أولاً : نظرة عامة
سؤال يطرحه الكثير بين الحين والآخر: هل هناك تأثير سلبي على الصحة العقلية والنفسية من جراء الإسراف في استعمال الكمبيوتر للتواصل مع الآخرين وتفحص المواقع الإلكترونية والبحث عن إجابة لسؤال ما أو استفسار علمي أو أدبي أو اجتماعي1؟
قبل عدة أعوام انتشرت الهستيريا عالمياً بأن استعمال الهواتف الجوالة 6 وخاصة استعمالها بالقرب من الرأس يؤدي إلى عملية أشبه بشواء الخلايا العصبية وبالتالي يؤدي إلى تدهور المقدرة العقلية والفكرية للإنسان وإصابته بأورام خبيثة وبالخرف المبكر.
هذه الفرضية النظرية لم تستند إلى بحوث علمية بتاتاً ولكن ذلك لم يمنع من قبولها من عامة الناس حتى أصبحت ظاهرة استعمال الجوال عن بعد شائعة. بعد ذلك ظاهرة طفرة وراثية في هذه الدعايات وبدأ البعض يتحدث عن تأثيرها على القلب والرئة.
الكثير من هذه الدراسات غير متوازنة في إطارها العلمي وقوتها الإحصائية ضعيفة ويكاد عدد الدراسات التي تثبت وجود علاقة بين أورام الدماغ واستعمال الجوال تساوي عدد الدراسات التي تنفي وجود هذه العلاقة. في نهاية الأمر أصبحت الهواتف الجوالة أكثر انتشاراً وتقنية وازدادت مبيعاتها بشكل خيالي ويحملها الطفل في المدرسة والكبير السن أيضاً.
المخاوف من التكنولوجيا لا تتوقف عند هذا المحيط الهائل من الهواتف الجوالة وإنما هناك من يتحدث عن الإنترنت والمواقع الاجتماعية واستعمال الكمبيوتر بشكل عام وهذا ما سيتطرق إليه المقال بصورة عامة.
الإنترنت والدماغ
ليس هناك شك بأن الإنترنت غيرت من طبيعة العالم الذي نعيش فيه فقد أصبح الخبر ينتشر بسرعة البرق قبل وصوله إلى وكالات الأنباء وإن كنت من المولعين بال توتير Twitter فهناك احتمال كبير بأنك تسمع خبراً ما وتنشره عبر هذه الوسيلة قبل أن تتأكد من صحته.
هناك أبعاد عدة لتأثير الإنترنت على الصحة النفسية ولكن هل هناك تأثير على طبيعة المخ والخلايا العصبية؟ وهل الخوف من استعمال الإنترنت يختلف عن الخوف من استعمال وسائل الاتصال الأخرى بين المجموعات البشرية عبر التاريخ؟
لو تتبعنا التاريخ سنرى بأن الفيلسوف الإغريقي أفلاطون (427-347 قبل الميلاد) كان أول من قلق من انتشار الكتابة ولعنها موجهاً الاتهام إليها بأنها ستؤدي في نهاية الأمر إلى ضمور ذاكرة الإنسان.
أما على مدى الخمس قرون الماضية فمن الصعب أن ترى اكتشافاً ما يزيد من تواصل البشر إلا وكان عرضة لانتقاد البعض والتشكيك في تأثيره على الإنسان على المدى البعيد. خير مثال على ذلك التلفزيون وانظر الآن إلى موقعه في المجتمع.
عدد الخلايا العصبية في دماغ الإنسان يقارب 20 بليون خلية وكأنها الكون المزدحم بالكواكب في مجموعات شمسية لا أحد يعرف عددها. هذه الخلايا بعضها مساندة وبعضها قادرة على العمل في أي وقت بصورة مستمرة أو متقطعة ولها وظيفتها الخاصة بها. لا أحد يعلم ماهي نسبة فعالية دماغ الإنسان في أي وقت استناداً إلى عدد هذه الخلايا العصبية وما الذي يمكن أن يحدث لو استطاع الإنسان التلاعب في فعالية الجهاز العصبي ليرسله إلى العمل بكامل قابليته.
عند الجلوس أمام الكمبيوتر وشاشة العرض3 يحدث ما يلي:
1- استقبال الإنسان لمحفزات عدة من بصرية وسمعية.
2- استقبال الإنسان لإشعاع صادر من جهاز العرض.
تتميز تتعامل الخلايا العصبية بقابليتها على التكيف مع المحفزات بجميع أنواعها ولم يتمكن العلم من إثبات أن استقبال هذه المحفزات يمكن أن يؤثر سلبياً على قابلية الدماغ للتكيف وبالتالي على كمال تركيبة الخلية العصبية 5.أما الإشعاع الصادر من الكمبيوتر فهو خليط من محيط مغناطيسي وكهربائي لا يختلف عما يصدر من جميع الأجهزة التي نستعملها في الحياة اليومية ولا حتى عن الفضلات بجميع أنواعها التي يلقي بها الإنسان في البحار والأنهار.
على ضوء ذلك لا يوجد دليل على أن استعمال الكمبيوتر يؤثر على تركيبة الدماغ العضوية ومحاولة إثبات ذلك بتجارب علمية لا يعطي نتائج مقنعة على أقل تقدير.
