تعليم الطب النفسي في الكليات الطبية لا يستهوي إعجاب الكثير من الطلبة والاختصاص يتنافس مع بقية الفروع الطبية من أجل جذب الطلبة المتفوقين إليه. الطالب يقضي ما يقارب 6-8 أسابيع في هذا الاختصاص في السنة قبل الأخيرة للتعليم الطبي.
ولكن الطب النفسي يختلف عن بقية الفروع الطبية بأنه موجود في كل مكان وتراه في الأدب والشعر والمسرح والسياسة. كذلك يختلف الطب النفسي عن غيره بأن أعراض الاضطراب النفسي لا يراها الطبيب ولا المجتمع أحيانا ويعاني منها المريض لوحده ولا يكشف عنها.
لذلك فإن دراسة سيرة شخصية أدبية أو علمية خلال مرحلة التعليم الطبي النفسي قد تساعد الطالب على اكتساب المهارات التحليلية لدراسة السلوك البشري والآنسة الفاضلة كارين ارمسترونغ هي واحدة من 12 شخصية استعملتها في تعليم بعض الطلبة أثناء مرحلة التدريب السريري في الطب النفسي.
وقع اختياري على الآنسة الفاضلة لأسباب عدة وأولها أني قرأت جميع ما كتبت. يعجبني أسلوبها المتميز في الكتابة ولكن هذا لا يعني أني أوافقها الرأي فيما تكتب. كتبت عن الشرق الأوسط وأسلوبها في وصف شخصية الرسول الكريم صلى عليه وآله وسلم باللغة الإنكليزية لم يقترب منه أحد لا باللغة الإنكليزية ولا حتى باللغة العربية. ولكن هناك أيضاً قصتها مع التعليم الجامعي المتميز وهناك أيضاً فصها الصدغي.
رحلتها في الحياة كانت عبر سلم حلزوني وكان هذا عنوان مذكراتها الثانية
المحطة الأولى: الاعتزال والهروب
الحياة رحلة من مكان إلى آخر. الطريق طويل وصعب ويتوقف الإنسان في محطات عدة من أجل الراحة ومراجعة أفكاره ودراسة الصعوبات والمخاطر التي تواجهه.
بدأت الانسة مشوارها في الحياة وبريطانيا لا تزال تترنح من صدمات الحرب العالمية الثانية وتحاول بناء مؤسسات تلبي احتياجات المواطن وتحث شبابها على البقاء لبناء الدولة والمجتمع. ما كان يفكر به الشاب والشابة هو الهجرة إلى بلد آخر. أليس هذا ما نشاهده اليوم في الوطن العربي؟
كان هناك التقشف الذي بدأ الجيل الجديد يتذوق مرارته في أنحاء أوربا في الألفية الثالثة وكانت هناك الصراعات الدولية في كل مكان وأصبح الجيل الجديد ينادي بأن ما نحتاجه هو الحب وليس الحرب. المسلسل الاجتماعي كان إحباطا وفشلا وحنينا جارفا إلى الماضي وإنكار للواقع. هذا ما كانت أوربا تعانيه في الستينيات وهذا ما نراه اليوم في عالمنا العربي.
لعبت هذه المرحلة دورها في حياة الكثير من الناس في مختلف الأعمار ويمكن القول بأن جملة واحدة تلخص تفكير البشر في ذلك الوقت وهي: البحث عن الحقيقة
هذا ما يشغل بال الإنسان العربي في كل مكان هذه الأيام. الكائن البشري يختلف عن بقية الكائنات الحية في أنه لا يتفاعل مع الحاضر فقط وإنما يستوعب ماضيه ويحاول أن يفهمه وربما يضعه في إطار جديد لكيف يفهم الحاضر ويبدأ بالتخطيط لمستقبل جديد.
التحقت بسلك الرهبنة وهي في عمر 17 عاماً. لكي نفهم قرارها علينا أن ندرس مدينة برمنكهام الصناعية ثاني أكبر مدن بريطانيا. تتميز هذه المدينة الجميلة عن غيرها من المدن بأن تصميمها الديموغرافي خضع لعوامل عرقية بصورة عفوية أو غير عفوية وإن تجولت فيها وتنقلت من ضاحية إلى أخرى تشعر وكأنك تنتقل من مجموعة عرقية إلى أخرى. هناك العديد من الأقليات منها الأقلية السوداء والباكستانية والهندية والكاثوليكية وغيرها. ربما كان انحدارها من أقلية كاثوليكية دوره في اختيارها الالتحاق بسلك الرهبنة وشعورها بالتهميش من أقرانها والمجتمع بأسره.
ولكن أعوام المراهقة هي أيضاً أعوام البحث عن الحقيقة والأزمات الوجودية التي يتوجب على المراهق التعامل معها والتخلص من تأزمه بسببها. خلال هذه الأعوام يحاول الإنسان استيعاب معنى الحياة ونهاية الحياة ووجوده وتراه دوما في صراع مستمر يبحث عن التوازن بين الحرية والمسؤولية. تراه دوما يفارق من تعلق به ومن يحبه ويخشى العزلة. هذه هي الحياة مسلسل لا ينتهي من فراق وتجنب العزلة وإذا لم يحسن الإنسان التعامل مع الفراق لا يجد أمامه سوى طريق واحد يؤدي إلى العزلة.
هناك سؤال يتكرر ويتم طرحه بصورة فردية وجماعية في ظل ظروف قاهرة وهو:
من الذي يجب أن يتغير؟ العالم أم البشر؟
لا شك بأن الانسة لم تستطع الإجابة على هذا السؤال ولم تنجح في التعامل مع أزماتها الوجودية وتوجهت نحو العزلة. كان المؤسسات تخضع لضغوط اجتماعية من الجيل الجديد بعد الحرب العالمية الثانية وأيامها فتح قداسة البابا جون الثالث والعشرون أبواب الفاتيكان على مصراعيها إنذارا بالاصلاح الديني للكنيسة الكاثوليكية ولا نزال نرى آثار عملية التغيير حتى يومنا هذا.
بعد سبعة أعوام في الدير والعزلة بدأت تشعر بالاكتئاب وتسلل الشك في تفكيرها حول المفاهيم الدينية وقررت الخروج من عالم الرهبنة إلى الواقع.
وصفت حياتها في الدير في أول مذكرات لها بعنوان عبر البوابة الضيقة واستعارت المفهوم من مقولة للسيد المسيح عليه السلام في إنجيل مثيو حين قال تلاميذه: "القليل منكم سينجح في المرور عبر البوابة الضيقة". وصفت حياتها في الدير بالبرود العاطفي وانهارت نفسياً في صيف عام 1968 واستلمت موافقة الفاتيكان بتحريرها من جميع عهودها بعد عام واحد. غادرت الدير وتوجهت بعد نجاحها في امتحانات جامعة أكسفورد نحو كلية سانت آن لدراسة الأدب الإنكليزي.
ويتبع.................. الطب النفسي وتعليمه في سيرة امرأة2
واقرأ أيضًا:
الشك في رمضان / النزاعات الوجودية والشباب العربي / معالم الأخلاق في حب السلام والحسن عليه السلام / يا مسهرني بين القاهرة وهافانا