لا تتردد في مساعدة الآخرين إن استطعت
الفصل الرابع
لفَهم القاعدة النظريةِ لبرامج تأكيد الذات يَجِبُ علينا أَنْ نَفْهمَ نظريات التَعَلّم لإيفان بافلوف، ذلك الفسيولوجي الروسي الذي قدم للعالم نظرية الارتباط الشرطي، وذلك عن طريق تجاربِه الشهيرة على الكلاب في أوائل القرن العشرين، وكانت أولى هذه التجارب مكونة من كلب، ولحم، وجرس. فلقد أثبت بافلوف بأنَّ سلوكاً (في هذه الحالةِ وهو سيلان لعاب الكلب)، قد حدث بناء على وجود محفّز واحد (وهو اللحم كغذاء للكلب)، كما يُمْكِنُ أَنْ يرتبط مثل هذا السلوك بمحفّز آخر (وهو الجرس الذي يتم دقه قبل تقديم اللحم للكلب)، وقد لاحظ بافلوف أنه إذا تم ارتباط المحفز الثاني، وهو دق الجرس، بتقديم الغذاءِ (اللحم)، فإن الكلب يسيل لعابه عند حدوث أي من المحفزين سواء كان دق الجرس أو تقديم اللحم للكلب.
في النهاية، أصبح دق الجرس لوحده سبّبا في سيلان لعابُ الكلبَ. وهذا ردِّ الفعل المتعلّمِ الجديدِ يُدْعَى "بالفعل الانعكاسي الشرطي". ولكن أعطتْ هذه التجربة المشهورةِ الناسِ انطباعا خاطئا عِن تجربة عِلْمِ النفْس المتعلقة ببافلوف، والمشهورة بالارتباط الشرطي، فهم يَعتبرونَها كأهم مسبب في حدوث المخاوف المرضية المختلفة، فلقد تم التطبيق الميكانيكي لهذه التجربةَ على مفاهيمِ السلوك البشري.
في الحقيقة، عَرضَ بافلوف لتَقْرير خصائصِ النظامِ العصبيِ الذي يَجْعلُ من الممكن للحيواناتِ والناسِ التَصَرُّف بتكيّف مع الشروطِ المتغيرةِ في البيئةِ. وفي صياغاتِه الحيويةِ، قام بافلوف باكتشافَ أنّ النظامَ العصبيَ لديه سمتان:
(1) هناك جزء مَوْرُوث مِنْ النظامِ العصبيِ. هذا الجزء يؤدي إلى العمليةُ التطوّريةُ للنظامُ العصبي، وذلك ُ لكي تقوم بَعْض المحفّزاتِ بتوليد بَعْض ردودِ الأفعال. وهكذا، نجد أن محفّزِ الغذاءِ (اللحم) يَرد عليه الكلب بسيلانِ اللعاب؛ وذلك لأن حِقَبَ التطورِ عَملت على أن يكون َ هذا العنصر أو الجزء الموروث مكمّلا لنظام الجهاز العصبي. كما يَحدثُ نفس الشيءِ في استجابة بؤبؤِ العين بالضيق والاتساع مع َتغيّر شدة الضوء الواقعة على العين، وذلك كرد فعل للضوء من جانب العين.
وتَحتوي الأنظمةُ العصبيةُ الإنسانيةُ بَعْض الخصائصِ أيضاً التي تُؤثّرُ على الشخصيات. ويعتقد علماء النفس بوجود علاقة بين "هذا المزاج المميز لشخصية ما" وتلك القوى الحيويةَ التي تُؤثّر على الحسّاسيةِ للمحفّزات والمثيرات، مع ميلٍ إلى المزاجِ المُتَأَكِّدِ، مثل الكآبة والعدوانيةِ. وقد يَجْعلُ هذا المزاجِ المَوْرُوثِ بَعْض الناسِ يَرُدّونَ بسرعة أكبر وبحدّة أكثر مِن الآخرين. لكن ليس بالضرورة -لكون الخصائصَ المزاجيةَ تُعزى إلى النظامِ العصبيِ الموروث– أن نجد تلك الخصائص المزاجية غير متأثرة بالارتباط الشرطي، فالبشر يَتغيّرونَ ويتطورون من خلال تجاربِ الحياةِ.
