قال تعالى (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً،.....). إذًا هناك تساؤلات كثيرة تدور في رؤوس الكثير من الناس حتى منذ عصر الرسول الكريم ولا تزال التساؤلات مطروحة إلى الآن عن أشياء كثيرة بخصوص الروح مثل ماهية الروح وكيفية ومعنى نفخ الله للروح في آدم أول إنسان اصطفاه الله ومدى علاقة الروح بحياة وموت الناس؟ وهل الموت للروح أم للنفس؟
وكذلك كيف فسدت الروح في معظم أبناء آدم بعد أن نفخها الله في آدم وانتقالها إلى أبنائه عبر الأجيال؟ وكيف يعذب الله الروح في النار على الرغم أن الروح من نفخ الذات الإلهية المقدسة في نفس الإنسان؟! هذه أمثلة من تلك الأسئلة ولكن يكمن وراءها أسرار إلهية مقدسة تحتاج لقلوب سليمة وعقول مستنيرة وأذن واعية حتى تفهم وتستوعب كل هذه الأسرار.
من المعتقدات الشائعة المتعارف عليها لدى معظم الناس أن الحياة والموت مرتبطان بالروح. فالروح يتم نفخها في مضغة الجنين عند بلوغه أربعين يوما من خلال ملك يوكله الله هذا الأمر وبعد تسعة شهور يتم اكتمال نمو الجنين فيخرج إلى عالم الدنيا يحمل في جسده روحه التي تجعله يستمر في الحياة وعند انتهاء الأجل الذي قدره الله لهذا الإنسان يتوفاه الله من خلال إرسال ملك الموت إليه ليقبض روحه ويصير الجسد ميتا حيث يتم دفنه في التراب ليتحلل ويتحول إلى رفات وعظام ويمكث ربما آلاف السنين انتظارا للإحياء بإرادة الله عند البعث ليتم الحساب! هذه هي القصة التي يعرفها معظم الناس. لكن لا أحد يدري ماهية تلك الروح وكيف تدخل الجسد ولا كيف تغادره؟ وأين تذهب؟ وهل يكون الموت في حقيقة الأمر بخروج الروح أم بهلاك نفس الإنسان أم بجسده؟
إذا لابد لنا أن نفهم هذا الموضوع وذلك من خلال هذا الطرح المستند على الأدلة والبراهين من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ولكن قد تكون تلك الاستدلالات مستغربة في البداية حيث أن هذه الأطروحات والتفسيرات لم يطلع عليها الكثير من الناس!!
أحبابي في الله وفي حب رسول الله وأهل بيته. بداية أود توضيح نقطة هامة وهي أنني هنا لا أدّعي علمَ ما سأطرحه في هذا الموضوع بأنه من بنات أفكاري، ولكن كل ما أقوله يستند على كلام الرسول وكلام أهل بيته الطيبين الطاهرين وأنا هنا مجرد ناقل لكلامهم ومحاول تبسيط كلام الرسول حتى نستطيع فهم هذه الأسرار الغامضة على الكثيرين منا حتى أنا؛ لأن كل هذه الاستفسارات كثيرا ما دارت في فكري مثل معظم الناس الباحثين عن الحق والحقيقة، لكن أرجو الانتباه والتركيز مع كلامي فهو يحتاج أن نقرأه بتمعن ونقرأ الموضوع حتى النهاية وربما يحتاج للقراءة مرة أخرى. إذًا بعون الله وعلى بركة الله لنبدأ في توضيح تلك الصورة الغير واضحة ابتغاء لوجه الله. والله من وراء القصد فهو نعم المولى ونعم النصير.
من المؤكد أن المولى سبحانه وتعالى قد ذكر الموت والحياة والنفس والروح في القرآن في آيات كثيرة ولكن للأسف لم يفهم الكثير من الناس المقاصد الصحيحة لمصطلحات النفس والروح وارتباطهما بالحياة والموت وماهية الموت وكيف يحدث؟ وماذا يحدث للنفس والروح بعد الموت وفناء الجسد؟ وما هو عدد الموتات التي يموتها الإنسان؟ وهل هذه الأمور ثابتة لكل الناس أم أن هناك اختلافات وتفاضل بين أبناء آدم؟ وما هي كيفية إحياء الله للناس بعد الموت عند البعث والحساب؟ وهل العذاب للنفس أم للروح؟ وما هي كيفية هذا العذاب؟ ولفهم كل ذلك يجب الانتباه والتركيز تماما فيما سنقول!!
