قد تقوم السلطة على شرعية دينية (الحكم بأمر الله أو بتفويض من الله كما يدّعي الحاكم)، أو على شرعية ثورية (مبنية على تخليص الشعب من سلطة استعمارية أو حاكم ظالم) أو على شرعية قبلية (أقوى القبائل شكيمة هي التي تحكم) أو على شرعية القوة (من يملك الجيش هو الذي يحكم) أو على شرعية دستورية (من خلال أحكام الدستور وصناديق الانتخابات)، أو على شرعية تلفيقية تزويرية (من خلال شكل دستوري مزيف وعن طريق انتخابات تم تزويرها).
والسلطة الشرعية الدستورية هي أكثر السلطات موضوعية وواقعية وتوازنا وأقربها لتحقيق السلام الإجتماعي والتوازن بين قوى الشعب المختلفة لأنها تسمح بالتعبير المتوازن لكل القوى والطوائف التي يتشكل منها المجتمع، أما بقية الشرعيات الأخرى فهي تفتقد لهذه الموضوعية وتفتقد لحالة التوازن ولقيمة العدل، ولذلك تجدها في حالة توجس ويسيطر عليها الهاجس الأمني بشكل دائم، كالقطة الشرسة التي خطفت قطعة لحم وتعرف أن هناك من يطاردها، فتجد مبالغة في إظهار القوة والبطش السلطوي، وتجد توقفا تاما عن ممارسة السياسة بقوانينها ووسائلها والاكتفاء بالضبط الأمني والضغط الأمني والتوجيه الأمني، فالمفهوم السائد هنا عن الشعب أنه قطيع، والقطيع لا يساق إلا بالعصا.
أما شرعية المعارضة فتأتي من رغبة حقيقية لدى الناس في تغيير السلطة (إذا كانت غير شرعية) أو تعديل كيفية ممارستها للسلطة (إذا كانت شرعية). وعلى الرغم من أن المعارضة تتشكل من النخبة غالبا إلا أنها لكي تقوى وتنجح لابد وأن تكون معبرة عن أشواق واحتياجات قطاع مهم من الجماهير يشكلون الدعم والحماية لها من محاولات بطش السلطة.
أما إذا كانت المعارضة تشكل فقط رؤية النخبة دون جذور جماهيرية فإن ذلك لا يمنحها شرعية مهما كان بريق أفكارها ومبادئها. وهذا يطرح سؤالا مهما: هل تبدأ المعارضة من القمة أم من القاعدة؟
والجواب هو أن تفاعلا ما غير منظور يحدث بين القاعدة والقمة، فالقمة تستشعر رفضا معينا لبعض الأوضاع فتقوم هي ببلورة هذا الرفض وتنشيطه لدى القاعدة، ثم تشكل مسارات تستقبل فيها جهود القاعدة ومساهماتها وتقود العمل نحو إحداث ضغط على السلطة يكفي لأن تغير السلطة في نفسها أو تتغير بالكامل.
ولكي تحافظ المعارضة على شرعيتها فإنها مطالبة بأن تلتزم بقواعد اللعبة السياسية والإجتماعية وأن لا تستجيب لاستفزازات السلطة بهدف جرها إلى ممارسات غير شرعية وبالتالي تجد السلطة مبررا لتصفيتها، وهذه تكاد تكون أهم وسيلة تستخدمها السلطة لتصفية معارضيها وتجريدهم من شرعيتهم، وقد تلجأ إلى الكذب أو التلفيق أو تستغل أخطاء المعارضة أو تدفعها لارتكاب الأخطاء المبررة لاجتثاثها بدعوى خروجها على الشرعية.
