درجنا منذ صغرنا على قناعة بأننا الأفضل بين العرب وأن الإنسان المصري رغم قلة موارده استطاع ويستطيع التفوق والتفرد والتميز دائما لأنه مصري!... عندما كنا صغارا كان كثير من الدلائل والشواهد تدل فعلا على لك وأنا شخصيا كمراهق قبل البلوغ ثم كراشد حتى سن دخول الجامعة تربيت في المملكة العربية السعودية وكان أبي وكذا أمي رحمهما الله مدرسا ثانويا ومديرة مدرسة ذهبا في إعارة من مصر إلى وزارة المعارف والرئاسة العامة لتعليم البنات في السبعينات والثمانينات من القرن العشرين وسافرت معهم بعد إتمام الابتدائية، كانوا إذن متميزين ككثيرين غيرهم من المصريين وكنت أعرف أثناء دراستي الابتدائية في مصر أن مدرسة كذا سافرت مع زوجها إلى الجزائر، وتلك إلى الإمارات وتلك إلى الكويت وهكذا...
ولم يكن ذلك فقط فيما يتعلق بالمدرسين والمدرسات وإنما تقريبا في كل الوظائف والتخصصات الأطباء والمهندسون والعاملون في أغلب الوظائف، غالبيتهم مصريون صحيح أن دولا عربية أخرى كالأردن وفلسطين وسوريا ولبنان والعراق كانت ممثلة لكن بأعداد تكاد تكون رمزية مقارنة بأعداد المصريين، وكذلك لاحظت وأنا في مرحلة الجامعة أن أغلب ممثلي العالم العربي في المنظمات والهيئات الدولية كانوا أيضًا مصريين.
مرت سنوات حكم حسني مبارك رابع رئيس مصري عسديمقراطي الثلاثون على مصر مرور النسيم المسموم فأتت على كل طيب فيها، ففي حين بدا زورا على السطح ما أطلقوا عليه اسم استقرار كانت جهود التنمية الرسمية في أي من المجالات على مدى عقود ثلاثة إما مزيفة أو مسمومة وكان ذلك في كل القطاعات تقريبا، وأسوأ ما كان أثره أن أتى ذلك على شعب في أغلبه يتغير للأسوأ ففي الوقت الذي تخلت فيه مصر الرسمية عن دورها في الحرب على إسرائيل باتفاقية كامب ديفيد؛
بدا أن شيئا ما ذي علاقة بصلابة المبدأ تكسر في نفوس المصريين خاصة المحافظين منهم، وروجت في ذلك الوقت شعارات سياسية من نوع مصر أولا وأننا قدمنا ما نستطيع لفلسطين وعلينا التفرغ الآن لبناء مصر، هنا اعتبر التخلي عن الواجب القومي والديني والإنساني المتمثل في إعادة أصحاب الأرض المسلوبة لأرضهم اعتبر هذا التخلي عند عامة الناس فهلوة وشطارة، وليس خفيا أن هذا إنما يمثل ربما أوسع الثقوب في ضمير الشعب المصري.
وتزامن ذلك مع طفرات زيادة في أعداد المسافرين خارج مصر طلبا للمال من الخليج أو العراق أو الأردن وتميزت المستويات المعرفية للموجات الأخيرة من المصريين المسافرين في زمن الحكم العسديمراطي واضحة التدني فأغلبهم من العمال... وظهرت بعد الانفتاح الاقتصادي موجات تجريف لا تكل ولا تمل لأخلاقيات الناس وشاعت ثقافة "شيلني وأشيلك" وثقافة "كله يسرق كله" وغيرها مما يمكن اختزال تسميته بثقافة الغش الاجتماعي المركب (الفساد مثلا لم يكن فسادا حكوميا فقط كان فسادا بين الناس وبعضها) أدنى وأوسع قاعدة بكثير مما يسمى اليوم بالفساد على نطاق عالمي ويقصد به غالبا الفساد الحكومي أو بين الدولي أو لنقل ثقافة التطبيع مع الفساد....
هذه الثقافة استوعبت كثيرا مما أشرنا إليه في سيكولوجية الغش وسيكولوجية البلطجة وفساد الذوق المصري العام ثم ظهرت في الآونة الأخيرة جرائم التحرش الجماعي وتبلورت علامات الإجرام الذي يظهر فجأة على أشخاص كانوا يعيشون بشكل عادي لعقود من الزمان وتميزت الجرائم بالقسوة والسادية ورأينا في ذلك رد فعل بدائي على الحياة غير الآدمية التي يعيشها المصريون من الصباح إلى المساء وهم لا يحترمون لا في بلدهم ولا بلاد الغير ومطحونون في بلدهم حقوقهم أقل من حقوق الحيوان في الدول الديمقراطية....
