الفصل الرابع
والآن نتحدث عن المرحلة الثالثة التي قد لا يصل إليها كل الأشخاص؛ فهناك من يتوقف نموه ونضجه ولا يتجاوز الطفولة والمراهقة، ويعاني الأشخاص المحيطون عادة من هؤلاء الأشخاص الذين يتوقف نضجهم أكثر من معاناة هؤلاء الأشخاص غير الناضجين أنفسهم!!.
وينطبق على هؤلاء غير الناضجين قول الشاعر:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
مرحلة سن الرشد
بينما المراهقة على وشك الاَنتهاء، يصبح الشخص البالغ غير محتاج إلى المجموعةِ التي ينتمي إليها منِ أجل إحساسه بالأمن. وبدلاً مِن ذلك فإن حياته قَدْ تَتركّزُ حول عدد صغير مِن الناسِ يشتملون على بضعة أصدقاء مقرّبين، وصديق أو صديقة من الجنس الآخر. في النهاية، فعنق الزجاجة تلك والقاعدة الأمنية ترَتكزانِ على شخص واحد معيّن. وفي هذه النقطةِ، نجد علاقات أكثر ديمومة، وأعمق تطوّراً، وواحدة من تلك العلاقات قَدْ تُؤدّي إلى الزواج ِ. فالعلاقة الوثيقة مَع الشخصِ الآخرِ تَعملُ كمصدر لإيجاد وإظهار استقلاله الحقيقي.
وفي الحياةِ عُموماً هناك بَعْض المعالجين يَعتبرونَ الوصول إلى هذه المرحلة الذروة في نضج شخصية الفرد المتكامل. بينما يَعتقدُ بعض المعالجين الآخرين أن تلك المرحلة ما زال ينقصهاْ خطوة تنظيميةً ضرورية أخرى، ألا وهي تَضْمين تغيير مفهوم الأمنِ المُكتَسب مِن إنسان آخر إلى الأمنِ المستند على احترام النفس ِ، وهذا لَهُ جذورُه ومقرّه في الشعور، "أَعْرفُ حاجاتَي وقِيَمَي، لكن أَنا راغبٌ دائماً في إعادة تَفحص نفسي وتغييّر ذاتي؛ فأنا أُريدُ الشُعُور والإحساس بعمق، وأن أَتصرّف بقوةٍ، وأن أَتعلّق مباشرةً بالآخرين، الذين أتوسم الخير فيهم، وإلى الآن فأنا دائماً أجيد تلمس أعماقِ نفسي و معرفة أسرارها."
يقول أرسطو طاليس: "أصعب شيء أن يعرف الإنسان نفسه، وأسهل شيء أن ينصح غيره". وقيل أيضاً: "من يعرف الناس يكون ذكيا ولكن من يعرف نفسه يكون أذكى".
وللوصول إلى حالةِ الشخص الناضجِ المتكاملِ، يَجِبُ عليك أَنْ تُدركَ أنهّ إذا تغيّرَ سلوك واحد لديك، فإن كلّ سلسلة السلوك ذات العلاقة سوف تتغير. كما أن عليك أن تَتعلّم مهارات جديدةَ، مع تغييّر سلوَكياتك غير المرغوبة، أنت يُمْكِنك أَنْ تُغيّرَ مشاعِرَك، وكامل نمطِ منظومتِكَ النفسيةِ. وبهذه الطريقة، يمكنك أن تدرب نفسك على تأكيد ذاتك؛ وهذا ينشأ عنه أسلوب حياة جديد ككُلّ.
وإذا أردت أن تستمع لقصة حاكم أصر على تأكيد ذاته كسلطان قوي هُمَام صاحب رأي وعزيمة، والذي فقد سلطانه ثم استرده من الطامعين ثلاث مرات، ولم يثنه ذلك من أن يكون مجاهداً عملاقاً، وحاكماً يُحسِن قيادة حكومته، وينشر الرخاء والاستقرار في ربوع سلطنته، ويقمع الفتن، ويكسر شوكة الظالمين والأمراء المشاكسين، وذلك رغم بعض الهزائم التي لحقت به أحياناً إلا أن تلك الهزائم لم تفت في عضده وعزمه وهمته، وأصبح عصره الذهبي مضرب المثل لقوة دولة المماليك في العالم الإسلامي بالقرون الوسطى.
السلطان المؤكد لذاته كطفل ومراهق وراشد وكهل:
الناصر محمد بن قلاوون... والعصر الذهبي للمماليك...