يعلم الكثير من السلمين ما جاء من آيات كريمة بخصوص النفس (كمفرد) أو الأنفس أو النفوس (كجمع) ونذكر من تلك الآيات ما يلي: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا......) & (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)) & (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (53)) & (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) & (...... وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحّ.....َ ) & (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)) & (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) في هذه الآيات نرى وصف المولى سبحانه وتعالى لبعض طباع النفس البشرية بأنها لوامة أو أمارة بالسوء أو تتصف بالشح أو أنها نفس مطمئنة وما إلى ذلك من صفات النفس.
من الملاحظ أن الموت قد نسبه المولى سبحانه وتعالى في القرآن للنفس وليس للروح كما سنرى في آيات كثيرة حيث قال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)) وقال: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)) وقال: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً.... ).
إذًا في هذه الآيات نجد الارتباط الواضح بين الموت والنفس أو الأنفس ولم يذكر المولى سبحانه وتعالى شيئا على الإطلاق عن الروح وارتباطها بالموت! فهو لم يقل أنه يتوفى الروح أو يقبض إليه الروح أو أرواح الناس عند الموت! بل نجد وبصريح الكلام وفي كل هذه الآيات أن الموت يكون للنفس أو الأنفس كما جُمعت في القرآن على (أنفس) أو (نفوس)؛ فنفهم من ذلك أن النفس هي ذات منفصلة متعددة بدليل جمعها بصيغة (أنفس) أو (نفوس) وهي التي تموت كما هو مثبت في الآيات السابقة. بينما لم نجد لكلمة الروح أي صيغة جمع وهذا بالطبع يدل على أن الروح ليس لها علاقة بالحياة والموت بالمعنى المتعارف في عقول الناس!
لقد اتفقنا إذا بأن الموت هو للنفس أما الروح فهو شيء آخر يحتاج لفهم متعمق وبالتالي يحتاج إلى مقدمات وشرح لمحاولة معرفة أو تحديد معنى الروح أو ماهية الروح. هذا في البداية على الأقل.
من الواضح أن الروح شيء واحد متصل بالذات المقدسة حيث تم نسبة كلمة –الروح- إلى الذات الإلهية المقدسة أو منسوبة لأحد ملائكته العظام كما سنرى في كل الآيات القرآنية إلا في آية واحدة في القرآن والتي بخصوص السؤال عن الروح {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً،.....} حيث تم طرح فكرة تساؤل الناس عن الروح ويُفهم من الإجابة أيضا أن الروح مرتبطة بالله فهي من أمر ربي.
ولنرى تلك الآيات التي تتحدث عن الروح وهي كما يلي:
1. لقد ذكر المولى سبحانه وتعالى (روحنا) في أكثر من آية حيث قال تعالى: (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)) وقال: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) وقال: (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) ففي الآيات الثلاث السابقة تحدث عن الروح بصيغة (روحنا).
2. وقال (روحاً من أمرنا) كما جاء في هذه الآية (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (52)).
3. وقال: (روح القدس) كما جاء في هذه الآية (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) .
4. وقال: (الروح الأمين) كما جاء في هذه الآية (وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195)).
5. وقال: كلمة (الروح) فقط مفرد مجرد بدون إضافة كما جاء في هاتين الآيتين (يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا) & ( ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر.
إذًا كما رأينا لقد جاءت كلمة الروح بصيغ مختلفة وكلها بصيغة المفرد المذكر حيث قال فأرسلنا إليها روحنا (فتمثل) ولم يقل (تمثلت) لها بشرا سويا، وقال (نزل) وليس (نزلت) به الروح الأمين. وقال يوم (يقوم) وليس يوم (تقوم) الروح. فالروح على ما رأينا هو شيء واحد مذكر ولكن الاختلاف في التسمية ليس منشأه التعدد في الروح بل هو التفاضل في المقامات والقوة والقدرة للروح مثل الماء القليل والماء الكثير لأننا كما نعلم أن الماء لا يمكن جمع كلمته فلا نقول للماء الكثير (ماءات أو أمواء) كجمع للماء وكذلك الروح لم نجد له أي جمع في القرآن الكريم.