وظللنا لفترة يسافر المصريون خاصة الأطباء والمهندسون والصيادلة والمدرسون إلى دول الخليج ولكن أعدادهم بالتدريج تتناقص على مدى السنوات نتيجة طبيعية للانتهاء من إعداد الكوادر الوطنية من أهل البلاد المستضيفة لهذه العمالة، ربما ما يزال حتى اليوم كثيرون يسافرون إلا أن الشائع أن الطلب على المصريين أقل مما كان كما ظهرت مشكلة عدم الثقة في الشهادات التي تمنحها المؤسسات المصرية، ليس فقط أنها قد لا تعكس كفاءة حقيقية –وهو الحال العام في بلدان الخليج خاصة الإمارات- وإنما أنها يمكن أن تكون مزورة في الأساس!
هذا الكلام الذي أقوله في أغلبه سيهاجمني الزملاء ولكني أكاد أقسم لكل واحدة منهم أنه عايش بنفسه وقائع تبرر عدم الثقة في الشهادات المصرية؟ ألم تسمع بأن الغش الجماعي والعلني في الامتحانات فضلا عن تسريب أسئلتها صار حادثة سنوية عادية في مصر منذ سنة 2000 أو بعدها بعدة سنوات؟! وهو ولا حول ولا قوة إلا بالله سيحدث السنة القادمة!...
صحيح أن ما يتعرض له المصريون منذ عقود على المستوى الاجتماعي اقتصاديا وسياسيا وإعلاميا وعولميا لا يمكن فهمه للفاحص المتعمق إلا كشكل من أشكال الإفساد الممنهج للذمم، ربما العولمة فقط هي المبرأة من استهداف المصريين بوجه خاص لأن تأثيراتها تشمل البشر كافة، إلا أن واضعي الخطط الاقتصادية والمسارات والتوجهات السياسية والإعلامية في مصر ليس من الممكن تبرئتهم من جرائم الإفساد المتعمد،... ولسنا هنا في مقام الاتهام لأن الحقيقة الأسوأ هي أن لسان حال المصريين يقول لسنا بحاجة لمفسدين نحن أفسد من الفساد.
كل هذا اعتبروه مقدمة للموقف المتكرر في عيادتي والذي ضايقني ثم أحزنني ثم استفزني تكراره حتى أبكاني بالأمس، الموقف ذي علاقة بمرضى الهلع وهم مرضى يلجئون إلى طبيب عام في أول المرض، مريض نوبات الهلع أو اضطراب الهلع المصري العامل بالخليج والذي يضطر للكشف عند طبيب عام أو باطني في مستشفى سعودي حكومي فيقوم بالكشف عليه طبيب سعودي شاب مقابل مريض مصري آخر يتم الكشف عليه من قبل طبيب مصري أخصائي كبير في المستشفى أو المستوصف المتعاقد مع مكان عمله، فأما الأول فإنك تجد الطبيب السعودي الشاب أحسن التشخيص والتوضيح ووصف العلاج أو التحويل، في حين أنك تجد الطبيب المصري الأخصائي "الكبير" يظهر جاهلا بسبب الأعراض أو طائشا في توقعاته مرعبا للمريض عبر فحوصاته وليس قليل الحدوث أن يقوم بتنويم المريض -أي إدخاله المستشفى- وهو في الحقيقة أحسن استنزاف الشركة المؤمنة على المريض عبر الفحوصات وأساء إلى المريض الحساس جدا لشكوك من حوله في سبب أعراضه.
هل سبب هذه المشكلة هو أننا ببساطة في كليات الطب المصرية –أغلبها أو كلها- لا ندرس الطب النفسي أصلا بالشكل الذي يستحقه كأحد أكثر التخصصات الباطنية أهمية بالنسبة لطبيب الرعاية الأولية كما تظهر الممارسة الطبية على مستوى العالم، للأسف ليس فقط هذا هو السبب وإنما لفساد الذمم أيضًا دور في الموضوع لأن صاحب المؤسسة الطبية التي تستقبل المرضى المؤمن عليهم عادة ما يتفق مع الطبيب على حافز معين يضاف إلى راتبه لقاء ما يطلب من فحوصات، كل من عمل بالمؤسسات الطبية الخاصة بالخليج يعرف ما أقول وإن أنكره!
