الإصرار وأنت
كانت محاكمة سقراط هي أول محاكمة تختص بالفكر الإنساني في التاريخ نتيجة أفكاره التي دفعت السلطة إلى الضيق بهذا الرجل صاحب العقلية الكبيرة والقلب الطاهر، وبعيدا عن الأسباب الكثيرة التي خمنت الحكم بإعدام هذا المفكر الكبير فإن السبب الحقيقي أو الأسباب الحقيقية هي القضايا السياسية الكبيرة حيث أن أفكار سقراط أدت إلى عدم إيمانه بآلهة الدولة.
وكان سقراط يقنع بثوب بسيط رث يلبسه طول السنة، وقد تحرر إلى حد لا يصدقه العقل من داء التملك الوبيل الذي أصاب الجنس البشري كله على مر التاريخ، ويقال أنه أبصر ذات مرة كثرة البضائع المعروضة للبيع فقال: ما أكثر الأشياء التي لا أحتاجها، وكان يشعر دائما أنه غني في فقره، وكان مضرب المثل في الاعتدال وضبط النفس، ولم يكن ناسكا يعتزل الناس، بل كان يحب الرفقة الطيبة، وكان لا يرفض أن يُدعى إلى ولائم الأغنياء من حين إلى حين، ولكنه لم يخضع لهم أو ينحني امتثالا لأمرهم، وكان يرفض دائما هدايا الكبراء والأثرياء والملوك.
فماذا يقول سقراط في محاكمته:
"إذا قلتم يا سقراط إننا سنعفو عنك ولا نشترط عليك إلا أن تكف من الآن عن البحث والتفكير بطريقتك المعروفة عنك، أجبتكم يا أهل أثينا، إني أحبكم وأشعر نحوكم بالإجلال، ولكني سأطيع الله ولن أطيعكم ولن أمتنع ما دمت حيا، وما دامت لدي قوة في ممارسة الفلسفة أو تعليمها للناس، فسأعظ كل من ألقاه على طريقتي الخاصة وأقنعه وأقول له: يا صديقي لماذا تهتم كل هذا الاهتمام بادخار أكبر قدر مستطاع من المال والشرف والسمعة الطيبة، ولا تدخر إلا القليل اليسير من الحكمة والحقيقة، وأنت مواطن في مدينة أثينا العظيمة، القوية، الحكيمة؟
برئوني أو لا تبرئوني، ولكن أيا كان ما تفعلونه بي، فلتعلموا أني لن أبدل طريقتي ولو مرة واحدة من مرات كثيرة، أحب أن تعرفوا أنكم إذا قتلتم رجلا مثلي، أسأتم إلى أنفسكم أكثر مما تسيئون إليً، لأنكم إن قتلتموني لن يسهل عليكم أن تجدوا رجلا آخر مثلي، فأنا إذا صح لي أن ألجأ إلى هذا التشبيه المضحك السخيف، أشبه ذبابة بعثها الله إلى الدولة، والدولة شبيهة بحصان عظيم كريم، ولكنه بطيء الحركة لضخامة جسمه، وهو بحاجة إلى ما يبث فيه الحياة، وأنا هذه الذبابة التي تحرك الحصان وترفعه إلى النشاط وسرعة الحركة، وإذا كنتم لن تجدوا رجلا مثلي، فإني أنصحكم ألا تقتلوني وأن تبقوا على حياتي.
هذا بعض ما قاله سقراط في دفاعه، ويبدو أن قدرة الإنسان على التحمل هي أكبر مما نتصور جميعا، فقد تمر على الإنسان أيام سهلة ليس فيها تعقيد أو صعوبة ولا تحتاج منه إلى جهد كبير في مواجهة تلك الأيام التي تمر به في لطف وسلاسة ولكنه قد يجد نفسه فجأة أمام مشكلة عسيرة أو أزمة دقيقة.
وهكذا يتحول الإنسان تحولا كبيرا ربما لم يتوقعه هو نفسه ولم يتصور أنه قادر عليه، وإذا به يجد في داخله قوة تدفعه إلى الاحتمال والصبر والمواجهة والرضا بأي خسارة كبيرة، مادامت هذه الخسارة لا مفر منها، والذين يدركون أن قوة الاحتمال الإنساني كبيرة جدا هم وحدهم الذين لا يهربون من الأزمات الطارئة ولا ينهارون أمام الصدمات المفاجئة، ولا بد أن يكون الإنسان الذي يستخدم القدرة على التحمل عند الضرورة إنسانا صاحب شخصية قوية، ولا بد أنه قادر على التحمل لو أراد ذلك وأصر عليه.