(2) أي شخص يَجِبُ أَنْ يَعِيشَ مرتبطا بعلاقةِ نشطةِ وفعالة ببيئتِه، حيث يقوم الشخص بالَرْدُّ على التغيراتِ في العالم الخارجي بتغيراتِ في نظامِه العصبي. فبينما تَتغيّرُ البيئة المحيطة بالشخص يَتعلّمُ الشخص التَغْيير في سلوكه وشخصيته. وهذا الذي عناه بافلوف مِن قِبل نظريته عن الانعكاس الشرطي.
والشيء المميز في نتائجِ بافلوف: كَانْ مفاهيمَه عن المثيرات وتأثيرها على الإنسان، فالإثارة عمليةُ دماغيةَ، تقوم بتصعيّد وتنشيط الأنشطة السلوكية، مع تُسهيّلُ عملية تشكيلَ الردود المشروطةِ الجديدةِ.
وبعد زمن بافلوف، أتى ثلاثة من المنظرين السلوكيين، وهم أندرو سالتر والدّكتور جوزيف ولبي والدّكتورَ أمولد لازاروس، والذين قاموا بتطوير وتقنين المفاهيم المُخْتَلِفة لتدريبات تأكيد الذات، وذلك بالاقتباس المباشر أَو غير المباشر مِنْ نظريةِ بافلوف للتعلم الشرطي.
فأندرو سالتر من علماء النفس الأمريكيين، وهو الذي أَسّسَ العلاجَ السلوكيِ الحديثِ، مَستعملاً مفاهيمَ بافلوفَ عِنْ المحفزات والمثيرات والمنع أو الكف كقاعدة لعلاجِ الاضطراباتِ العُصَابِية "كالمخاوف والقلق والهلع والاكتئاب العصابي والوسواس القهري وتوهم المرض"، ولابدّ أن يكون هناك ميزان صحيح للإثارة وعمليات الكف في الدماغِ. وطبقاً لأندرو سالتر: يُعاني المريض المصاب بمرض عُصَابي دائماً مِنْ زيادةِ المنع أو الكف، ويهدف العلاجُ السلوكي لبِناء وتَقْوِية عملياتِ الاستثارة مع خَلْق ميزان جديد يُمكِّنُ الشخص من السيطرة على كيفية عمل عقله، حيث يَتصرّفُ المريض وفق أسلوب التحفيز والاستثارة؛ فيَزِيدُ سلوكه من مدى الإثارةِ الحادثة في قشرةِ الدماغ.
وحتى الميزان التلقائي الجديد يَحْدثُ بين الإثارةِ والمنعِ، والسلوك الجديد يُصبحُ جزءً "طبيعيا" مِنْ شخصية الإنسان. وهكذا، في بادئ الأمر عندما يحدث َتغيّر في السلوك يتبعه تغيّر في التركيب الحيوي للدماغِ، والذي تباعاً ما يُؤثّرُ على شخصيةِ المريض ككلِ.
أما الدّكتور جوزيف ولبي، أستاذ طبّ الأمراض النفسيةِ ومديرِ وحدةِ علاجِ السلوكَ في كلّيةِ الطبّ بجامعة تمبلِ، فيُعرّفُ سلوكَ تأكيد الذات بأنه: "التعبير الصحيح لأيّ عاطفة -ما عدا القلق- نحو الآخر ِ!"؛ وكمثال: فبسبب التفاعلات بين الأشخاص؛ فقد تَخَافُ من الاعتِراض على الخدمةِ السيّئةِ في مطعم ما، تتناول فيه طعام الغذاء، وقد دعوت أنت وزوجتك صديقك وزوجته، وذلك حياءً من ضيفيكما الموجودين معكما، وكذلك تجنبا للمشاكل التي قد تنشأ من اعتراضك على سوء الخدمة في هذا المطعم، فتكظم غيظك بداخلك، وتقوم بدفع الحساب وتنصرف بعد الغذاء دون أن تنبس ببنت شفة. وهدف الدّكتورِ ولبي في مثل هذه الحالة هو أَنْ يُخفّضَ من تخوّفاتك ومخاوفك الشخصية، واللذين يَمْنعانِك مِنْ الاعتراض على الخطأ والمطالبة بحقوقك الضائعة؛ لذا يقول المثل: "لا عيش لمن لم يضاجع الخوف".
