المتابع للشأن العام يكاد يلحظ شيوع عدة مصطلحات جديدة نسبيا للتعبير عن تعاطي الفرد لمفهوم الدولة وعلاقته بها بوصفها تنظيما سياسيا وجهازًا أو مجموعة من الأجهزة تتضمن وظائف محددة أو أمورًا بيروقراطية وحكومية (بالمعنى المكيافيللي البسيط). لكن هذه المُسمَّيات أو المصطلحات تتفاوت فيما بينها من حيث الدلالة وقدرتها الحقيقية على الإشارة إلى وجهة نظر المواطن في الكيان الذي ينتمي إليه والكيفية التي يفسِّر بها المصري الكثير من الأحداث التي تكون الدولة طرفا فاعلا فيها.
بعضها له صفة إليكترونية وهو واسع الانتشار والقبول على مواقع التواصل الاجتماعي التي صارت فاعلا بشكلٍ ما في الحراك السياسي الخجول في مصر بعد 30 يونيو، والبعض الآخر تم تدشينه في العديد من الكتابات الصحفية بل وتسرّب لأحاديث الناس. لا بد أنك بالتأكيد قرأت هنا أو هناك مصطلح، "الدولة العبيطة، مدينة البط، جزيرة اللالا لاند، ماسر أو مسر (النطق المشوّه لاسم مصر)، جمهورية الموز، اللا دولة، مجتمع اللا دولة، والدولة العميقة وغيرها".
يذهب أحمد فهمي في مقالٍ له على موقع "الأمة" إلى أن الدولة العبيطة دولة لا رئاسية ولا برلمانية ولا مختلطة ولا دستورية، هي فقط دولة "عبيطة" تستمد وجودها من دعم المغفلين السوبر (يقصد المواطنين ذوي معدلات الذكاء المتدنية) فيها والذي قدَرهم في حدود 2-3 مليون مصري عبيط! صفحة أخرى على فيسبووك اسمها الدولة العبيطة ده كان زمان دلوقتي الدولة المتخلفة عقليا.
محمود محمد حجازي صاحب بوستات "الدولة العبيطة في أسبوع" الشهيرة على فيسبووك يُكرِّس للمعنى القاموسي للعَبَط بوصفه انعداما للنضج أو معادلا للبلاهة، فحجازي دائما ما يستطيع التدليل على هذا من مطالعته للصحف المصرية والأخبار والتصريحات الصادرة عن وجوه الحكومة كل أسبوع والتي لا يُفسّر كثيرا من مفارقاتها المضحكة المبكية وعجزها العقلي وابتذالها سوى العبط. على سبيل المثال وتعليقا على خبر صدور حكم بالاعدام على ستة من الفلسطينيين، استشهد ثلاثة منهم في وقت سابق في غزة، يكتب حجازي: "تعالوا بقى نقول إن دا تحول عظيم من مرحلة الدولة العبيطة إلى الدولة اللي ناكشة شعرها وﻻبسة طاسة مقلوبة وبتجري ورا الناس في الشارع"؛ لكن التعبير الأخير تحديدا هو ما يشير إلى المستوى المرضى الذي آلت إليه الأمور عبر طرح الدولة في صورة مشرد متخلف عقليا مضطرب السلوك.
كاتب القصة القصيرة الأمريكي ويليام سيدني بورتر الشهير بـ أو هينري O. Henry هو من صك مصطلح جمهوريات الموز ، العام 1904 في كتابه (الكرنب والملوك Cabbages and Kings ) أثناء إقامته في الهندوراس هاربا من تهمة اختلاس بالولايات المتحدة؛ لكنه أصبح قيد الاستخدام الفعلي في ثلاثينيات القرن الماضي. يشير مصطلح جمهورية الموز في صورته الكلاسيكية إلى جمهوريات أمريكا الوسطى غير المستقرة سياسيا والتي تعتمد في اقتصادها على السياحة وزراعة محصول واحد هو الموز غالبًا، كما تهيمن على اقتصادياتها القوى الخارجية كالشركات الزراعية الكبرى. هذا المصطلح المُؤلِم يشير بأصابع الاتهام للديكتاتوريات التي تحكمها قلة من الأثرياء ذاتيي الانتخاب (انتخبوا أنفسهم وعملية انتخابهم لا تعبر عن إرادة حقيقية للشعب) ويتجلّى فيها التزاوج الفاسد بين السياسة والاقتصاد. لكن المصطلح لم يعد حكرا على أمريكا الوسطى وتم سحبه على جمهوريات أخرى في أفريقيا وفي كل مكان بالعالم.
