حول الصراع إلى تعاون
يعرِف "ستون" الموقف الفكري الإيجابي بأنه "اتخاذ الموقف الذي يلائم الظروف". قال أيضا في كتاب Believe and Achieve لمؤلفه سايبرت: "يتألف هذا الموقف الإيجابي من الإيمان والتفاؤل والأمل والنزاهة والإقدام والشجاعة والكرم والتسامح والكياسة واللطف والمنطـق السليم. ويتيح لك هذا الموقف الإيجابي تحقيق أهدافك، وتكوين ثروة وحفز الآخرين وإدراك أحلامك – مهما كان طموحك – ما دمت على استعداد لدفع الثمن".
وإليكم هذه القصة من أحداث القرن العشرين والتي تؤكد صدق مفهوم "الموقف الفكري الإيجابي"، والذي يجعلك تشعر بعزتك وتأكيدك لذاتك حتى ولو كنت أسيراً في معسكر عدوك:
اعتزاز عالم مجاهد بنفسه؛ وحرصه على تأكيد ذاته:
جاء في بعض كتب التاريخ أن بديع الزمان النورسي التحق بجيش الخلافة العثمانية ومعه ثلاثة آلاف من تلاميذه للقتال ضد روسيا القيصرية في الحرب العالمية الأولى. وأثناء القتال جرح هذا العالم الجليل فوقع في الأسر مع من بقي من تلاميذه. وفي الأسر وقعت له حادثة كادت تودي بحياته. فقد جاء القائد الروسي "نيقولا فيج" ليتفقد الأسرى فقام له الجميع إلا بديع الزمان فقد ظل جالسا في مكانه. فاحتد القائد الروسي وسأل أسيره العنيد عن سبب امتناعه عن القيام له، فقال بديع الزمان إنني عالم من علماء المسلمين أعتز بديني وتلك العزة تمنعني من أن أقوم لأحد، فلن أقوم لك.
فغضب القائد وأمر بتقديمه إلى محكمة عسكرية خاصة لمحاكمته، فحكمت المحكمة عليه بالإعدام، وحين طلبوا منه عند التنفيذ أن يتراجع ويعتذر للقائد رفض رفضا قاطعا، ثم استأذن منهم ليصلي ركعتين قبل أن يفارق الحياة، عندئذ أكبر القائد فيه ذلك الموقف، وأتى إليه معتذراً وهو يقول: لقد ظننت أنك قمت بذلك العمل قاصدا إهانتي ولكنني وأثق الآن أنك كنت تنفذ ما تأمرك به عقيدتك وإيمانك، لذا فقد عفوت عنك وأبطلت قرار المحكمة، وإنني أهنئك على صلابتك في عقيدتك، وأرجو المعذرة مرة أخرى.
وفي هذه القصة نجد الصلابة والشجاعة مع الاعتزاز بالذات لعالم عامل بعلمه، معتزاً برسالته، موقناً بأن الأعمار بيد الله؛ وذلك بالرغم أنه لو قام لذلك القائد الروسي من باب المداراة و التقية فليس عليه وزر ولا لوم!!.
أعود الآن لموضوعنا وهو عن قدرتك على تحقيق شيء ما تريده، ولكن بشرط أنك تريد ذلك الشيء بالفعل، وتصر عليه، هنا عامل مهم في التعريف السابق لستون (الخاص بالموقف الإيجابي في حياتك): فاتخاذ الموقف الذي يلائم الظروف المحيطة بنا لا يعني أننا إذا نظرنا ببساطة إلى الجانب المضيء؛ فلن يكون هناك جانباً مُظلماً!، وهذا خطأ؟ بل ستكون النتائج محزنة أكثر إذا لم يتم كل شيء بنجاح. يقوم الموقف الفكري الإيجابي على الثقة التي تنشأ من الدراسة والتعلم والتفكير والتصرف وتصويب الأخطاء، ثم التصرف من جديد، وذلك إلى أن تحقق النجاح.
فإذا اعتقد أبناء أمتنا أنهم ليسوا أقل من غيرهم من الأمم، وأنهم قادرون على تحقيق التقدم التكنولوجي في كل المجالات، بداية من مجالات التعليم والإدارة والزراعة والتعدين والصناعة ووصولا إلى التقدم التقني في مجالات الكومبيوتر والليزر والهندسة الوراثية والذرة وغزو الفضاء، المهم أن يكون هناك جيل هدفه الأول، وهمه الأكبر، وحلمه الأعظم، هو نهضة هذه الأمة، ولن يتحقق ذلك حتى يتمكن هذا الجيل من حماية نفسه وعائلته أولا ثم مجتمعه وأمته بعد ذلك من الأخطار المحدقة بهم جميعا.
التغلب على السلبية:
لا يوجد ما يسمى بالطفل السلبي، هكذا يعتقد الدكتور "نورمان فسنت بيل" الذي حقق كتابه "قوة التفكير الإيجابي" نسبة مبيعات وصلت إلى عشرات الملايين من النسخ باثنتي عشرة لغة، منذ أن نُشر لأول مرة منذ أكثر من أربعة عقود مضت، ويقول الدكتــور نورمــان في كتـاب Believe and Achieve: "عندما نُولد، نعيش في محارة تحمينا، كل ما علينا أن نفعله هو أن نصرخ، فإذا بنا نحصل على ما نريد ". ويلزمنا نحن البشر بعض الشجاعة لتحقيق ما نصبوا إليه.
