كنا في ندوة علمية وقامت إحدى المتحدثات لتقول بفخر واعتزاز: "نحن شعب جبار خلعنا رئيسين في عامين ونصف ووضعناهما في السجن ينتظران المؤبد أو الإعدام"!!.... دارت في رأسي العبارة ووجدتها تتغير بشكل غير متعمد: "نحن شعب غدار............" !!... وهل هناك فرق بين "جبار" و"غدار"؟.. ولماذا نحن هكذا؟... ولماذا هم كذلك؟.
إن علاقة المصريين برؤسائهم وبالسلطة عموما فيها إشكاليات والتباسات كثيرة تحدث عنها كثير من المحللين والباحثين، فهم يمجدون السلطة والرئيس في وقت وربما يقدسونهم ثم في مرحلة ما ينقضون عليهم بلا رحمة ليسقطوهم ويسحقوهم!!.. هل هو عيب في الشعب؟.. أم عيب في نظام السلطة؟... أم عيب في شخصية الرئيس وطريقته في الحكم؟.. أم عيب في العلاقة بين الحاكم والمحكوم؟.
ولكي تتضح الصورة بأبعادها لن أغوص بك في أعماق التاريخ، ولكن دعنا نبدأ بالملك فاروق حيث بدأ حياته مليكا محبوبا بل معشوقا من المصريين حيث كان وسيما وطيبا ومتواضعا يمشي في الأسواق ويظهر في أي مكان وسط الناس ويعلن احترامه للدين ولعلماء الأزهر وهذه أشياء لها وزنها عند المصريين، وغنت له أم كلثوم وغنى له وتغنى به عبد الوهاب وغنى له الشعب ... وتتوالى الأيام ويصبح الملك فاسدا بل خائنا وتقوم الثورة ضده في 1952 م ويطرد من البلاد ويعيش وحيدا في غربته ويموت – كما قيل – مسموما.
ويليه محمد نجيب قائد ثورة مظفر وشجاع وذو حكمة، ومحبوب جدا من الشعب على أنه المخلص من حكم ملكي فاسد والمؤسس لأول حكم جمهوري حر ومستقل ومخلص من الاستعمار الإنجليزي بكل مساوئه، ومع هذا لا يكمل في الحكم عامين ويتم عزله بواسطة الضباط الأحرار ولا يجد من يدافع عنه من الشعب ، ويكون مصيره أن يموت وحيدا بعد أن عاش سنوات العزلة تحت الإقامة الجبرية والتنكر الرسمي والصمت الشعبي تجاه دوره العظيم في ثورة يوليو إذ كان هو مصدر الثقة والإلهام والواجهة المقبولة شعبيا ودوليا.
ويتبعه عبد الناصر (الذي خلعه) لينال ما نال من شرف الزعامة وحرارة التمجيد والتقديس حتى تضخمت ذاته وغابت عنه وعن الشعب الحقائق الموضوعية وظن وظن الناس أن النصر في المعارك يتحقق بكاريزما وسحر ناصر لتكون النهاية هزيمة مروعة وضياع أراضي ثلاث دول عربية وانكسار عسكري ونفسي ووطني مروع استمر لعدة سنوات، ثم تكون النهاية أن يموت – كما قيل – مسموما أو حزينا مقهورا أو مغدورا.
ثم يأتي السادات ويرتفع نجمه مع الأيام ويتحقق على يديه نصر أكتوبر ويتألق في سماء مصر والعالم وتتضخم ذاته فيعجز عن سماع صوت معارضيه ويضيق ذرعا بالجميع ويصبح عصبيا أكثر من اللازم ويسجن رموز كل التيارات السياسية والوطنية والدينية، لتكون النهاية الدرامية ويسقط صريعا بنيران جنوده وهو في قمة الشعور بالنصر والزهو.
ويخلفه مبارك فيبدو وكأنه تعلم الدرس فيبدأ بسيطا متواضعا، ثم يطول عليه الأمد فتتضخم ذاته مع الثناء والمدح والتقديس فيزداد طمعا وتشبثا بالسلطة ويسعى لتوريثها، وفي المقابل يترك العنان للفساد، وينشئ آلة بوليسية جبارة ليقمع بها أي صوت معارض، وتكون هذه الآلة الفتاكة هي مقتله إذ تقوم الثورة عليها وعليه ويخلع من الكرسي الذي تشبث به ثلاثون عاما ويلقى به في السجن حتى الآن.