ولكن ما هو تأثير استعمال الكمبيوتر على الحياة الاجتماعية النفسية للإنسان؟
المنظور الاجتماعي النفسي
الاتصال بين الأفراد هذه الأيام لا يعرف معنى الحدود وترى الفرد لديه عدد من الأصدقاء عبر المواقع الاجتماعية الإلكترونية يُقدر بالمئات أو أحياناً بالآلاف ومن مختلف الجنسيات. يصعب على الإنسان أن يقبل بأن هذه الاتصالات حقيقية وإنما بصراحة ليست إلا مجموعة اجتماعية خيالية.
التفاعل الاجتماعي بين البشر يتطلب تتبع الأفراد بعضهم البعض وبصورة مستمرة ولكن الأبحاث العلمية أثبت بأن كل فرد لا يستطيع متابعة تفاعلاته مع وتفاعلات مجموعة بشرية ينتمي إليها يتجاوز عددها 150 فرداً. على ضوء ذلك ترى أن معدل عدد الأصدقاء لأي فرد على موقع الفيس بوك هو 120-130 فرداً 4. زيادة عدد الأصدقاء عن هذا الرقم يشير إلى توسع المجموعة الخيالية للفرد ويمكن تفسيرها كما يلي:
1- وجود بعد توحدي لشخصية الفرد على أرض الواقع. في عيادة للمرضى المصابين بالتوحد 2 يمكن تقسيم الأفراد إلى صنفين:
• الصنف الأول لا يبالي بالمواقع الاجتماعية ولا يملك حساباً على الفيس بوك وغيره.
• الصنف الثاني لا ينتمي إلى شبكة اجتماعية على أرض الواقع ولكن عدد أصدقائه على الفيس بوك يترواح ما بين 300 إلى 1000 صديق ويتناسب الرقم عكسياً مع مشاركته الإعلانية على الموقع.
2- امتلاك الفرد لصفات شخصية تميل إلى ولعها بجذب انتباه الآخرين مع الحصول على تعاطفهم وإعجابهم. هذا البحث عن الإعجاب، والعاطفة والانتباه حق مشروع وتغذية المواقع الإلكترونية الاجتماعية لهذه الصفات الشخصية بدون حدود.
الصداقة بين الأفراد عموماً تميل إلى التلاشي والتفسخ مع الوقت ومن جراء ذلك ترى الخريجين من مدرسة ما أو كلية يجتمعون بعد عقود من الزمن لمتابعة تأثير الدهر على حياتهم ولكن في معظم الحالات لا يزيد عدد الأفراد المشاركين في الاجتماع على بضعة عشرات. هذا على أرض الواقع ولكن المواقع الاجتماعية لها بعد اجتماعي خيالي حيث تستمر الصداقة إلى أمد طويل وأحياناً لا يعلم الفرد إن كان أحد الأصدقاء قد ودع الدنيا أم لا.
هذا البعد الخيالي للمواقع لا يخلو من تأثيرات سلبية على تطور المهارات الاجتماعية للفرد وتحسين قابليته على مواجهة تحديات الحياة. الصديق الذي لا يعجبك على الفيس بوك ويغضبك بإرساله تويتر ما فمن السهل عليك أن تمحيه من محيط حياتك الإلكتروني في لحظة واحدة. أما في الحياة وعلى أرض الواقع فأنت تواجه الفرد وتتعلم السيطرة على عواطفك والنقاش والمساومة. مع شيوع استعمال المواقع الإلكترونية يتضاءل الوقت الذي يقضيه الفرد في التواصل الاجتماعي الحقيقي ومن جراء ذلك قد يولد جيل جديد يفتقر إلى المهارات الاجتماعية التي لا بد منها من أجل الكفاح ومن ثم البقاء.
ملاحظات:
1- ملاحظات شخصية للكاتب في الحياة العملية السريرية.
2- هناك تأثيرات عدة للمواقع الإلكترونية على الصحة النفسية لم يتطرق إليها المقال. انظر نفوذ عالم الفضاء على الصحة النفسية الجنسية. موقع مجانين 30 يونيو 2012.
3- المقال يتطرق بصورة عامة إلى المنظور النفسي ولكن يجب الحذر في الجلوس مقابل شاشة الكمبيوتر لبعض المصابين بالصرع. النصيحة هي أن تجلس على بعد يساوي 4 أضعاف عرض الشاشة. النصيحة كذلك أن تبتعد عن الشاشة بعد 45 دقيقة ولمدة 15 دقيقة قبل العودة إلى العمل ثانية.
مصادر:
4- Dunbar R (2012). Social networks: Electronic Networking. New Scientist 2859. 11 April 2012.
5- Greenfield S(2014). Mind Change: How Digital Technologies are leaving their Mark on our Brains. Rider.
6- Sage C، Carpenter DO (2009). Public health implications of wireless technologies. Pathophysiology 16 (2–3): 233–46.
ويتبع>>>>>: منظور طبنفسي لاستعمال الكمبيوتر ومواقع النت2
واقرأ أيضاً:
رهاب اللامحمول لا تصدق معدا ولا صحفيا / الاعتمادية على المواد الجنسية الإباحية / الهاتف المحمول والقتل البطيء(4) / رهاب الاتصال التليفوني رهاب نوعي أم اجتماعي؟