليس لهذا الشخص فقط وإنما أيضًا لأفراد أسرته وربما لمن يلجأ لهم من الأطباء، ونستطيع القول بأن مخاوف قلق الصحة الطبيعية تصبح مشكلة مرضية عندما تكون مبالغا فيها بشكل عام، أو مفرطة بالنسبة للاحتمالية الواقعية لوجود مشكلة طبية فعلية خطيرة!، أو مستمرة رغم النتائج السلبية للفحوص و/أو الطمأنة من الطبيب، وكذلك عندما تؤدي إلى سلوكيات غير مفيدة مثل التدقيق المفرط، وطلب الطمأنة المستمر (من الأطباء، العائلة أو الأصدقاء) وذلك بسبب عدم كفاية أو فشل الطمأنة ودوام القلق بشأن المرض المخشي، أو ربما تؤدي إلى التحاشي أو فرط التحاشي (للفحوص، والأطباء، والمعلومات المتعلقة بالصحة)....إلخ، أو إذا كانت تؤثر على الأداء الحياتي للشخص أو تسبب له وغالبا لأسرته ضيقا معنويا.
النظرية المعرفية السلوكية لوسواس المرض:
قديما فسر البعض دينامية وسواس المرض بمفهوم المكسب الثانوي Secondary Gain المستمد من الكتابات التحليلية ولا يوجد دليل علمي واحد على صحة ذلك الافتراض في حالات المراق (Warwick & Salkovskis, 1990) ، بل إن محاولة البحث التحليلي عادة تثير غضب واستياء المريض، وواقعيا نجد أن النظرية المعرفية هي النظرية النفسية الوحيدة التي استطاعت إثبات جدارتها في تقديم وصف شامل لعدد من العمليات النفسية التي تشرح آلية حدوث واستمرار حالات المراق، فضلا عن تفردها بتقديم طريقة العلاج الوحيدة الناجحة كما أثبتت الدراسات (Salkovskis, 1989; 1996).
تفترض النظرية المعرفية لوسواس المرض أن الناس الذين يعانون من قلق شديد مستمر فيما يتعلق بالصحة والمرض لديهم نزوع قوي وأصيل لإساءة تفسير أعراضهم الجسدية بما فيها التغيرات الفسيولوجية وكذلك المعلومات الطبية أو أي معلومات تتعلق بالصحة كدليل على أنهم مصابون أو معرضون بصفة خاصة للإصابة بمرض ما خطير، ويظهر ذلك النزوع لإساءة التفسير عند التعرض لمثير مبهم ما مثل الشعور بإحساس جسدي ما لا يعرفون له سببا فيميلون بسرعة إلى تفسيره بصورة كارثية تخص الصحة والمرض، أي أن وسواس المرض ينتج عن التفسير الكارثي للمعلومات المتعلقة بالصحة، ومعنى هذا أن التفسير المعرفي لوسواس المرض يقوم على تفسيرات خاطئة للمعلومات المتعلقة بالصحة تؤدي إلى سلوكيات إدامة للقلق، وهذا التفسير يتشابه مع النظرية المعرفية لاضطراب الهلع إلا أن بينهما فروقا سنذكرها عند التطرق إلى المتصل المعرفي السلوكي الذي تتوزع عليه حالات وسواس المرض.
ورغم كون التفسير السلبي أو حتى الكارثي للمعلومات الخاصة بالصحة أمرا شائعا، بين الناس فينشغلون بما يستدعي الانشغال من تغيرات أو أعراض جسدية لفترة، إلا أن تلك الفترات تكون قصيرة وتنتهي الأعراض بالحصول على الطمأنة المطلوبة من الطبيب أو حتى ربما من غيره بشرط أن تُصدق وأن تكون مقنعة، فينتهي الانشغال والقلق على الصحة، وهنا تنجح الطمأنة بشكل دائم، ولكن هذا لا يحدث في حالات مرضى وسواس المرض حيث تفشل الطمأنة المناسبة في تحسين الأعراض ويستمر القلق والانشغال على الصحة بدرجات متفاوتة على متصل وسواس المرض، بالتالي فإن أهم ما يساعد مريض وسواس المرض، هو فهم السبب في فشل الطمأنة في تسكين الأعراض بشكل دائم (Salkovskis et al., 2003).
