في بداية ممارستي للطب النفسي كنا حين نرى حالة "توحد" ننادي كل زملاءنا ليشاركونا في رؤيتها على أنها حالة نادرة قد لا نراها لسنوات عديدة, إذ كان معدل حدوثها في ذلك الوقت (الثمانينات من القرن العشرين) حالة لكل مائة ألف طفل, ومع مرور السنوات زاد معدل انتشار المرض ليصبح حالة لكل عشرة آلاف طفل, وانزعجنا جدا لهذه الزيادة, ثم زاد المعدل بعد بضع سنوات ليصبح حالة لكل ألف طفل واعتبرنا ذلك كارثة طبية, ولاحقتنا الزيادة في معدلات المرض ليصل في السنوات الأخيرة إلى حالة لكل مائة طفل.
ثم كانت المفاجأة يوم 31مارس 2016م حين أعلنت مراكز مكافحة الأمراض والسيطرة عليها (في الولايات المتحدة الأمريكية) أن معدل انتشار الذاتوية (وهو الاسم الصحيح للمرض والترجمة الصحيحة لكلمة Autism) هو حالة من كل 68 طفل, ونظرا لأهمية الموضوع علقت عليه ال CNN , وأضيف إلى الخبر أن أعلى معدل للذاتوية كان في نيوجيرسي وهو حالة لكل 41 طفل من أطفال المدارس .
أي أن مرض الذاتوية يزحف بسرعة لم نشهدها من قبل على الأطفال, وهو ليس مرضا هينا إذ أنه يؤثر في قدرة الطفل على التواصل (تأخر الكلام وتأخر الحركات التعبيرية أو مايسمى لغة الجسد), ويؤثر على تفاعله الاجتماعي (حيث ينزوي ويعيش في عالم ضيق خاص به, فلا يلعب مع الأطفال, ولا يتفاعل مع مداعبات الوالدين كبقية الأطفال, ويبدو شاردا ينظر في اللاشيء, ويفتقر إلى التواصل البصري, وتبدو عينيه منطفئة أو زجاجية خالية من حيوية الأطفال الطبيعيين؛
كما ينتشر بين هؤلاء الأطفال ما يسمى بالسلوكيات النمطية التكرارية, فيكرر حركات بعينها كأن يدور حول نفسه, أو يتابع الأشياء التي تدور كالمروحة والغسالة وعجلات السيارة اللعبة, وقد يمشي على أطراف أصابعه, أو يرفرف بيديه, أو يرص الأشياء فوق بعضها أو بجوار بعضها, أو يهتم بأجزاء من الأشياء, أو يأخذ أوضاعا غريبة لفترات طويلة, أو يصر على روتين معين في حياته وإذا تغير يغضب ويصرخ ويدخل في حالات هياج, أو يبكي أغلب الوقت دون سبب واضح. وحوالي ثلثي مرضى الذاتوية يكون لديهم ضعف في القدرات العقلية, وبعضهم يصاب بالصرع, وبعضهم تكون لديه حركة مفرطة بلا سبب واضح أو هدف محدد, أو تكون لديه حساسية شديدة للأصوات المرتفعة فيضع يديه على أذنيه عند سماع الصوت.
أما مآل المرض فيتوقف على وجود ضعف عقلي مصاحب من عدمه, ويتوقف على قدرة الطفل على الكلام قبل سن السابعة, ويتوقف على المسارعة بعلاجه سلوكيا ودوائيا ولغويا والاستمرار في ذلك, وعموما فإن 1-2% يتحسنون ويعيشون حياة طبيعية, و20% يتحسنون ولكنهم يكونون في حالة بين السواء والمرض إذ تبقى لديهم بعض الأعراض ولكنهم يستطيعون أن يعيشوا قريبا من حالة السواء, أما النسبة المتبقية فإنهم يحتاجون لرعاية مستمرة بدرجة أو بأخرى.
وعلى الرغم من استفادة مرضى الذاتوية من العلاجات المتاحة في الوقت الحالي سواء كانت دوائية أو تعليمية أو سلوكية أو تخاطب, وعلى الرغم من الزيادة المضطردة لمراكزعلاج الذاتويين إلا أنها تبقى أقل بقليل من الاحتياجات الحقيقية لهؤلاء الأطفال, وهذا يسبب عذابات لأسر هؤلاء الأطفال الذين يعانون من سلوك طفل لا يستطيعون فهمه أو التعامل معه ولا يستطيعون الدخول إلى عالمه الصامت والغامض والمغلق, ويعانون من صعوبات علاجه ماديا ومعنويا, وربما لا يجدون مكانا مناسبا لعلاجه, أو لا يستطيعون الإنفاق على هذا العلاج فتزداد مشاكل الطفل كلما كبر.
وعلى الرغم من خطورة المرض وتزايده المضطرد بهذه الصورة المفزعة إلا أن المجتمع الطبي والمجتمع البشري عموما لم يشعر بالقلق الكافي لمواجهته ومحاولة معرفة الأسباب الكامنة وراء هذه الزيادة الوبائية الزاحفة والتي تضرب أطفال العالم في عقولهم وقدراتهم على التواصل والتفاعل مع الآخرين, وعلى الرغم من وجود بعض التفسيرات لهذه الزيادة مثل زيادة معدلات التلوث في العالم كله إلا أنه لم يتحرك أحد بالجدية الكافية حتى الآن للسيطرة على هذا الوباء المهدد للأجيال القادمة والذي يفوق في تهديده الحروب والمجاعات والطاعون والكوليرا وشلل الأطفال.
واقرأ أيضاً:
مرض التوحد: عندما تختفي نظرات العين / اضطراب التوحد ومرحلة البلوغ / سؤال وجواب حول التوحد / هل وجد العلم جينات الفصام والتوحد؟