لكن في موضع سورة الواقعة عندما تحدث المولى سبحانه عن سكرات الموت حيث قال: (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (87)) فقد قال المفسرون بأن عودة الضمير هنا في كلمة (ترجعونها) يعود على -الروح- ولكن لو ركزنا جيدا في الآية لتأكدنا أن الضمير لا يعود إلى الروح بل يعود الضمير المؤنث المتصل في (ترجعونها) إلى النفس وهي تعاني سكرات الموت. لأننا رأينا في الآيات السابقة من القرآن ما يؤيد ذلك حيث أن كلمة (الروح) رأيناها دائما تأتي في صورة المذكر أما (النفس) تأتي مؤنثه مثل (ونفس وما سواها) وواضح أنه هنا يتحدث عن شيء مؤنث ولهذا قال (ترجعونها). فالكلام هنا عن النفس المؤنثة وهي تموت.
وبالتالي تتأكد العلاقة بين النفس وحياة البدن! فلا حياة للبدن بغير نفس ويؤكد ذلك تقسيم الرسول الكريم للنفوس، إذ عدّ للحيوان نفساً، وحتى للنبات نفساً، فربط بين النفس والحياة من جميع الجهات وكان دائما ما يقول (والذي نفس محمد بيده) كما أن أحد الصحابة على عهد رسول عندما أسلم هددته أمه بأنها ستمتنع عن الأكل والشراب حتى تموت كما لو كانت تعلن له الإضراب عن الطعام كما نرى في هذه الأيام وذلك حتى تثنيه عن إيمانه بالدعوة الإسلامية. فانظروا ماذا قال لها هذا الشاب.
والله يا أمي لو أن لك مائة نفس خرجت نفسا تلو الأخرى على أن أترك دين الله ما تركته أبدا! فهو يتحدث هنا عن موت النفس فحتى لو كانت أمه تمتلك مائة نفس وستموت كل نفس واحده تلو الأخرى ما تراجع عن إيمانه بالله وبرسوله الكريم! كما نلاحظ أن القرآن الكريم قد اعتبر الكافر ميتا (أموات غير أحياء)، (أفمن كان ميتاً فأحييناهُ وجعلنا له نوراً يمشي به) فالكافر إذًا ميت حتى وإن كنا نراه بدنا حيا يأكل ويشرب ولكنه في الحقيقة هو نفس ميتة لأنها بلا روح فهو كالأنعام.
فصار مقبولاً الآن قول بعض العلماء بأن الإنسان قد سبق آدم وأن المولى سبحانه وتعالى قد اصطفى آدم (أي اختاره) من مجموع هذا الإنسان الذي كان قبله وما زال موجودا معه بدليل قول المولى (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿33﴾ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿34﴾) فالاصطفاء يعني الاختيار والتفضيل فاصطفاء آدم مثل اصطفاء نوح وآل إبراهيم وآل عمران حيث اختارهم وفضلهم من بين مجموع الناس الموجودين معهم في الزمان والمكان! وبالتالي يمكن القول هناك مجموع هذا الإنسان قد استمر حينا من الدهر كالبهائم لم يكن شيئا مذكورا كما قال المولى سبحانه وتعالى (هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا (1)).
و(الإنسان كفور)، إذن فهو ميت - لكنه كائن حي- وموته هو في كونه نفسّ ببدن حي لكن من غير روح فهو نفس (ميتة) في بدن حي -ولكي تحيا النفس (كما برهناه من أن الموت والحياة للنفس في القرآن)- فلكي تحيا تلك النفس الميتة في البدن الحي لا بد من حصولها على الروح، ونقصد بإحيائها الإحياء الأبدي وحصولها على الروح حياة لها ولو مع فقدان البدن أو موته.
كما أن هناك من القرآن ما يدل على أن هناك أناسا لا يزالون أحياء ولم يموتوا إلى الآن منهم الشهداء والأنبياء والصديقون استنادا لقول المولى سبحانه وتعالى (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)) وكذلك سيدنا يحيى حيث قال عنه سبحانه وتعالى (وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)) فهو لم يمت إلى الآن لأنه لم يقل والسلام عليه يوم مات وكذلك سيدنا عيسى عليه السلام حيث يقول (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)) إذًا هؤلاء الأنبياء وهؤلاء الشهداء لا يزالون أحياء فما هو السر؟
إذًا لقد كان نفخ الروح في الإنسان الأول المصطفى من هذا المجموع هو لإحياء نفسه لا لإحياء بدنه لأن بدنه حي مثل سائر المخلوقات؛ إذ قد سواه قبل النفخ فلما صارت النفس سوية واستقبلت الروح وأصبح فيها الحياة الروحية استحقت السجود لها من جانب الملائكة وبذلك سجدوا لآدم لأنه أصبح أكثر تعظيما عند الله حتى من الملائكة فأسجدهم له. وربما في مرة أخرى -إن شاء الله- سوف نتحدث عن بداية الخلق وخصوصا خلق آدم وكذلك عملية إحياء الناس يوم البعث.