ويذكر المبدأ "إذا حدث كف للقلقِ وذلك في وجود محفّزاتَ لذلك القلق، فإن هذا الكف سَيُضعفُ الرابطةَ بين تلك المحفّزاتِ وذلك القلقِ." وهكذا، ففي الجلساتِ العلاجّية ِ، كان الدّكتورَ ولبي يعالج مرضاه بالرَدّ على الحالاتِ الاجتماعيةِ بالغضبِ، أو المودّة، أَو أيّ عاطفة أخرى قد تَمْنعُ أَو تُواجهُ ذلك القلقَ. كما كان يقوم الدكتور ولبي أيضا في الجلساتِ عِنْدَهُ بتبادل الأدوار مع المريض، حيث يقوم الدكتور ولبيُ بتقليدِ الحالاتَ العُصَابية المثيرةَ، بينما يسأل المريض أن يقلد دوره كطبيب معالج. كما يُدرّبُ المريض على إبْداء مشاعرهِ ما عدا القلق أثناء انتحالِ أو تقليد الأدوار.
ويستمر ولبي في تدريب مريضه على مواجهة المواقف التي يظهر فيها المريض قلقه أو مخاوفه أو تردده، حتى يتقن ذلك المريض مواجهة مثل هؤلاء المواقف بكياسة ولباقة، فعندما يؤدي المريض المشهد بنجاح، هو في الحقيقة يُضعفُ الرابطةَ بين المحفّزاتِ والمثيرات الاجتماعيةِ، وكذلك القلق المصاحب لهؤلاء المحفزات والمثيرات، ويتم تكرار تمثيل مثل تلك المواقف بين المريض والمعالج حتى يَختفي القلقَ بالكامل. وبينما المريض يَتعلّمُ أَنْ يَقوم بتقمص مثل تلك الأدوار يَنْقلُ مثل هذا التدريب إلى حياته العملية، ويصبح سلوكه أكثرَ حزماً وتأكيداً لذات ذلك المريض.
أما النظرة الاجتماعية النفسية للدّكتور أمولد لازاروس، أستاذ عِلْمِ النفْس ومديرِ برنامج عِلْمِ النفْس السريريِ بالولايات المتحدة الأمريكية، والذي يقول: "إن الحرية في التعبير عن المشاعر والعواطف لشخص ما تكون كاعتراف وتعبير ملائم عنّ الحالة الفعّالة لذلك الشخص." فيَجِبُ عليك أَنْ تَبدي مشاعرك وبشكل ملائم". فالسلوك الحازم المؤكد للذات يظهر في "حرية التعبير عن المشاعر"، وبالذات إذا كانت تلك المشاعر مرتبطة بمخاوف الدفاعُ عن حقوقِك.
وهذا يَتضمّنُ: (1) مَعْرفةُ حقوقَكَ؛ (2) والقيام بالتصرف المناسبِ تجاه تلك الحقوق (3) مع عَمَلِ هذا ضمن إطار من الكفاح لتحقيق الحريةِ اللازمة وللتعبير عن مشاعرك.
الشخص الذي يُخفقُ في الدِفَاع عن حقوقِه، نجد لديه مجالا صغيرا من الحريةُ، فيَشْعرُ بعدم الراحة والخوف، ولتعطشه للحرية فقَدْ تصدر منه سلوكيات "شريرة" أحيانا، وذلك للانفجاراتِ غير الملائمة؛ لهذا فهؤلاء الأشخاص يجب تدريبهم على تأكيد ذواتهم، بحيث يَشتْملُ توكيد ذواتهم على تعليمهم معْرِفة حقوقهم المشروعة، بالإضافة إلى منعهم من التعدي على حقوق الآخرين، فيعتقد الدّكتور لازاروس أيضا، أن الاعتراف بحقوقِكِ يَتضمّنُ اعترافكَ واَحترامك لحقوق الآخرين. ومهما كانت النظرية أو الطريقة الفردية في العلاج، فهي تقوم على قاعدتين إثنتين:
- أَنت تَعْملُ بناءا على مفاهيمِكَ الذاتية التي تدعو إلى دفاعكُ عن نفسك، وتُتصرّفْ وفق أسلوب تَحترمُ فيه الآخرين، وذلك من باب احترامك َ لذاتكَ.