والمعارضة في حقيقتها ليست خروجا على الشرعية أو خيانة أو تآمرا أو عصيانا أو تمردا (كما تحب السلطة المستبدة أن تسميها أو تصفها)، ولكنها في الحقيقة جزء مهم من منظومة الشرعية، لا يحدث التوازن السياسي أو الإجتماعي بدونه، فالرأي لا تتضح قيمته وأهميته وصوابه من عدمه إلا بوجود الرأي الآخر الذي يعضده أو يفنده أو يعدله أو يعارضه، كل ذلك بعيدا عن التآمر أو الخيانة أو العصيان أو العمل السري الذي يعطي السلطة المستبدة وغير المستبدة الحق في تصفية المعارضة أو قمعها أو تشويهها.
والمعارضة في مفهومها السوي هي حوار بين كيان ناضج وكيان ناضج آخر يختلفان في الرؤى والمفاهيم والممارسات ويتنافسان في تقديم الأفضل للجماهير صاحبة المصلحة العليا، أما في الأوضاع غير السوية، فإن العلاقة تكون بين سلطة والدية (تدعي ملكية الحق والحقيقة والتوجيه المطلق) ومعارضة تأخذ دور الطفل المتمرد الساخط المنفلت، والذي يعطي التبرير للسلطة الوالدية لقمعه (راجع نموذج مسرحيتي مدرسة المشاغبين والعيال كبرت لترى العلاقة – في شكل كوميدي – بين سلطة والدية مستبدة وغير منطقية وبين ذات أو ذوات طفلية غير ناضجة تعطي للسلطة الوالدية المبرر للوصاية الدائمة عليها).
وشرعية المعارضة تبدأ من البيت حيث يتربى الأولاد والبنات على أن لهم الحق في إبداء آرائهم بحرية وبشكل بناء مع الإحتفاظ بواجب الإحترام للأبوين ككبار لهما تجربتهما وسلطتهما الأبوية، وينتقل هذا المبدأ إلى المدرسة فيستشار الطلاب في الكثير من أمور العملية التعليمية دون انتقاص من حق المدرسين والمديرين والموجهين اصحاب العلم والخبرة، ويتصاعد هذا النموذج المحترم للرأي والرأي الآخر إلى كافة المؤسسات حتى يصل إلى المؤسسة السياسية في صورته الناضجة الراشدة.
وبدون ذلك النمو الطبيعي والتصاعد الهرمي الراسخ يصبح بناء المعارضة محاطا بالكثير من الشكوك، وهذا هو الوضع القائم في مجتمعاتنا العربية، فالشعوب تتطمح إلى الحرية والتعددية والمساواة والعدل على المستوى السياسي الأعلى في حين تفتقد كل هذه القيم على كل المستويات بدءا من الأسرة مرورا بالمدرسة والمسجد والكنيسة وأماكن العمل والمؤسسات والأحزاب الشكلية (في حالة وجودها) والجماعات.
والنظم الإستبدادية قد تحرم مجموعات معارضة من الشرعية (من خلال حظر نشاطها أو تجريمه ووضعها تحت سيف القانون المدني العادي أو قانون الطوارئ أو القانون العسكري) وبذلك تدفعها للعمل السري الذي قد يتحول في أي وقت إلى عنف وتمرد وعصيان، وقد يجر المجتمع إلى حالة صدام بين العنف والعنف المضاد، وصراع غير سلمي على السلطة يدفع المجتمع كله فيه ثمنا فادحا. وهذا ما يجعل مبدأ المعارضة الشرعية تحت مظلة الدستور (وليس مظلة السلطة ورؤيتها فقط ) أساسا هاما في استقرار المجتمعات. وقد ثبت عمليا أن المجتمعات التي أسست بناءها السياسي والإجتماعي على مشروعية السلطة والمعارضة هي المجتمعات الأكثر استقرارا والأكثر شفافية والأكثر عدلا والأقل فسادا، والعكس صحيح في المجتمعات التي ترفض المعارضة أو تخونها أو تلجمها أو تسحقها.
واقرأ أيضاً:
مصر تطلق لحيتها !....مصر تحلق لحيتها!2/ الحالة النفسية للإسلاميين/ الزعيم الملهم