إن الروح هي تلك الملكات واللطائف الإلهية الطيبة التي تسمو بالنفس الإنسانية حتى أعلى من الملائكة ولكنه اختياري وهذه هي الأمانة التي حملها الإنسان وبالتالي يتقبل الإنسان الإيمان بالله وبرسله وملائكته وكتبه ويختار بنفسه ولنفسه حسن الخلق والبر والإحسان والرحمة والعطف والتواد والتحابب والإيثار وكل نواحي حب الخير والبعد عن الشر. فكلها هبات وملكات من روح الله التي تجعله يقترب من ملكوت الله ويسمو بها إلى الملكوت ويصبح فعلا خليفة الله في الأرض كما كان آدم عليه السلام!
هذه الملكات أودعها الله في الإنسان والتي تتخذ الجينات موطنا لها وتظهر في مضغة القلب الذي يسمو بالعقل وتنتقل هذه الروح المقدسة من الآباء للأبناء وهي من روح الله يضعها المولى سبحانه في الإنسان ويتقبلها الإنسان في نفسه وهي ما تسمى بنفخ الروح!
فالنفخ إذًا ليس كما نتخيل من أنه مثلما نفعل نحن خلال النفخ العادي! فالله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء ولكنه يقوم بإيداع تلك الأسرار بداخل النفوس! والذي يحكم تقبل النفخ أو استلام تلك الملكات هي قدرات ذلك الإنسان! فالأنبياء عندهم الاستعداد لتقبل تلك الملكات الروحية حتى أن سيدنا عيسى روح الله وكلمته ومثله سيدنا يحيى قد استقبلا كمية كبيرة من روح الله فسيدنا عيسى كلم الناس في المهد صبيا وآتاهما الله الحكم والنبوة وهما في مرحلة الطفولة والصبا! وفي المقابل نرى الكفار يولدون ويموتون وليس لديهم ذرة من روح الله إن هم إلا كالأنعام بل أضل سبيلا فهم وقود النار!
فالآن إذا سقط عن الاعتبار ذلك التساؤل: كيف تعذب الروح في النار وهي من نفخ الذات المقدسة؟ لأن هذا التفسير يُنكر أن يكون للكافر روحاً حتى يسأل السائل عن عذابها.
وقد يسأل عمنّ يُعذَب قليلاً أو كثيراً على المعاصي ثم ينجو فهو مؤمن وله روح؟
فيقال: قد تُعذّب النفس والبدن -برزخياً أو في الرجوع إلى الدنيا- حتى تكون قادرة على احتواء الروح بصورة دائمة -فإذا بلغ ذلك نجا- وإذا لم تبلغ ذلك بقي ما بقي على ذلك الحال.
وأما الأحاديث فهناك نص يؤكد على ذلك إذ أفاد وجود خمسة أنواع للروح هي: روح البدن وروح القوة وروح الشهوة وروح الإيمان وروح القدس.
وحينما شرح الحديث طبيعة هذه الأرواح أفاد أن الأرواح الثلاثة الأولى عامة وهي قوى أرضية المنشأ وهي لكل الخلق -بينما روح الإيمان خاصة بالمؤمنين وروح القدس خاصة بالرسل والأولياء- فنفهم من ذلك أن نفخ الروح في آدم يراد بها روح الإيمان فقط لأنه لم يكن له عزما وغوى آدم وعصى ربه ثم تاب عليه.
نعود للآية الكريمة (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي.... ) قالوا إن الله تعالى قد ترك الإجابة عن السؤال، بل نهى عن السؤال بشأن الروح باعتبار أنه قال: قل يقصد -قل لهم أيها النبي- أن الروح من أمر ربي فلا تسألوا عن أشياء لا تفهمونها.
