ذكر ابن خلدون في مقدمته: "أن أهل مصر يميلون إلى الفرح والمرح, والخفة, والغفلة عن العواقب". وربما يفسر هذا كون المصريين كانوا يحكمون بواسطة حكام أجانب معظم مراحل تاريخهم, وكانوا يقبلون ذلك سماحة أو طيبة أو غفلة أو تهاونا أو رغبة في الراحة والاستقرار. وحين كانت تشتد بهم الخطوب نتيجة عسف الحاكم الأجنبي المستبد والمستغل كانوا يستعينون بالنكات اللاذعة والسخرية لتخفيف إحساسهم بالمرارة مما يعانون, وكان سلاح السخرية يؤجل الثورة وربما يجهضها لأنه يعمل على تنفيث الغضب الكامن. ولم يتغير الأمر كثيرا حين تحررت مصر من الحاكم الأجنبي إذ جاء الحاكم الوطني يحمل سمات الاستبداد فلم يشعر المصري بحريته وكرامته وفي نفس الوقت يشعر بالعجز في مواجهة السلطة فيلجأ للنكتة ولو كحل مؤقت.
فحين تحاصر المصري الهموم والأزمات, وتثقل عليه, وتنقلب أمامه الأمور تقلبا لم يشارك فيه, فإنه يشارك في الأحداث بالتعليق الساخر عليها, ويطلق النكتة بعد النكتة, فيضحك, ويخفف بذلك من التوتر العصبي الذي كان يمكن أن يدفعه إلى الغضب, ويستريح بما تحققه له السخرية بالذين انفردوا بالعمل من دونه, وتصرفه عن الواقع إلى عالم من الخيال والمرح, وهذا ما جعل أحمد أمين يقول في كتابه الشهير "قاموس العادات والتقاليد المصرية": إن النكتة كانت سلاحا مصريا يلجأ إليها المصري "تعويضا" عما أصاب الشعب من كبت سياسي واجتماعي, وتنفيسا له من الضائقات التي تنغصه, مما يجعل الحياة أمرا محتملا.
والنكتة عند المصريين تختلف عن النكتة عند غيرهم من الشعوب, فهي أولا إحدى السمات المميزة للشخصية المصرية, فهو يستمتع بتأليف النكتة والاستماع إليها حتى لو تكرر سماعه لها, وأهم الوظائف التي قامت بها النكتة المصرية هي التغطية على الموضوع, وأخذه على المحمل الهين, والانصراف عنه انصرافا يعفى من التفكير فيه تفكيرا جديا, وكأن "فرقعة" النكتة تكفي لإنهاء المشكلة, أو هي في حد ذاتها حل لها.
وكانت النكتة المصرية في الماضي عبارة عن كلمات أو اسكتشات يطلقها أشخاص لا يعرفهم أحد وتنتشر بين الناس بسرعة كبيرة حتى في عصر كانت تغيب فيه وسائل الاتصالات الحديثة, لذلك كانت النكتة عبارة عن تكثيف شديد لمعان عميقة تنطلق في صورة لطيفة ومبهجة لتحقق هدفها من التنفيس أو السخرية أو توصيل رسالة ما. وكان ثمة محترفين لإلقاء النكت مثل حمادة سلطان وغيره. وكانت هناك أشكال أخرى من التعبيرات الساخرة في صورة مونولوجات وكان بطلاها الرئيسيين محمود شكوكو وإسماعيل ياسين. ولا ننسى أبو لمعة (رمز الفهلوة المصرية) وهو يمارس التنكيت على "الخواجه بيجو" والذي يبدو مندهشا في سذاجة وحائرا بين التصديق والتكذيب لما يدّعيه أبو لمعة المصري من قدرات فائقة.