كي نتغلب على السلبية في مجتمعاتنا، وإذا كنت ترى أن ما تفعله أو سوف تفعله صوابا فكن مؤكدا لذاتك وعليك المبادرة بالتنفيذ، وكما يُقال على قدر المحنة تكون المنحة من الله، ولقد روى لنا التراث العالمي العديد من القصص عن الشجاعة الناشئة عن توكيد الذات، والتي تعطينا القدوة والمثل والدافع في حياتنا:
شجاعته ونجدته صلى الله عليه وسلم:
وأما الشجاعة والنجدة فالشجاعة فضيلة قوة الغضب وانقيادها للعقل، والنجدة: ثقة النفس عند استرسالها إلى الموت حيث يحمد فعلها دون خوف.
وكان صلى الله عليه وسلم منهما بالمكان الذي لا يجهل، قد حضر المواقف الصعبة، وفر الشجعان والأبطال عنه غير مرة، وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يدبر ولا يتزحزح وما شجاع إلا وقد أحصيت له فرة، وحفظت عنه جولة، سواه.
عن أبي إسحاق: سمع البراء ورجل يسأله: أفررتم يوم حنين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر.
ثم قال: لقد رأيته على بغلته البيضاء والعباس آخذ بلجامها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: أنا النبي لا كذب، وزاده غيره: أنا ابن عبد المطلب".
قيل: فما رئي يومئذ أحد كان أشد منه.
وقال غيره: نزل النبي صلى الله عليه وسلم عن بغلته.
وذكر مسلم ـعن العباس، قال: فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته نحو الكفار، وأنا آخذ بلجامها أكفها إرادة ألا تسرع، وأبو سفيان آخذ بركابه، ثم نادى: يا للمسلمين... الحديث.
وقيل: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غضب ـ ولا يغضب إلا لله - لم يقم لغضبه شيء. وقال: ابن عمر: ما رأيت أشجع، ولا أنجد، ولا أجود، ولا أرضى، ولا أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال علي رضي الله عنه: إنا كنا إذا حمي البأس ـ ويروى: اشتد البأس ـ واحمرت الحدق اتقينا برسول الله، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو أقربنا إلى العدو وكان من أشد الناس يومئذ بأساً.
وقيل: كان الشجاع هو الذي يقترب منه صلى الله عليه وسلم إذا دنا العدو، لقربه منه. عن أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، لقد فزع أهل المدينة ليلة، فانطلق ناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً، قد سبقهم إلى الصوت، واستبرق الخبر على فرس لأبي طلحة عرى، والسيف في عنقه، وهو يقول: "لن تراعوا".
وقال عمران بن حصين: ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبة إلا كان أول من يضرب. ولما رآه أبي بن خلف يوم أحد وهو يقول: أين محمد، لا نجوت إن نجا. وقد كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم ـ حين افتدى يوم بدر:"عندي فرس أعلفها كل يوم فرقاً من ذرة أقتلك عليها".
فقال: له النبي صلى الله عليه وسلم "أنا أقتلك إن شاء الله".
فلما رآه يوم أحد شد أبي على فرسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعترضه رجال من المسلمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هكذا، أي خلوا طريقه" وتناول الحربة من الحارس بن الصمة، فانتفض بها انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله النبي صلى الله عليه وسلم، فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مراراً.
وقيل: بل كسر ضلعاً من أضلاعه، فرجع إلى قريش يقول: قتلني محمد، وهم يقولون لا بأس بك. فقال: لو كان ما بي بجميع الناس لقتلهم، أليس قد قال: أنا أقتلك، والله لو بصق علي لقتلني. فمات بسرف في قفولهم إلى مكة.
والآن إليكم هذه القصة من التراث الغربي، ولكنها تدور حول نفس المعنى من تأكيد الذات والشجاعة والإصرار للحصول على الغاية الثمينة التي يتمناها الشخص الواثق بذاته:
شجاعة أمير:
كان الملك مع حاشيته يتأمل من أعلى القمة رهبة البحر الهائج، وكان من بين الحاضرين أحد الأمراء الذي تقدموا إلى خطبة ابنته، وكان لا يريد أن يزوجه إياها، ولكن لم يرفض ذلك صراحة، فجاء بقدح من الذهب وقال للحاضرين سأرمي بهذا القدح في هذا البحر ومن يرى في نفسه الكفاءة على غوص هذه اللجج فيحضره مرة ثانية فهو الشاب الذي اخترته لكريمتي.