ولكن في الحقيقة أن الله قد أجاب عن السؤال بنفس العبارة وفي نفس الآية، لأنها عبارة تعرّف الروح تعريفاً كاملاً من ناحية بناء الجملة: (الروح من أمر ربي) فلو أراد الله المنع من السؤال لمنع بأي صيغة أخرى مثل (قل لا تسألوا عما ليس لكم به علم) أو (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) بل إن التعقيب في الآية يفيد إمكان حصول العلم عن الروح وان كان قليلا!
ولو شاء لقال كما في موضع آخر (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) بل إن التدقيق يحتم أن يقول (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) [القليل] هو ما أوتينا في الماضي ولا يمنع من حصول العلم الكثير مستقبلاً –وإن التعقيب يشير إلى أننا لجهلنا لن نفهم هذا التعريف المختصر والمركز في أربع كلمات: (الروح من أمر ربي) إن كلمة (من) في هذه الآية تعني الجزئية المتفرعة عن الأصل.
فهي بصدد الإشارة إلى المنشأ الذي تصدر منه الروح -أي أنها على أصلها اللغوي. وهذا يعني أن هذا الحرف بهذا المعنى قد جعل مصدر الروح هو الأمر الرباني. وهي مثل (يحفظونه من أمر الله) أي هم من أمر الله ويحفظونه من أمر الله إذ (لا عاصم من أمر الله) كما قال نوح عليه السلام لابنه!
إذًا فالروح هو أحد الأوامر الصادرة من مقام الربوبية (الروح من أمر ربي)
كما أن الأمر هنا هو معناه الأصلي كالذي في قوله تعالى (ولا أعصي لكَ أمرا) (وأمرهم شورى) والأمر بمعناه الشامــل ليس سوى الكــلام الـذي يراد تحقيقه، حتى في قوله فالأمر إذًا قول وإنما يتشاورون بالكلام. وكل أمر صدر هو في الأصل لفظ أي حروف بصوت فيرجع إلى أصله كذلك الروح يحتاج إلى نفخ (ونفخت فيه من روحي) (فنفخنا فيه من روحنا).
والأمر الرباني هو كلام الله أيضاً. وإذًا فالتعريف (الروح من أمر ربي) إنما يرجع الروح إلى منشأه وهو الأمر الرباني، أي أن بعض هذا الأمر هو الروح!
الآن توضحت أكثر من ذي قبل العناصر اللفظية التي تركبت منها آية سورة القدر (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر.
قد يظن البعض أن الأمر الرباني يحتاج إلى نفخ لظهوره. كيف هذا وهو متصل بالذات الإلهية المقدسة الذي يتكلم بلا أدوات أو معالجة أصوات؟ لكن حينما ينشق عنه الروح - ويُراد من الروح أن تسري في البدن المادي يصبح النفخ ضرورياً.
لذلك لم يرد مع الأمر نفخ وورد النفخ مع الروح فقط. وعلى صعيد المخلوق لا يقال (نفخ) للأمر؛ لأن الأمر هو كلام صوتي فالنفخ جزء من صورته تلك لا تحسب أن النفخ يتم دفعة واحدة، لأنه إذا حصل كذلك فهو يستغرق زمناً ما وإذا كان أمره أن يقول للشيء كن فيكون فقد يحدث تناقض في الفهم.
يجب أن نزيل من أذهاننا صورة النفخ المعهود لدينا. إذ النفخ يستغرق زمناً مختلفاً بحسب درجة استعداد النفس لقبول النفخ. فالزمن المستغرق متعلق باستعداد النفس لا بقدرة النافخ، إذ أن الله على كل شيء قدير. ومن طبيعة النفخ أن يكون تدريجياً أو دفعات حتى في المعهود لدينا عن النفخ العادي.
إذًا (فكمية) الروح السارية في كل فرد من ولد آدم مختلفة جداً منذ انعقاد العلقة وإلى لحظة الموت فيكون كل منهم قد استلم مقداراً منها مختلفاً جداً، فبعضهم يولد ويموت ولا روح له وبعضهم يولد وله روح عظيمة مثل الأنبياء! ألم نلاحظ مع سيدنا عيسى وسيدنا يحيى عليهما السلام من إيتاء الحكم والنبوه من مرحلة الطفولة بل منذ الولادة.
