هل يمكن أن تكون السلطة الانقلابية سلطة ديموقراطية؟!
تساؤل يحمل التناقض الأكيد بحيث لا يمكن الجمع بين الديموقراطية والاستبداد، اجتماع الانقلاب والاستبداد أمر مؤكد، ذلك أن الانقلاب بحكم ارتكابه لاغتصاب السلطة في حق سلطة شرعية منتخبة انتخابا نزيها لا يمكنه أن يسوغ اغتصابه إلا بحالة استبدادية إكراهية يستخدم فيها كل صنوف العسف والبطش والقوة لأن ذلك بمثابة إعلان للسيطرة والهيمنة، الانقلاب يرفض أي احتجاج أو مقاومة لأن بيت الانقلاب أوهن من بيت العنكبوت، ومن ثم فإنه باغتصابه السلطة يتحرك صوب الإنسان هادما لكل حقوقه، ويتحكم في المواطن ضمن عملية استبدادية محققا إذعانه وترويعه وتطويعه.
إن الانقلابات تحاول إعطاء مفهوم للسلطة ربما سيكون أكثر سلطوية؛ لأنه سيدعي لا محالة أنه القويم والسليم بذلك سيضمن بل ويمارس قهرًا ملحوظًا. فالتعريف ليس فقط هو تحديد العلاقات بين الدال والمدلول، وإنما هو فرض المفاهيم على الأشياء، حينما نقول إن المفاهيم تبنى على الأرض فإننا لا نغادر الحقيقة، ومن هنا يمكن بحق فتح الباب للوقوف على مفاهيم ومعاني انقلابية، يمكن تسميته "المعجم الانقلابي" يحرِّف الكلمات ويغتصب المفاهيم ويقتل بعضها عمدا وغصبا، ويئد بعضها وهي حية ويتلاعب بمعانيها في سياق صناعته لحالة استبدادية.
لا يشكل الوضوح الهدف الأساسي للخطاب المتعلق بالسلطة الانقلابية بل على العكس تسعى إلى تعتيم وتضبيب الرسالة عن طريق خلق الصيغ اللغوية المضادة والملتبسة من أجل قطع الطريق على كل جدل عقلي رشيد أو معارضة منطقية تعبر عن احتجاج؛ وذلك لأن هدفه الرئيسي ليس الإقناع والمجادلة أو حرية التعبير التي لا تعني في عرفه إلا النفاق له والانصياع والخضوع والطاعة العمياء لصالحه .. فخطاب السلطة شامل ونهائي ولا يحتاج إلى تعليق، ولذلك كانت السلطة الانقلابية مؤسسة على السكوت لا على الحوار حتى لو ادعت غير ذلك.
ويبقى السيد (صاحب السلطان) الرئيس المنقلب أو المنقلب الرئيس - في الأخير- دائم الحضور والمراقبة لتوزيع الكلام، وتحديد المواطن الصالح، وشكل العملية السياسية والتعامل. حضور القائد رمزيًا في كل مناسبة يزيد من وزنه، ويجعله أكثر قدرة على السيطرة والاستمرار حتى لو أنه لا يحسن الكلام. صاحب السلطة الانقلابية لا يمنع أن ينظر إلى أولئك الذين هم أدنى منه أنهم مجبرون على التوسل إليه وسؤال خاطره في كل لحظة؛ بمعنى أنهم لا يتعين عليهم وحسب أن يفعلوا ما يأمرهم به، بل عليهم كذلك أن يفكروا كما يريدهم هو أن يفكروا، وفي أغلب الأحيان يكون من الواجب عليهم أن يستبقوا أفكاره استجلابا لمرضاته .. ومن ثم فإن له أذرعا إعلامية وجوقة تسبح بحمده في كل المجالات.
وضمن هذا، فإن السلطة الانقلابية المستبدة تطلب من المواطن "التمثيل" الذي فُرض عبر مجرى التاريخ على الأكثرية الساحقة من البشر، ونعني بهذا "الأداء العلني الذي يفرض على أولئك الأشخاص أن يؤدوه.."، تفرز ظاهرة السلطة المستبدة وعلى رأسها السلطة الانقلابية، أيضًا عملية الخطاب المستتر لوصف الخطاب الذي يدور خارج إطار خشبة المسرح؛ أي فيما وراء الرقابة المباشرة التي يمارسها أصحاب السلطة، وأحيانًا يبرز خطاب يُحدث شرخًا في سطح الصمت والتوافق في عملية التمثيل .. إنه خروج على النص وربما خروجا على القانون ولا بأس بتجريمه واتهامه بممارسة الإرهاب فهو فقط من يحتكر الصواب ويفرض وفق قواعده ومصالحه مسالك الثواب والعقاب.
الخلط المتعمد من سلطة الانقلاب بين مفاهيم الدولة والسلطة والسيادة حيث بدت السيادة متوحدة مطلقة .. وبدت الدولة ضمن مفهومها السيادي الواقف عند حدودها، والمتعلق بأهدابها، والمؤشر على مركزيتها الاستبدادية، الزاحفة على الفاعليات والمجالات والفضاءات، وبدت تمارس جملة من وظائفها: تتخلى عن بعضها ما كانت غُرمًا، وتتمسك بوظائفها ما كانت غُنمًا.
