منظور طبنفسي لاستعمال الكمبيوتر ومواقع النت: 1- نظرة عامة
الهوية الشخصية
يبدأ الإنسان حياته وتبدأ الإجراءات الرسمية لإصدار هوية خاصة بهذا المخلوق الجديد. هذه الهوية الرسمية يتم النظر فيها قبل ولادة الطفل أحياناً بفضل تقدم العلم الذي يكشف عن الهوية البيولوجية والصحية للطفل وهو لا يزال في الرحم.
تستمر عملية إصدار الهوية بعد الأخرى للإنسان وبدونها لا يمكن أن يكون منتمياً إلى مجموعة بشرية. تطور العالم وتفنن في إصدار هذه الهويات واليوم هناك أكثر من هوية تحتوي على المؤشرات البيولوجية الخاصة بالفرد التي تميزه عن بقية الناس. ولكن هناك هوية أخرى قد تكون أكثر أهمية للإنسان ولا تبالي بها المجموعة البشرية التي ينتمي إليها وهي الهوية الداخلية للإنسان والخاصة به والتي يحتفظ بها في داخله لا يشارك بها الآخرين بل وحتى أقرب الناس إليه.
ولكن ما هي مصادر هذه الهوية؟
المصدر البيولوجي Biological Source
هذا المصدر لا يقبل النقاش فالكروموسومات التي تحملها خلايا الإنسان وخريطة الجينات الخاصة به لا يستطيع أحد التلاعب بها وتغييرها. المظهر الخارجي للإنسان في الغالبية العظمى من البشر يشير إلى جنس الإنسان ولا يحتاج هو أو المجموعة البشرية التي ينتمي إليها إخضاعه لفحوص طبية للتأكد من الهوية. يتم التعامل مع الفرد بعدها وتربيته والرعاية به استناداً إلى الهوية البيولوجية.
ولكن هناك من الإفراد من يصرح فجأة بأنه امرأة في جسد رجل أو رجل في جسد امرأة وهذا ما يطلق عليه اضطراب الهوية الجنسية Gender Identity Disorder هذه الاستشارات تصل موقع الشبكة العربية للصحة النفسية الاجتماعية (موقع مجانين) بصورة منتظمة ولها توزيع جغرافي يكاد يكون خاصاً بها ويستدعي إجراء بحوث ميدانية لتحري الأسباب ومعالجتها. في الممارسة السريرية تصل معظم هذه الحالات الطبيب النفسي بعد سن البلوغ لمراجع الذي يصر دوماً إلى أن شعوره باضطراب هويته الجنسية بدأ منذ الطفولة.
لا يراجع الفرد الطبيب النفسي ليساعده على تغيير هذا الاعتقاد وإنما ليؤكد الطبيب له بأن اضطرابه الوجداني ناتج عن هذا الخطأ البيولوجي وأن المضي قدماً يستدعي مساعدته لتصحيح هذا الخطأ طبياً وجراحياً.
يميل البعض إلى تصنيف هذا المعتقد بوهام أو أحياناً بفكرة حصارية ولكن ربما يمكن وضعها في إطار رغبة لتجاوز توجه جنسي يولد الكثير من التنافر داخل الإنسان.
اضطرابات الهوية الجنسية واحدة من متناقضات عدة في الطب النفسي فرغم أن هذا الاضطراب يدخل ضمن تصنيفات الاضطرابات النفسية أو العقلية ولكن علاجه لا يستهدف تغيير هذه الهوية بالعلاج النفسي او بالعقاقير وانما الكلام مع المريض والتأكد من استعداده نفسياً لتغيير صفاته الجسدية عن طريق الهورمونات أو التداخل الجراحي وعلاج الاضطراب الوجداني إن وجد.
الطب النفسي يخضع أكثر من غيره من الاختصاصات الطبية والجراحية لضغوط اجتماعية سياسية ورأي الجمهور عامة فيما هو صحيح أو خطأ، وما يدخل ضمن حدود الحرية الشخصية وعلى ما يبدو فإن اضطراب الهوية الجنسية تأثر بهذه العوامل. لكن هناك سببا آخر وهو أن علاج اضطراب الهوية الجنسية ومحاولة إزاحة هذه الفكرة والرغبة في تغيير الهوية الجسدية مصيره الفشل في الغالبية العظمى من المرضى على عكس التداخل الجراحي لتغيير الهوية الجنسية. الغالبية العظمى من هؤلاء الأفراد ينتقلون من هامش المجتمع بعدها ويتقبلهم الأغلبية من الناس في العالم الغربي.