لِذلك من المهم تحقيق المعادلة الأساسية التالية: تأكيد الذات = الثقة بالنفس، وعليك أن تتذكر أن: "الثقة بالنفس كالنبتة؛ كلما سقيتها نمت وترعرعت". وفي الحقيقة، تُشتق هذه الصيغةِ مِنْ معادلة متقدّمةِ مِن قِبل ويليام جيمس والتي عَرضتْ المعادلةَ التالية: الروح المعنوية أو الثقة بالنفس = النجاح \ الطموحات، تَحتوي صياغةُ ويليام جيمس على جزأين يَتعلّقُ الأول بعَمَل ما يَجِبُ عليك أَنْ تُنجزهَ.
النجاح يَتضمّنُ امتلاكَ الطموح والعملِ والمهاراتِ الاجتماعيةِ الضروريةِ لهذا الغرض؛ حيث يَتعلّقُ جزء من الطموحات بأهدافِكَ (وهي المجالات التي تتمنى أن تحقق النجاح فيهاَ)، ويَتضمّنُ ذلك اختياراً وقرارا، ولقد أدركَ جيمس بأنّ الناسِ قَدْ يَمتلكونَ العديد مِنْ الأهدافِ غير الواقعيةِ والمتعارضة، ولذلك فإن إنجازِ هدفِ واحد يَجِبُ أَنْ يَكُون من الممكن تحقيقه وبتكلفة معقولة، مع إخمادِ الأهداف الأخرى غير الواقعيةِ، كما نَصحَ أيضا بأنّ "الباحث الأقوى هو الباحث في أعماق نفسه عن الحقيقيةً، والذي يَجِبُ أَنْ يُراجعَ قائمةِ طويلة (مِنْ الأهدافِ المحتملةِ) ويَختارُ الهدف المناسب لوضعه بعناية" .
ولقد كان جوهرياً ما ذكره ويليام جيمس: من أنه يُمْكِنكُ أَنْ ترضى عن نفسك وتشبع ذاتك؛ وذلك بواسطة تقبلك لبَعْض القيودِ والنقص والعيوب الشخصية في نفسك، أما احترامِك لذاتكَ فهو مساوي للدرجةِ التي تؤدي بها ذلك الإنجازِ بنجاح. ولقد توسع عدد مِنْ المنظرين مُنْذُ ذلِك الحينِ في تلك النقطةِ، والاختلاف بين صيغةِ ويليام جيمس في المعادلةِ يَكْمنُ في التأكيدِ على النجاحِ الفعليِ، فالصيغةِ تَزْعمُ بأنهّ طالما يَتصرّفُ الشخص بشكل مؤكد لذاته، وبطموح، وباحترام لذاته وثقة بنفسه، مع أنه قَدْ يَفْشل، وقد يَبْدو خائب الأملَ ومُحبطَ، لكن صميم ذلَكَ الشخص: مِن بقايا احترامه لنفسه، مع مقدار من طموحه في الحياة، حيث يُمْكِّنُ كل مَنْ احترام الذات والطموح من اَستعمالَ هذا المفهومِ كمعيار للسلوكِ المؤكد للذات.
وسلوك تأكيد الذات لا تجده في العزلةِ، لكن بَتفاعلُ الناس مَع بعضهم البعض، ومثل هذه التشكيلات من التفاعلات الاجتماعية تمثلِ في حياتِنا النمط السلوكي والذي له مراحل مختلفةُ:
ويتبع >>>>>>>>>>> مرحلة الطفولة