ما نسيت لا أنسى الحرج الذي تكرر وقوعي فيه وأنا أوقع الكشف الطبي على مرضى يمنيين في المستشفى السعودي الألماني بصنعاء اليمن إذ يحمل إخواننا اليمنيون من ذوي الحالات المزمنة ملفات مرضاهم وقد سافروا بهم إلى مصر و/أو الأردن و/أو سورية –أصلح الله حالها- وفي أكثر الحالات للأسف كانت مقارنة ما يحدث للمريض المغترب للعلاج في مصر بما يحدث في الأردن تؤدي بأهل المريض إلى استنتاج الفرق الواضح في ضمائر الأطباء لصالح الأردن.
هكذا كان يبدو عليهم ما كنت أستنتتجه بمجرد مطالعة الملف... وكنت أشعر بالحرج وأبتلع خجلي صامتا... تذكرت هذا الموقف الذي تكرر على مدار أربعة سفرات إلى صنعاء بدأت في 2010 وكانت الرابعة في 2014 ... وتكلمت فيه مع بعض من الزملاء والأساتذة شاكيا أسفي وكنا دائما ما نسكن آلام بعضنا بعضا بأنه لا يجوز التعميم و...إلخ.
تذكرت الموقف وأنا مع مريض هلع يحكي لي على خلفية من خلافات مع صاحب المصنع الذي يعمل به، كيف قادته الظروف حين داهمته نوبة الهلع الأولى في حياته إلى طبيب سعودي-رآه صغير السن جدا- بإحدى المستفيات العامة فشخص لها الحالة أنها حالة نفسية اسمها نوبة هلع وكثيرا ما تكون بسبب الضغوط والكرب وأن عليه إما اختيار العلاج النفسي أو الدوائي ولم يتركه حتى أفهمه حالته جيدا وطمأنه بشأنها، ورغم ذلك شك فيه بسبب صغر سنه، وبعد أكثر من أسبوع تكررت النوبة فأخذوه إلى المستوصف التابع لتأمين العمل وهناك أخضعه الطبيب المصري المتخصص الذي لم يخف قلقه عليه إلى فحوصات دم وأشعات ورسم قلب وأخيرا نومه بالمستشفى حتى الصباح للاطمئنان...
لم يحك هو شيئا للطبيب المصري لكنه في اليوم التالي ذهب إلى ذلك الطبيب السعودي ليشكره وأحس أن الفرق كبير.... ورغم أن هذه ليست الحكاية الأولى التي أسمعها عن شباب الأطباء السعوديين إلا أن هذه المرة أثرت في جدا ربما لأن المريض نفسه عقد المقارنة أو وضعته طبيعة الاضطراب الانتيابية في موقع من اضطر للمقارنة، فكنا مع الأسف مفضوحين جدا.
الشواهد على تراجع الأداء المصري وهشاشة المنتج المصري بشكل عام سواء تمثل ذلك في خريجي الجامعات أو حتى في مستوى الفنون المقدمة منذ ما يقارب العقدين لا جدال فيها، وبالرغم من ذلك ما يزال المصريون غارقين في نرجسيتهم كما أشار المهدي في مقاله عن النرجسية المصرية (وجدير بالذكر أني حضرت جزءًا من اللقاء الذي يحكي عنه في تلك المقالة لكنني لم أمتلك من الصبر وقوة التحمل مثله ما يمكنني من إكمال المحاضرة فتركت المحاضر وهو يقول أن الوضوء بصورته الإسلامية المعروفة هو أيضًا اكتشاف مصري قديم! خوفا من يقول مثلا أن محمدا عليه الصلاة والسلام نزلت عليه الرسالة في مصر ثم سرقها أهل الحجاز!) وأغلبهم في حالة من النكران والتخدير بالأمل أو تخدير الواقع بالأمس... حتى صدقوا أنهم يعيشون الأمس الذي صارت الهوة بينهم وبينه جد سحيقة، ليس سهلا علي الكلام كما أعرف أني سأتهم لكنني أرفض أن أكون القرد الذي ينكر عري مؤخرته رغم هزالة ذيله مثلما أرفض سياسة النعامة التي يعيشها كثيرون في هذا البلد.
واقرأ أيضاً:
الدم الرخيص/ النكسة الكبرى التي تنتظر مصر / إشراف دولي على امتحانات الثانوية العامة