ثم يأتي الدكتور مرسي رئيسا منتخبا بعد ثورة يناير العظيمة، فيبدو بسيطا طيبا متدينا، يقف في ميدان التحرير وسط الجماهير ويفتح جاكت بذلته عن آخره ويعلن أنه لا يخشى الموت لأنه بين أهله وعشيرته وأحبابه من المصريين، وتمر الأيام ويزداد طول موكبه (وتزداد معه طوابير الجاز والبنزين) وتشتد وسائل الحراسة والتأمين حتى تصل تكلفتها إلى مليون جنيه أو أكثر في كل صلاة يؤديها الرئيس في مسجد قريب (بينما الأمن منعدم في باقي ربوع المحروسة)، ويأتي الإعلان الدستوري المشئوم ليحصنه ضد كل شيء فيكون هو مقتله ويبدأ التحول شعبيا تلقائيا أحيانا ومدفوعا بقوى منظمة ودولة عميقة أحيانا أخرى لتخرج في النهاية ملايين غفيرة تطالب بعزله ويحتجز في مكان مجهول ليظهر بعد ذلك وهو ينزل من ميني باص أمام قاعة المحكمة ويقضي وقتا أطول من اللازم محاولا إغلاق أزرار الجاكت ليحافظ على هويته الرئاسية السلطوية، ولكنه في النهاية يقف في القفص يواجه هيئة المحكمة كمتهم، ثم ينتقل إلى محبسه الاحتياطي ويضطر إلى خلع بذلة الرئاسة وارتداء الزي الأبيض كأي محبوس احتياطيا.
من الجاني في كل هذه الحالات؟.... ومن الضحية؟... من الظالم ومن المظلوم؟... من المفتي ومن المفترى عليه؟... أين الخلل؟.
تقريبا نفس السيناريو على الرغم من تغير الوجوه والأسماء، استقبال حافل في البداية... توقعات وردية في رئيس جديد وعهد جديد.. تأييد وتعظيم وتمجيد مبالغ فيه... نفاق على كل المستويات... خلع صفات الحكمة والطيبة والعظمة والتواضع والوطنية على الزعيم الملهم والمخلص... تسليم كامل من الشعب للزعيم.... تضخم في الذات يصل بصاحبه إلى حالة من النرجسية تصل به لأن يقول بلسان الحال: "أنا ربكم الأعلى".. "لا أريكم إلا ما أرى ولا أهديكم إلا سبيل الرشاد"، ويصف معارضيه بأنهم "شرذمة قليلون وأنهم لنا لغائظون"... ثم يبدأ الإحباط من سوء الأحوال ومن تصرفات الملك أو الرئيس أو الزعيم، ويتحول الإحباط إلى غضب، ويستعيد الناس أو بعضهم حالة الوعي فيحركون الجماهير في فعل ثوري هادر وغاضب ومزلزل ليسقط الزعيم وتنهال عليه السكاكين من الأيدي التي عاشت تصفق له وتلعنه الحناجر التي عاشت تتغنى به وتمجده، وما أن تنتهي دورة استبداد واستعباد حتى يدخل المصريون في دورة أخرى، وكأن في داخلهم برنامج أو جينات تهيئهم لتكرار ذلك السيناريو، وتهيئ من يحكمهم للعب نفس الدور الذي لعبه من كانوا قبله في السلطة دون أن يتعلم أحد حاكما كان أم محكوما.
هل لدينا كحكام ومحكومين ذاكرة ضعيفة (أو مخرومة) فلا نعتبر من الماضي البعيد أو حتى القريب؟؟! هل لدينا صعوبات تعلم ونحتاج برامج لتحسين مهاراتنا التعليمية في بعض مراكز ذوي الاحتياجات الخاصة والإعاقات؟ هل لدينا رغبة دفينة منذ الأجداد الأوائل في أن نصنع فرعونا قويا (أو هكذا نظنه ونتخيله) لكي نحتمي به ونستظل بظله ونعيش ما نحب من الكسل والتراخي والتثاؤب الوطني والتاريخي وقد استرحنا إلى وجود الزعيم الأب الرب القادر المخلص؟ هل هي مؤامرات خارجية تفرض علينا زعامات بعينها ليتكرر السيناريو ولتجهض كل محاولات نهضتنا؟ هل نحن كشعب مثل الضحية الذي يلعب دورا أساسيا في الجريمة التي يتعرض لها دون أن يعي ذلك وبالتالي يتكرر تعرضه للجرائم ويظل في دور الضحية طوال عمره؟
وفي نفس الندوة التي تحدثت فيه إحدى السيدات وقالت العبارة التي بدأنا بها هذا الموضوع تحدثت سيدة أخرى بلغة "ريا وسكينة" وقالت بلهجة مازحة حازمة: "بس احنا بصراحة بنعظموهم ونريحوهم قبل ما نقتلوهم"، وكأن هذه العبارة الأخيرة – رغم عبثيتها – لخصت العلاقة بين المصريين وبين رؤسائهم (أو قل بين العرب جميعا وبين قادتهم وزعمائهم)، وكأنها رسالة إلى الرئيس القادم وأي رئيس قادم أن انتبه فنحن شعب جبار (أو قل غدار) سنقوم بتمجيدك وتعظيمك وتقديسك تمهيدا لطردك أو قتلك أو خلعك أو عزلك، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
واقرأ أيضاً:
دعوة لعلاج وتأهيل حالات كرب مابعد الصدمة PTSD / عودة المتدين الطيب/ إرهاب المعتدلين/ أرجوك لا تترشح للرئاسة/ هشاشة النظام