وهنا نصل إلى الجزء التالي من البناء المعرفي لشرح وسواس المرض فهو محاولة الوصول إلى الرد على سؤال لماذا تفشل الطمأنة في حالات وسواس المرض؟ إذ توضح نظرية المعرفية كيف أن استمرار القلق والانشغال المعرفي السلوكي ينتج عن عمليات تحافظ على التفسيرات الكارثية التي تضمن استمرار القلق.
ينقسم رد الفعل تجاه الخطر المدرك إلى نوعين من العمليات بعضها استجابات تلقائية وبعضها استراتيجيات سلوكية وتبين النظرية المعرفية كيف تؤدي كل تلك العمليات إلى حلقات مفرغة من العمليات كأنها مكائن لإنتاج القلق تحت تأثير الشعور المستمر بالتهديد، ورغم أن المساهمة النسبية لكل نوع من هذه العمليات في إفشال الطمأنة تختلف من شخص لشخص، إلا أن هناك أربعة عمليات رئيسة (Salkovskis et al., 2003) تشترك في إحداث وإدامة القلق بشأن المرض هي:
1- التحيزات المعرفية في معالجة المعلومات المدركة والتي تؤدي إلى إضفاء خطر أكثر من اللازم على الأعراض فضلا عن تركيز الانتباه على الجسد والانتباه الانتقائي والذاكرة الانتقائية مثلا: "الطبيب قالَ بأنّه ربما نجري تحليلا آخر في الشهور القليلة المقبلة... لابد أَنه يُفكّرُ أن هناك شيئا خطأ" بينما يُهملُ الحقيقة بأنّ الطبيبَ قالَ ليس هناك أي شيء غير طبيعي في نتيجة التحليل.
2- ردود الفعل الفسيولوجية الجسدية بما يسبب زيادة الوعي بالأحاسيس الجسدية، ومن ثم الانتباه الانتقائي
3- سلوكيات البحث عن الأمان: كالتحاشي والفحص أو التحقق وطلب الطمأنة.
4- تغيرات وجدانية: خاصة القلق والاكتئاب والتي من المعروف فضلا عما تسببه من أعراض جسدية أنها تزيد من التوجس والشعور بالخطر كما تساعد على غلبة السلبية في التفسيرات والتوقعات.
ورجوعا إلى حالة "عبد الرحمن" نجد أن خطأ وقع فيه أحد أطباء جراحة المخ والأعصاب قد أوقع مريضا بخزل العصب الوجهي في حالة مستمرة من الخوف من المرض وهو يشعرُ أن الأمراض جميعا تتربص به.... ويخاف من الوفاة إثر خزل نصفي كما كان والده.... ولم يفده تصريح كثيرين بأن ما قاله الطبيب خطأ، وهو نتيجة لذلك أصبح دائم الانتباه والتفحص لجسده... وتراوحت الأعراض التي شغلته وتعرض لجراحة نجحت على المستوى الجراحي، كما توضح السطور التي قدمنا بها للمقال كيف كان زيادة الوعي بالأحاسيس الجسدية والانتباه الانتقائي مثلما التغيرات الوجدانية التي أوصلته إلى المعاناة من قلق واكتئاب حقيقيين تحسنا بالعقاقير لكن المشكلة المعرفية لم تتحسن.
المراجع الأجنبية:
Warwick, H. M. C., & Salkovskis, P. M. (1990). Hypochondriasis. Behaviour Research and Ther- apy, 28, 105–117.
Salkovskis, P. M. (1989). Somatic problems. In K. Hawton, P. M. Salkovskis, J. W. Kirk, & D. M. Clark (Eds.), Cognitive-behavioural approaches to adult psychiatric disorder: A practical guide. Ox- ford: Oxford University Press.
Salkovskis, P. M. (1996). Cognitive-behavioral approaches to the understanding of obsessional problems. In R. Rapee (Ed.), Current controversies in the anxiety disorders (pp. 103–133). New York: Guilford Press.
Salkovskis P.M, Warwick H. M. C. and Deale A (2003): Cognitive-Behavioral Treatment for Severe and Persistent Health Anxiety (Hypochondriasis). Brief Treatment and Crisis Intervention 3:353–367 (2003)