ولكن هناك من يسيء الظن من موقف الطب النفسي والخدمات الطبية عموماً بشأن هذا الموضوع. التداخل الجراحي لتغيير الهوية الجنسية لا يكلف الدولة أكثر من 10000 دولار على عكس المراجعات الطبية المتكررة التي تكلف أضعاف ذلك. هناك عامل آخر وهو عدم اهتمام الخدمات الصحية النفسية بهذه الحالات عموماً حيث لا تعطيها أهمية تذكر مقارنة بالاضطرابات الوجدانية والذهانية.
المصدر الاجتماعي Societal Source
الحديث عن دور المجتمع في تحديد الهوية الجنسية للفرد يشمل البيئة العائلية للفرد أو البيئة التي تحتضن الطفل في غياب العائلة لسبب أو لآخر. بعدها يدخل الطفل البيئة التعليمية ويخرج منها ليلعب دوره على مسرح الحياة الأكبر.
لا يوجد دليل مقنع يربط طبيعة البيئة الاجتماعية بالهوية الجنسية والتوجه الجنسي النهائي للفرد. يستلم موقع مجانين العديد من الاستشارات بشأن التوجه الجنسي المثلي ويحاول مستشير الموقع ربط التوجه الجنسي المثلي ببيئته العائلية فهناك من عاش في عائلة محاطاٌ بالأم والأخوات وغياب الأب وهناك من لا أخوات له. بعدها تتطرق الاستشارة إلى ظروف المدرسة والأصحاب والصفات الشخصية ويمكن الاستنتاج بعدها أن التجربة الشخصية وتعليل الفرد لظروفه وربطها بهويته الجنسية لا يمكن تعميمها على الآخرين أو حتى استعمالها كقاعدة لتفسير حالة المستشير.
ولكن الدور الاجتماعي في تحديد الهوية الجنسية أكثر تعقيداً من ذلك. في الوقت الذي كان المجتمع يعرف الهوية الجنسية للفرد باستعمال كلمة جنس Sex وتصنيف الفرد كذكر أو أنثى بدأ يستعمل كلمة أكثر غموضاً ومشتقة من اللغة اللاتينية وهي كلمة Gender (مشتقة من كلمة Genus ) عند الحديث عن الهوية الجنسية. الكلمة اللاتينية تعني النوع فقط دون إشارة إلى كلمة جنس ولا يوجد مقابل لها في اللغة العربية.
الصورة أعلاه هي لنجاة بلقاسم وزيرة التعليم الفرنسية من أصل مغربي ومن المؤمنات بنظرية الهوية الجنسية Gender Theory . هذه النظرية ولدت في أمريكا وتعنى بالمساواة بين الرجل والمرأة في ميادين الحياة وتستند نظريا إلى أن الهوية الجنسية للمواطن يتم إصدارها من قبل المجتمع بدلاً من الطبيعة البيولوجية. عند هذا المنعطف يمكن استيعاب استعمال كلمة Gender بدلاً من Sex حيث يمكن تعريف المصطلح الأول بإحساس الفرد فيما داخله إن كان ذكراً أو أنثى دون الالتفات إلى الجانب البيولوجي
ولكن هناك الكثير من البشر ممن يرفضون هذه النظرية ويعتبرونها طريقاً ملتوياً للتشجيع على المثلية الجنسية وهذا ما ينادي به اليمين المتطرف من المجتمع السياسي الأوربي ويفسر أيضاً معارضة الفاتيكان للعمل بهذه النظرية وتدريسها في جميع مراحل التعليم. اعترض المفتش العام للتعليم الفرنسي على تجربة تدريس هذه النظرية في المدارس الفرنسية العام الماضي والتي خططت لها نجاة بلقاسم ولكنها سرعان ما قررت إدخالها تحت غطاء جديد في المنهج الدراسي حال تسلمها مقعدها الوزاري الجديد الشهر الماضي.
مصدر الإنترنت Cyber Source
مع ضعف التواصل الاجتماعي على أرض الواقع وتوفر أجهزة الكمبيوتر والهاتف الجوال المؤهل للاتصال بعالم الفضاء في أي مكان أصبح الإنسان يتجه نحو هذه الأجهزة لدراسة شخصيته ورغباته والبحث عن أجوبة لأسئلة لا يقوى على توجيهها إلى أصحابه أو والديه.