وهنا وجب التنويه أن الدولة – السيادة كما آلت إليه في بلادنا إنما عبرت عن تماهٍ بين الحدود، فيما بين مفاهيم تعودنا أن نميز فيما بينها من مثل الدولة، السلطة، الحكومة، السلطة التنفيذية، النظام السياسي، جهة الإدارة والبيروقراطية .. كل ذلك وفق عناصر مشوشة في الإدراك، مشوهة في الممارسة، أصبح لا حد بينها ولا فصل، تعطي مساحات واسعة من الالتباس تسمح بالاستبداد حينما يحال الأمر في ممارسات السلطة إلى الدولة في محاولة لتقييد أي نقد للسلطة في حمى الدولة، فيتحدثون عن اعتبار أي نقد للسلطة هدم للدولة.
ويخطئ الباحثون لو ساروا مع هذا الفصل والتمييز من دون معرفة الواقع الذي يجعل هذا جميعًا كتلة منصهرة، جعلت عملية التشخيص في أبلغ تعبير: "أنا الدولة". وبدت الدولة – السلطة حالة تتحدث عن سيادة الشعب أو الأمة؛ فبدا الخطاب السياسي يغتصب - ومن أقصر طريق- الحديث باسم الشعب أو باسم الأمة، ويتحدث عما ترضاه وما لا ترضاه.
وظلت كل هذه الأمور في طي تنظير اختلف كثيرًا عن ممارسة تتماهى فيها الحدود، وتغتصب فيها الكلمات، خاصة لو كانت من مثل "الشعب" و"الأمة" و "الجماهير". وبدت الدولة حالة كاريكاتورية .. تصدع بالسيادة في عنفوان وبطش واستبداد حيث وجب ألا تصدع، خاصة في ميدانها الداخلي في العلاقة السياسية بين الحاكم والمحكوم، بينما تتركها نهبًا مستباحة حينما يتعلق الأمر بعلاقات قوى خاصة في الطبعة الأخيرة للنظام الدولي الجديد. تستباح فيه السيادة، ولكن وفق حدود وأفكار معينة، بينما تتعملق السيادة في مقام آخر لا نشهد منها سوى "السلطة التنين" على ما يشير "هوبز".
وتبدو هذه السلطة الانقلابية تمد نصوص عقود الإذعان "مواطنة المغارم": (مواطن لا حقوق له وسلطة لها كل الحقوق)، كيف يمكن أن تعبر عقود الإذعان، وتؤثر على مقام المواطن في علاقته بـ "الدولة- السلطة" خاصة السلطة الانقلابية؟
تعد تلك حالة نموذجية في "مواطنة المغارم"، وتعد العقود - ضمن نصوص طافحة تؤكد على فحوى بنائها وبنيتها- علامة واضحة على قاعدة "مواطن لا حقوق له، وسلطة لها كل الحقوق". مواطن يستهلك الخدمة هو في أمس الحاجة إليها، ودولة - تعد شركاتها ممثلةً لها- تتمتع بوضع الاستغلال والاحتكار معًا. وفي ظل النشأة المشوهة "للدولة – السلطة" على ما ذكرنا آنفًا تأتي عقود الإذعان لتمثل "حال ضعف المواطن" واستكانته ضمن هندسة القبول والإذعان، وحال تعملق السلطة ـ الدولة واحتكاريتها، ولسان الحال بين إذعان ملجئ (مكره أخاك لا بطل) وتحكُّم شبه مطلق (إن كان عاجب) (!)، وتضيف الحالة الانقلابية مفردات مثل "مفيش" و"مش قادر أديك".. بل ينتقل إلى "عايز".
إذن كيف تكون عقود الإذعان مدخلًا لصناعة مواطنة الإذعان؟، العقد الإذعانى الذي تقوم به مؤسسات الدولة الخدمية إنما يعبر عن حال إدراك المواطن للدولة، وإدراك الدولة لمقام المواطن. هذه العملية المتبادلة ضمن عناصر معادلة طاغية واحتكارية إنما تتمثل في ترسيخ هذا النسق من الإدراكات، والتذكير بمآلاته، والوصول إلى المواطن ضمن حالة قبول إذعاني، أو قبول في شكل الإذعان، وهو أمر قد يترافق في تدني الخدمات والأداء وسياسات تتسم بحالة مزمنة من عدم الاكتراث واللامبالاة والتقصير والإهمال.
المواطن ليس فقط لا يقول: "لا" على خطابات السلطة، بل هو لا يستطيع.
المواطن عليه أن يروض نفسه في عملية تدريبية ذهنية ونفسية للسلوك الإذعاني.
المواطن عليه أن يؤهل نفسه عند دخول أي علاقة مع "السلطة ـ الدولة"، وإذا كان هذا الأمر في ميدان الخدمات، فهو أيضًا في مجال أي علاقة يدخل فيها المواطن مع الدولة، إن صفات المنح والمنع، وعناصر التنظيم والتجريم والتأثيم عملية احتكارية مطلقة.
المواطن متهم لدى السلطة الانقلابية حتى تثبت براءته لها حق قتله أو اعتقاله أو مطاردته، بل وسحب الجنسية منه “المواطن المتاهة “،”المواطن الجباية “،”المواطن المغارم “،”المواطن المصيدة “،”المواطن الإذعان “،”مواطنة القطيع".
سلطة الانقلاب كحالة استبدادية أكيدة تمكن للظلم وتحرك كل شبكات الفساد تهدم الإنسان والمواطن والكيان والعمران “الانقلاب مؤذن بخراب العمران"، الانقلاب أعلى مراحل الاستبداد.
واقرأ أيضا:
مباركة ثورة مصر العربية / صورة ثورة...! / قراءة نفسية في ملحمة الأمل المصرية / مرسي والكرسي