ثم يتغير الوضع قرب نهايات القرن العشرين ليدخل العالم كله في "عصر الصورة" مع انتشار شاشات التليفزيون والكمبيوتر والموبايل, ومن هنا تتحول النكتة المصرية إلى الرواية القصيرة المصورة أو مايسمى بالكومكس, وقد ساعد على انتشار هذا اللون الفكاهي الجديد بعض الصحف والمجلات التي طورت الكاريكاتير ذات الصورة الأحادية إلى شريط قصير من ثلاث إلى خمس صور تلخص موقفا سياسيا أو اجتماعيا ساخرا, ثم تطور الأمر أكثر مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي لكي يتحول هذا الفن إلى ممارسة شعبية فلم يعد يقتصر على المحترفين من الرسامين وإنما انتقل إلى أيدي عامة الناس وخاصة الشباب الذين راحو يقتطعون صورا ومشاهد وأيقونات لأعمال فنية ويضعون عليها تعليقات تجعلها تتحول لنكتة أو حكاية قصيرة مصورة.
والكومكس يختلف عن النكتة التقليدية في كونه يستخدم تأثير الصورة بجوار تأثير اللفظ, كما أنه يعتبر نكتة متعددة المراحل, ويجمع بين فن الحكي القصير السريع وفن الإضحاك حيث يحوي في كل مرحلة على مفاجأة تفجر الضحك أو السخرية اللاذعة.
والكومكس ليس غريبا على الذهنية والقريحة المصرية إذ كان قدماء المصريون يستخدمون الصورة ممزوجة بالكلمة في تسجيل تفاصيل حياتهم ومعتقداتهم بشكل متسلسل في هيئة شرائط مصورة (رأسية أو أفقية) على أوراق البردي وعلى جدران المعابد.
وانتشر فن الكوميكس إبان ثورة يناير حين كان الشباب يجلس لساعات طويلة في الميادين فيعمد إلى الجدران من حوله يسقط عليها إبداعاته الساخرة من الحكام المستبدين ومن السلطة الفاسدة التي قهرته وأذلته, وربما تفردت ثورة يناير عن كل ثورات العالم في ثرائها بالأعمال الفنية والفكاهية على الرغم من قسوة الأحداث وسقوط الشهداء والجرحى. ومن هنا تحولت جدران الشوارع والميادين وصفحات التواصل الاجتماعي إلى صحف معارضة قوية تستخدم النكتة والإفيه والحدوته والصورة كوسائل للتعبير عن السخط العام على الأوضاع القائمة وكأسلوب للتهكم على كذب الحكام المستبدين وادعاءاتهم الكاذبة.
واستمر هذا الحال في المرحلة الانتقالية التي أعقبت الثورة حين شعر المصريون أن ثورتهم العظيمة تسرق أو تختطف أو تجهض أو تغتال, وأن رموز الثورة المضادة قد زحفوا بجحافلهم ليبتلعوا الثورة وشبابها, وهنا انتقل الكوميكس من الشوارع والميادين التي أصبحت محظورة على التجمعات إلى مواقع التواصل الاجتماعي حيث السقف الأعلى للتعبير الحر بكل أدواته.
ومن الناحية النفسية فإن فن "التنكيت" سواء بالصورة أو بالكلمة ينتمي إلى نشاط "الطفل الحر" في تكوين النفس البشرية طبقا لنظرية "التحليل التفاعلاتي" لإريك برن والتي تقسم الشخصية إلى ثلاث كيانات وهي "الوالد" و"الراشد" و "الطفل", فكيان الطفل الحر هنا يسخر من الوالد المتحكم والمتجبر والمدّعي, وينزع عنه هالات الوقار والاحترام ويكشف كذبه وادعائه. والطفل هنا يتحلى بالنزعة الأناركية التي ترفض أي سلطة وتريد التحرر المطلق من كل القيود المجتمعية, ولهذا ينال السياسيين والإعلاميين ورجال الدين قدرا كبيرا من السخرية اللاذعة والنكات الساخنة المنطلقة من ذات الطفل تجاه ذات الوالد في محاولة لإهانتها واحتقارها وكسر هيبتها تمهيدا لهزيمتها وكسرها.