مدينة البط هو مصطلح آخر ينتمي لفن (الألش) لو جاز التعبير. يمكننا أن نقول إن مدينة البط هي المكان الذي يمارس فيه صاحب قناة الفراعين وعضو مجلس الشعب توفيق عكاشة التنظير حول شروط الترشّح لمنصب الرئيس! موجِّها كلامه للدكتور محمد البرادعي، جعل توفيق عكاشة من تقنيات تزغيط البط مقياسا ما لأصالة الشخصية المصرية ومهارات الرئيس. إن مدينة البط هنا هي نفس المكان العبثي الذي يمكن لأي شيء أن يحدث فيه. الكاتب الصحفي حسن المستكاوي في أحد مقالاته في جريدة "الشروق" تحت عنوان "التدريب في مدينة البط" يضيف معنى جديدا للمصطلح وهو البطء والعجز عن اتخاذ القرار وإن كان كرويا، فيقول:
"هذا هو الحال فى مدينة البط، بما تضم من شخصيات خلبت عقولنا ونحن صغار، ورسمت الابتسامة على وجوهنا، ثم أوجعتنا وجعلتنا فلاسفة حين كبرنا، ووجدناها تعيش فى مجتمعنا بنفس طرق تفكير شخصيات مدينة البط القديمة من ميكى وبندق، ولوز، إلى بطوط، ومحظوظ وعم دهب؟!!"
مُجَدَّدًا هي الحالة الكارتونية التي تحيا فيها شخصيات والت ديزني الشهيرة، وصرنا نحيا فيها نحن حيث الحدود الفاصلة بين الحقيقة والخيال الكارتوني تتلاشى تماما. ومن مدينة البط لجزيرة اللالاند مقال محمد حسن في "البداية" لا نبتعد كثيرا عن الإحالة الرئيسة لغياب المعنى والمغزى، فأرض اللالا لاند La- La Land طبقا للقواميس الإنجليزية هي المكان الذي يُعْرَف بنشاطه العبثي، واللالاند أيضا هي حالة عقلية تتميز بتوقعات غير واقعية أو بغياب الجدية.
أما أصحاب مصطلح اللا دولة فهم وبسوداوية شديدة لا يعترفون بمصر كدولة من أي نوع. هو في الإجمال مصطلح غامض وبالغ التشظي، فـأحيانا أخرى ما يطلق للانتقام اللفظي من داعش التي تسمي نفسها دولة أو للإشارة إلى أزمة لبنان المنقسم على نفسه، أو أزمة اليمن الراهنة، أو ليبيا القذافي وما بعده. مجتمع اللا دولة يعيد إلقاء الكرة في ملعب المجتمع الهمجي البدائي ويحمله جزءا من الفوضى الحادثة في كل المجالات لكني لا أستطيع قراءته إلا في ضوء أطروحة الأنثروبولوجي بيار كلاستر القائلة بأن رفض الدّولة عند المجتمعات البدائيّة لا يعود إلى نقص فيها أو خلل في رؤيتها، أو لأنّها ليست مجتمعات كبيرة الحجم أو غير راشدة؛ بل لأنّها تحديدا ترفض الدّولة باعتبارها سلطة ينبغي الخضوع لها وأداة هيمنة واستغلال اقتصادي. في المجمل لا أراه ينطبق على الحالة المصرية.
الملمح الأساسي الذي يشير إليه مفهوم الدولة العبيطة وغيرها من تلك المصطلحات هو فشل الدولة في الوفاء بمهمتها الأساسية تجاه مواطنيها الذين تنازلوا مختارين عن كل أو بعض حقوقهم الطبيعية مقابل حمايتهم وحماية أمنهم المجتمعي بكافة صوره ومظاهره. لكن "الفشل" كمفهوم يحيلنا إلى نعوم تشومسكي الذي يؤكِّد في كتابه "الدول الفاشلة" أنه من بين الخصائص الأكثر بروزا للدولة الفاشلة – بالإضافة إلى غياب الديمقراطية وعدم الانصياع للمواثيق الدولية - هي أنها لا تحمي مواطنيها من العنف – وربما من الدمار أيضا – أو أن صناع القرار فيها ينظرون إلى هذه المشاغل كأولوية أدنى في سلم الأولويات من القوة والثروة قصيرتيّ الأمد لقطاعات الدولة المهيمنة.