وقد كان بإمكان سقراط أن يفلت من هذا الحكم(حكم الإعدام) – وكان القضاة في نفس الوقت يريدون له أن يفلت من حكم الإعدام حتى لا يتحملوا مسئولية إعدامه، وكان المطلوب منه فقط هو أن يعتذر ويعترف بأنه مخطئ وأن ينكر آراءه. ولكنه أصر على آرائه، وتم سجنه، وقد عرض عليه محبوه في السجن أن يقوموا بتهريبه من السجن، وكانت الخطة مضمونة النجاح حيث كان الحراس متعاطفين مع سقراط، ولكن سقراط رفض ذلك رفضا قاطعا، فقد كان من أسبق البشر في التاريخ إيمانا بأن روح الإنسان لا تموت بموت الجسد.
هناك مفكرون نتعلم مما يكتبونه، وهناك مفكرون آخرون نتعلم من حياتهم وسلوكهم وطريقة تعاملهم مع الناس والأحداث، كان سقراط رجلا يؤمن بالحياة ويعمل على تخفيف ما فيها من متاعب ومنغصات، وكان يريد للأفكار أن تؤثر في الناس وأن تكون وسيلة قوية لتحسين حياتهم وتحقيق السعادة لهم ومواجهة المشكلات التي تقف في طريقهم ومعالجة أي تعقيد في العلاقات الإنسانية حتى تصبح هذه العلاقات قائمة على التعاون والفهم المشترك ورحابة الذهن وتحمل الخلافات بروح طيبة بدلا من الخصومة والحروب والصراعات.
بالرغم من أن سقراطا أهتم بالأفكار العقلانية إلا أنه لم يهمل الجانب الجسدي، فقد كان يؤمن بالاعتدال في الطعام وممارسة رياضة المشي. كان يرفض أي تناقض بين صحة العقل وصحة البدن، حتى أنه لم يتردد في دخول الحرب إبان شبابه دفاعا عن مدينته، وقد تفوق على جميع المحاربين في قوة الاحتمال والشجاعة والفداء وأنه كان يصبر على الجوع والتعب والبرد فلا يشكو ولا يتململ.
* إن سقراط فيما كتب عن حياته لم يكن ضد الديمقراطية، ولكنه كان يدعو إلى نوع من الضوابط الواضحة تحفظ الحقوق لأصحاب الكفاءات والخبرات والذكاء والنبوغ، بما يتيح لهم أن يعملوا ويحتلوا مواقعهم الصحيحة دون الحاجة إلى إضاعة حياتهم في الجري وراء أعلى الأصوات في كل الانتخابات، وبذلك كان سقراط ضد الفوضى وضد التقليل من شأن أصحاب الكفاءات ولم يكن ضد الديمقراطية الحقيقية والواعية. فالديمقراطية مثلها مثل غيرها من المبادئ الإنسانية الكبرى يمكن أن تتعرض لإساءة الفهم والتفسير مما ينعكس بصورة سلبية على أمور المجتمع، وهذا ما كان سقراط يرفضه ويخشاه.
كان سقراط يكره الكلام المزخرف والعبارات الرنانة، وكان يدعو إلى تقويم الأخلاق، فالأخلاق الضعيفة عند الأفراد تعني أمة ضعيفة مهما امتلكت من أسباب القوة، كذلك لم يكن سقراط مغرورا ولم يكن يدعي أنه يعلم أكثر في فن البحث عن الأفكار، وكان يأبى أن يأخذ أجرا على تعليم الآخرين، وكان يلقي دروسه في أي مكان يجد فيه من يحب أن يستمع إليه، وكان تلاميذه يحبونه أشد الحب.
وهكذا كان سقراط نموذجا فريدا في الزعامة الفكرية والروحية، وكان خطيبا مفوها لا يزال صوته يتردد منذ أكثر من ألفين وأربعمائة سنة، يدعو إلى الشجاعة والوضوح في التفكير والتواضع ورفض الأوهام والخرافات التي تفسد سعادة الإنسان وتؤثر في سلامة المجتمع وقدرته على التقدم.
ويتبع >>>>>>>>>>>>>>>>>>>>> تابع سقراط وخصومه وآداب الخلاف في الرأي