والكومكس هنا يعطي لهذا الطفل الحر والمتحرر أدوات الصورة الأسطورية التي تملك قدرات لا محدودة على طريقة سوبرمان وجريندايزر والرجل الأخضر وسلاحف النينجا وطرزان وباتمان وغيرهم من أبطال الكوميكس. وصور الكوميكس غالبا غير تقليدية وغير ملتزمة بقواعد الواقع فهي منطلقة بالخيال الجامح والجانح بلا حدود وبلا سقف, وهذه طبيعة شبابية متمردة على كل ماهو قديم أ وتقليدي أو واقعي, وتنزع إلى الحلم والإبداع والخيال اللانهائي في مقابل التقليدية والواقعية والخيال الكسيح وفقر الإبداع وبطء الحركة لدى الكبار وأصحاب السطوة في المجتمع الذين يريدون أن يضبطوا إيقاعه على إيقاع قلوبهم البطيئة وقريحتهم المتكلسة في نظر الشباب الثائر.
وقد حدثت تحولات بشكل عام في النكتة المصرية حيث أصبحت في السنوات الأخيرة أكثر قسوة وعدائية وتميل إلى الإغتيال المعنوي للأشخاص أو المجموعات, وتحولت من نكتة فردية مجهولة الصاحب إلى أعمال فنية جماعية منظمة في صورة برامج ساخرة مثل برنامج البرنامج لباسم يوسف أو برنامج أسعد الله مساءكم (سيد أبو حفيظة) لأكرم حسني أو برنامج أبله فاهيتا أو برامج السيت كوم أو الستاندأب.
وقد تراجعت معدلات النكت المناطقية الموجهة نحو "الصعايدة" أو "المنايفة" أو "الدمايطة" في مقابل تزايد مضطرد للنكت الموجهة نحو السياسيين أو الإعلاميين, وأصبح هناك اتجاه لكسر هيبة وهالة الشخصيات العامة مهما كانت قيمتها أو مكانتها.
وتطور الأمر من خلال فن استخدام الصورة والفيديو لكي يسخر الشخص من نفسه بنفسه أمام المشاهدين وذلك من خلال عرض مقاطع متناقضة للشخص ذاته تظهر كذبه وتزييفه وتلونه عبر المراحل المختلفة ومع تغير اتجاهات السلطة والمصالح. بل وأصبح الشعب يسخر من نفسه حين يضبط نفسه متلبسا بالنفاق أو الخوف أو التراجع أمام بطش السلطة والتنازل عن حقوقه التي خرج ثائرا للمناداة بها ثم تقلصت لتصبح لقمة عيش متواضعة وأمان جزئي يسمحان له بالبقاء المتواضع على قيد الحياة ويحمد الله على هذا البقاء ولا يطمع في أكثر من ذلك. وفي الوقت الذي تراجعت فيه المعارضة بشكل كبير وازدادت مساحة الموالاة والحشد والتأييد في وسائل الإعلام المختلفة ظهرت معارضة غير رسمية وغير منظمة على صفحات التواصل الاجتماعي تعبر عن نفسها بلا سقف وبلا قيود من خلال الكلمة والصورة والنكتة اللاذعة التي اعتاد الشعب المصري اللجوء إليها وقت الأزمات الخانقة يعبر بها عن نفسه ليستريح إلى حين إشعار آخر.
واقرأ أيضاً:
مصر تطلق لحيتها !....مصر تحلق لحيتها!2/ الحالة النفسية للإسلاميين/ رسالة إلى العقلاء في الإخوان: لا تحملوا السلاح ولا تحرقوا مراكبكم/ صناعة الدكتاتور/ الكلمة تقتل.. والكلمة تحيي/ إسلامية بالشطة، أو علمانية بالسم الهاري!!/ العضّاضون والعضّاضات/ مستقبل تيار الإسلام السياسي/ استراتيجيات حل الصراع/ انتهاك حقوق الموتى/ عودة المتدين الطيب/ إرهاب المعتدلين/ أرجوك لا تترشح للرئاسة/ هشاشة النظام/ لماذا يقتل المصريون رؤساءهم ؟/ الزعيم الملهم/ الأثر النفسي للقفص الزجاجي/ قوة التسامح/ لولا دي سيلفا.. ماسح الأحذية صانع نهضة البرازيل