الخصيصة الأخيرة تكتسب أهميتها في ظلّ تعالي الأصوات المطالبة بضبط الآداء الأمني للشرطة المصرية التي كانت تسمح عامدة وبشيء من التدلّل والتمنّع بتفشي البلطجة أو حتى توظيفها فيما عُرِف إعلاميا بـ "الانفلات الأمني" إبان 25 يناير 2011، أو حين ترتكب ممارساتها الأكثر عنفا في كنف حكم الرئيس السيسي.
ثمة وعيٌ بأن عطبا ما قد أصاب دولة مصر وانعكس في التوجّه الفكريّ لقطاع غير قليل من المصريين. ثمة فرضية أساسية أخرى بأن المصري لديه صورة ذهنية عن ماهية الدولة بغضّ النظر عن أطروحاتها الأكاديمية؛ الأمر الذي ينعكس على حساسيته الجديدة تجاه ذلك الانحراف الحادث عن الصورة الذهنية للدولة لديه.
من اللافت للنظر أن ازدهار تلك المصطلحات وشيوعها يتناسب طرديا مع تزايد نبرة ضرورة "الحفاظ على مؤسسات الدولة" والتي ساهمت في تمرير الكثير من الممارسات القمعية التي يبدو أنها أضرت بمفهوم الدولة المصرية نفسه، وطريقة عملها أيضا. كما تقف تلك المصطلحات أيضا على النقيض من الاتجاه الرسمي الذي يتبنى بتكرارية مُمِلَّة اللعب على أوتار المشاعر الوطنية للحصول على تأييد شعبي لسياساته.
السيد الرئيس مثلا يرى أن الوطن يعني الحضْن، ويذيِّل خطاباته بعبارة "تحيا مصر ثلاثا". اتخذ الرئيس السيسي أيضا من جملة "مصر أم الدنيا وحتبقى قد الدنيا" شعارا مستمرا بدءا من مراحل ما قبل الانتخابات وحتى حينه. لطالما كانت المقولة الموروثة "مصر أم الدنيا" جزءًا من التربية الوطنية في مصر لا على مستوى المنهج الدراسي الضحل، وإنما على مستوى الثقافة المتجذِّرة، ورغم أن كل فرد فينا يفهمها بطريقة معينة إلا أننا لم نراجعها معرفيا بصورة جمعية على حد علمي، وأظن بشكل شخصي أنها تشير إلى عظمة حضارة وادي النيل القديمة فهي أقدم حضارة استوطنت نفس المكان كما يقول هنري بريستيد في كتابه "فجر الضمير".
يمكن ربط هذه المقولة بالمفهوم الأوليّ للدولة كذلك، فظهور الدولة وتشكّلها في مصر كما في غيرها من الدول كان نتيجة لتطوّر تلك المجتمعات وظهور الثورة الزراعية الأولى وتحديدا نشأة وإدارة أنظمة الري التي عرفتها مصر منذ آلاف السنين، وعليه يبدو أن الدولة نتاج كليّ لمُنْجَز المجتمع عند درجة معينة من تطوره، وربما كان الوعي المصري بمفهوم الدولة متجذِّرًا وقديما في الذهنية المصرية. وأزعم أنها هي ذاتها الفرضية التي تبرّر خوف مصريين آخرين من انهيار "مؤسسات الدولة" واصطفافهم خلف القيادة بطريقة تعبوية أو أوتوماتيكية. وغالبا كاستجابة للطريقة التي تم من خلالها تصدير العواطف الوطنية وخلطها بنظرية المؤامرة - كما في أعقاب حادث سقوط الطائرة الروسية في سيناء أو حوادث الإخفاء القسري - وتقديمها كتكئة لإسكات أصوات المعارضة أو الرأي المُخالف لكنها كثيرا ما تنحو للشوفينية الصريحة.
السؤال الذي يطرح نفسه هو هل تخلخل المواقف الفكرية الكامنة في هذه المصطلحات أساسات الهوية القومية؟ هل ينسحب الغضب الكامن وراءها والمغلف بالسخرية أحيانًا على فكرة الوطن حيث يكون من الصعب دومًا الفصل بين مفاهيم الدولة والوطن والنظام في الأذهان؟
واقرأ أيضاً:
إشكالية المعارضة في الثقافة العربية/ العزوف عن الانتخابات : خمول سياسي أم عدوان سلبي ؟/ جلطة في الوعي المصري