استولى على الحاضرين صمت رهيب، ودهشت الأميرة لاقتراح والدها، ولكنها وجدت الأمير الشاب -والذي كان قد تقدم لخطبتها من قبل والأميرة معجبة به، ووالدها الملك غير متحمس له- يتقدم في ثقة ويخلع رداءه ثم يذهب إلى حافة الهاوية، وسرعان ما ألقى بنفسه في البحر، ويئس الحاضرون من نجاته. وبعد قرابة الربع ساعة صرخ أحد النظارة صرخة الفرح، وقال هذا رأس الشاب يطفو وهاهو ذا يتقدم إلينا. ثم حانت ساعة اللقاء فتقدم الشاب في زهو وخيلاء حتى بلغ مكان الملك فركع عند قدميه ومد إليه بالكأس، وانطلق الحاضرون يهنئونه ويثنون على بطولته، والملك شارد في تفكيره.
ثم تأمل الملك في الوجوه غاضبا وصاح مزمجرا، عندي اختبار آخر، فسأقذف بخاتمي لتعاود الكرة. دهش الحاضرون ولم يجرؤ أحد على الاعتراض، ولكن الأميرة صاحت في وجه أبيها غاضبة: والله يا أبي لو قذف بنفسه مرة ثانية لقذفت بنفسي وراءه وسيكون مصيري هو مصيره، ونظرت إلى الشاب في حنان وصاحت به أنا معك.
اضطر الملك إلى التراجع وأعلن أن الأمير جدير بابنته وحدد موعد الزفاف. لقد أصر هذا الأمير العاشق على أن يضحي بأي شيء في سبيل محبوبته، وساعده على تقديم أولئك التضحيات شجاعته، لقد نال هذا الأمير محبوبته لاعتناقه تفكيرا إيجابيا هو إمكانية زواجه منها رغم كراهية الملك لذلك.
وبعد قصة هذا الأمير الشجاع ما رأيكم في التعرف على قصة سيدة عجوز؟، في الحقيقة أجد في شجاعتها صورة أكثر بريقا من قصة الأمير في القصة السابقة، لأن شجاعة هذه السيدة العجوز مجردة، وليس من ورائها مصلحة عاجلة لها، وفيها أيضا إيجابية واضحة من هذه السيدة العجوز:
شجاعة سيدة عجوز:
تأمل العناية الإلهية في تلك الحادثة. كان طيارا باكستانيا يقوم بالتدريب على طائرة، علم أن بها عيب في الاهتزاز ولكنه حين نظر إلى شاشات الفحص وجدها سليمة، ولكن بعد صعوده بالطائرة إلى أعلى السماء وجدها تهتز بصورة شديدة جدا مما ينذر بانفجارها؛ فاضطر إلى العودة إلى المطار ولكن وقبل هبوط الطائرة بنحو ألفي قدم توقف المحرك تماما عن العمل والذي ينذر بخطر شديد و جاءه النداء من المطار أن يقفز من الطائرة، ولكن أجهزة القفز لم تكن تعمل وحاول مع الباب ولكن الباب لم يكن يعمل أيضا وحاول عدة محاولات باءت جميعها بالفشل الذريع وأخيرا هبطت الطائرة في المزارع التي بجوار المطار وارتطمت بالأشجار فانفصل الجناح الأيمن، وكذلك الجناح الأيسر ثم ارتطم بشجرة غليظة فانقسمت الطائرة نصفين (وكان ذلك من فضل الله وعنايته) حيث انفجر الجزء المنفصل عنه وخلَّف ناراً رهيبة.
وبقي الطيار محبوساً في مقعده إلى أن جاءت امرأة مسنة تجاوزت السبعين من العمر تعمل في الفلاحة وبيدها المنجل الذي تستعمله، وحينما رأت الطيار حاولت إخراجه ولكنه أمرها بالإسراع بعيدا عن الطائرة حتى لا تنفجر فيها، ولكنها لم تعره اهتماما وقطعت الأحزمة التي تربطه بالمنجل وأخذته بعيدا عن مكان الطائرة. لذا نرجو التأمل في أثر العناية الإلهية التي ساقت ذلك المنجل لأن يفك أسر طيار مقيد بأحزمة كرسيه وتأمل تلك السيدة العجوز التي غامرت بحياتها من أجل إنقاذ ذلك الطيار، إنها سعة رحمة رب العالمين الذي خلق كل شيء بقدر ووضع لكل شيء أجلا مسمى. فالعناية الإلهية لا ترى فقط في المواقف الحرجة بل إن العناية الإلهية تبرز صورها في أشياء كثيرة للمتأمل في قدرة الله سبحانه في تدبيره لأمور عباده كلهم وشئون مخلوقاته كلها في وقت واحد، سبحان من جلت قدرته، سبحان الذي لا تأخذه سنة ولا نوم.
ومع قصص الشجاعة وأهلها، علينا أن نحترس من أهل النفاق؛ لأنهم على النقيض من أهل الشجاعة، إنهم الفريق الآخر الذي يُعادي ويُناهض تأكيد الذات بكل صوره وأشكاله؛ سواء على المستوى الفردي أو الجماعي أو حتى على مستوى الأمم والشعوب، وذلك لأنهم يتفننون في فت عزم الشجعان من الناس، ولا مانع من أن يُعلن هؤلاء المنافقون عن عدائهم للمؤكدين لذواتهم من الشرفاء إذا سنحت لهم الفرصة بذلك.
ويتبع >>>>>>>>>>> احذر من النفاق والمنافقين