حين نتفحص الإنترنت فليس من الصعوبة أن نستوعب أهمية الهوية الجنسية. كلما تمر عبر صفحة وموقع ترى صورة لرجل أو أمرأه وتراك مستهدفاً بإعلانات متعددة تتعلق بالهوية الجنسية. الإنترنت تعتمد كذلك على عرض صورة المشارك على الموقع الاجتماعي أو الطبي وهذا بحد ذاته يعكس الهوية الجنسية للفرد وإن كانت هذه الصورة المعروضة ليست بالضرورة الصورة الحقيقية للفرد ولا يمكن الجزم بأنها الهوية التي يستعملها الإنسان في الواقع.
إن من طبيعة البشر حب التفاعل مع الآخرين والإنترنت تعطي الفرد الحرية المطلقة للتعبير عن آرائه والاستماع إلى آراء الآخرين دون رقابة وتدقيق يومي من العائلة أو المدرسة أو المجموعة البشرية التي ينتمي إليها. مع استقبال الإنسان لمحفزات بصرية تعكس الهوية الجنسية لمن يتصل بهم فإن هذه بدورها قد تحفز الفرد إلى توسيع شبكة اتصاله الإلكترونية ولكنها قد تقوده أيضاً إلى عواقب غير متوقعة على المدى البعيد من جراء استعمال هذه التكنولوجيا والتعلق بمن لا يتعلق بهم في واقع الحياة. يتحول ما يسميه الفرد فضولاً إلى تعلق فكري وعاطفي وليس جنسيا في بداية الأمر.
كذلك لا يشعر الفرد بالتهديد من قبل الآخرين أثناء تجوله عبر الإنترنت ويستمر في تواصله ولكنه مع مرور الوقت ولأسباب يصعب التحقق منها يزداد هذا التعلق ويتم إضافة البعد الجنسي عند البعض وبالتالي يبدأ الفرد بمراجعة هويته الجنسية. يتبع ذلك مرحلة جديدة أشبه بعملية بحث علمي لإثبات أو نفي الفكرة الجديدة ويبدأ الفرد توسيع شبكته الاجتماعية متجهاً نحو هدف معين وهو اكتساب هوية جنسية جديدة.
من مميزات الإنترنت كذلك الغموض. قد يكتسب الفرد هوية جنسية جديدة ولا يعلم أحد إن كان الفرد سيحمل هويته الجنسية الجديدة بصورة دائمية ويستعملها خارج الإنترنت أيضاً أو سيأتي الوقت الذي يقرر فيه التخلص منها. ولكن حتى إن بقيت هذه الهوية خاصة بعالم الفضاء الذي ينتمي إليه الفرد فهي بالتأكيد ستكون مصدر تنافر فكري وعاطفي وقد تنتج حالة وجدانية اكتئابية إن كان يحمل هوية أخرى متناقضة في حياته العامة وعلى أرض الواقع.
ملاحظات:
1- ملاحظات شخصية للكاتب في الحياة العملية السريرية.
2- هناك تأثيرات عدة للمواقع الإلكترونية على الصحة النفسية لم يتطرق إليها المقال. انظر نفوذ عالم الفضاء على الصحة النفسية الجنسية موقع مجانين 30 يونيو 2012.|
3- المقال يتطرق بصورة عامة إلى المنظور النفسي ولكن يجب الحذر في الجلوس مقابل شاشة الكمبيوتر لبعض المصابين بالصرع. النصيحة هي أن تجلس على بعد يساوي 4 أضعاف عرض الشاشة. النصيحة كذلك أن تبتعد عن الشاشة بعد 45 دقيقة ولمدة 15 دقيقة قبل العودة إلى العمل ثانية.
مصادر:
1- Dunbar R (2012). Social networks: Electronic Networking. New Scientist 2859. 11 April 2012.
2- Greenfield S(2014). Mind Change: How Digital Technologies are leaving their Mark on our Brains. Rider.
3- Sage C، Carpenter DO (2009). Public health implications of wireless technologies. Pathophysiology 16 (2–3): 233–46.
مراجع إضافية للقراءة:
للمزيد من الإطلاع على ما تم طرحه أعلاه يمكن مراجعة المصادر أدناه.
1- Lorber Judith (1994). Paradoxes of Gender. New Haven. Yale University Press
2- Shade Leslie Regan (2002). Gender & Community in the Social Construction of the Internet. New York. Peter Lang Publishing.
3- Whitty Monica, Joinson A (2009). Truth, Lies and Trust on the Internet. New York. Routledge
واقرأ أيضاً:
رهاب اللامحمول لا تصدق معدا ولا صحفيا / الاعتمادية على المواد الجنسية الإباحية / الهاتف المحمول والقتل البطيء(4) / رهاب الاتصال التليفوني رهاب نوعي أم اجتماعي؟