من الممكن تشبيه الروح بأنه ذلك الشيء الذي يودعه الله في الإنسان لكي ينتج شيئا أثيريا قد نسميها طاقه أثيرية تجعله يفعل الأشياء أو الأمور الإيمانية والعبادية والأخلاق والسلوكيات الطيبة المتوافقة مع روح الله الإيجابية. وقد يكون ذلك الشيء الأثيري كشحنات الكهرباء وأقرب مثال لذلك البطارية المولدة للكهرباء. فالكهرباء الناتجة من البطاريات تختلف في قوتها من فولت إلى فولت مثل بطارية الساعات أو الراديو أو الموبايل أو السيارة كما يوجد مولدات الكهرباء التي تنتج مئات الفولتات وحتى التوربينات العملاقة مثل السد العالي والتي يصل توليدها إلى آلاف الفولتات ليتم نقلها من خلال أسلاك وأبراج الضغط العالي لتنير مدن بأكملها!
هذا مثال مبسط لبيان الفروقات في قوة هذه الطاقة! ولكن لبيان مدى إمكانات ما تفعله هذه الروح في الإنسان. ربما يمكن تشبيه الروح بالهارد ديسك في أجهزة الكمبيوتر والتي يتم من خلالها عمل البرامج والعمليات المنوط بها في هذه الكمبيوترات والذي يعتمد على قوة البروسيسور والرامات ومدى استعداد أو تطور هذه الكمبيوترات حيث تختلف قدرات هذه الأجهزة بشكل كبير بناء على ذلك!
إذًا هناك طاقة أثيرية تنتجها الروح داخل الإنسان أو لنقل قدرات البرامج الكمبيوترية والتي كما نرى تختلف فيما بينها بدرجة كبيرة! منها الكمبيوتر الشخصي وإمكاناته البسيطة وحتى الكمبيوترات العملاقة في مراكز الأبحاث الذرية أو أبحاث الفضاء والتي تعالج الكم الرهيب من البيانات المعقدة!
وكذلك الإنسان فهناك أناس ليست لديهم أي روح مثل البطارية الفارغة من الشحن أو الكمبيوتر المدمر وهم غالبية بني آدم فهم إذًا ليس لديهم أي روح وهم الكفار وهناك القلة القليلة من الناس وهم الأصفياء من الأنبياء لديهم طاقة روحية عالية جدا مثل مولدات السد العالي مثلا والتي تستطيع إضاءة بلد بأكملها بل إن الرسول أضاء الدنيا وسيضيء الكون كله بنور وجهه الكريم لدرجة أن الله قد وصفه بنفس صفات الشمس والقمر. حيث خاطبه قائلا (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا (46)).
إن الروح قد يجعل الإنسان يرتقي أخلاقيا وإيمانيا حتى تجعله عبدا ربانيا أو قد تتسافل الروح حتى يصير الإنسان أسوأ من الحيوانات مثلما حدث مع بعض بني إسرائيل الذين مسخهم الله إلى قردة وخنازير! ولنعود إلى مثال الكمبيوتر فقد يتطور ويتم تحديث البرامج وتطويرها للأفضل من خلال الاستعمال المثالي وربما يساء استخدامه ويتم تدميره مع استمرار سوء الاستعمال حتى يتوقف تماما لنقوم بالتخلص منه في الزبالة فهؤلاء الكفار مثل تلك الكمبيوترات المعطلة التي لاتساوي شيئا!
لقد تأكدت الآن العلاقة بين النفس وحياة البدن! فلا حياة للبدن بغير نفس ويؤكد ذلك تقسيم الرسول الكريم للنفوس، إذ عدّ للحيوان نفساً، وللنبات نفساً، فربط بين النفس والحياة من جميع الجهات وكان دائما ما يقول (والذي نفس محمد بيده) ولهذا فقد اعتبر القرآن الكريم أن الكافر ميت بالرغم أنه يأكل ويشرب وما إلى ذلك (أموات غير أحياء)، (أفمن كان ميتاً فأحييناهُ وجعلنا له نوراً يمشي به) فهو إذا بدن حي ولكن نفسه ميتة.
اللهم طهر روحنا ولا تجعلنا مع هؤلاء الكفرة المعاندين واجعلنا مع رسولك وأهل بيته الطيبين الطاهرين ومع كل عباد الله الصالحين. اللهم آمين! وصلِ اللهم على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.