لم يكن المماليك يؤمنون بمبدأ وراثة الحكم، وإنما كانت السلطة دائمًا للأمير الأقوى، الذي يستطيع أن يحسم الصراع على السلطة لصالحه، ويتصدى لأي محاولة للخروج عليه، ولكن أسرة "قلاوون" استطاعت أن تكسر هذه القاعدة، وتخرج عن ذلك السياق؛ فقد ظل "قلاوون" وأولاده وأحفاده يحكمون دولة المماليك لأكثر من قرن من الزمان، برغم كل ما تعرضوا له من مؤامرات وانقلابات، يتبعها اغتصاب للسلطة، بيد أن هؤلاء المغتصبين لم يستقروا في الحكم طويلاً؛ إذ سرعان ما كان يتم عزلهم لتعود السلطة مرة أخرى إلى أسرة "قلاوون"، ولعل هذا ما كان يحدث دائمًا عقب وفاة كل سلطان.
فبعد وفاة السلطان "قلاوون" تولى ابنه الأكبر "الخليل قلاوون" أمور السلطة، ولكنه كان خلاف أبيه؛ فقد اتسم بالحدة والغلظة، وكان قاسيًا متعجرفًا في معاملة مماليكه؛ مما أثار عليه النفوس، وأوغر ضده الصدور، غير أنه استطاع بشجاعته أن يطرد الصليبيين من "عكا"، وأن يحقق حلم أبيه بوضع خاتمة للحروب الصليبية التي دامت قرنين من الزمان. لكنه لم يستمتع طويلاً بالنصر؛ فما لبث أن تآمر عليه بعض أمراء المماليك، وانتهزوا فرصة خروجه يومًا للصيد، فانقضوا عليه وقتلوه.
وهكذا أصبح الناصر محمد بن قلاوون سلطانًا على مصر بعد مقتل أخيه؛ فجلس على العرش وهو لا يزال في التاسعة من عمره في (16 من المحرم 693هـ = 18 من ديسمبر 1293م). وتم اختيار الأمير "كتبغا" نائبًا للسلطنة، فأصبح هو الحاكم الفعلي للبلاد، بينما لا يملك السلطان الصغير من السلطة إلا اللقب الذي لم يدم له أيضًا أكثر من عام؛ فقد استطاع "كتبغا" أن يقنع الخليفة العباسي بعدم أهلية "الناصر" للحكم لصغر سنه، وأن البلاد في حاجة إلى رجل قوي يهابه الجند وتخشاه الرعية، فأصدر الخليفة مرسومًا بخلع "الناصر" وتولية "كتبغا" مكانه.
سنوات عجاف:
اقترنت مدة سلطنة "كتبغا" بأحداث شتى أثارت ضده الشعب، وجعلته يكرهه؛ فقد اشتد الغلاء، وارتفعت الأسعار، ونقص ماء النيل، وعم الوباء، وكثرت المجاعات، ولم يستطع السلطان أن يتصدى لكل تلك الكوارث، برغم الجهود التي بذلها. وقد أغرى ذلك الأمير "لاجين" بانتزاع السلطة والاستيلاء على العرش، وبعدها استدعى "الناصر محمد" وطلب منه السفر إلى "الكرك".
وسعى السلطان "لاجين" إلى التقرب من الناس عن طريق تخفيف الضرائب، كما حرص على تحسين صورته بين الرعية من خلال أعمال البر والإحسان التي قام بها، فحظي بتأييد الشعب له، خاصة بعد أن انخفضت الأسعار وعمّ الرخاء، وعمد "لاجين" إلى إظهار تقديره للعلماء، ونفوره من اللهو، وأحسن السيرة في الرعية. ولكن عدداً من الأمراء تآمروا عليه، فقتلوه وهو يصلي العشاء مساء الخميس (10 من ربيع الآخر 698هـ= 16 من يناير 1299م).
استعادته للسلطنة:
أصبح الطريق خاليًا أمام السلطان "الناصر محمد" للعودة إلى عرشه من جديد، واستقر الرأي على استدعاء "الناصر" فذهبت وفود من الأمراء إليه، وعاد "الناصر" إلى مصر، في موكب حافل، فلما دخل القلعة وجلس على العرش، جدد الأمراء والأعيان البيعة له، ولم يكن عمره يتجاوز الرابعة عشرة آنذاك.
لم يكد السلطان "الناصر" يتولى مقاليد الحكم حتى جاءت الأخبار بتهديد المغول لبلاد الشام، فخرج إليهم على رأس جيشه حتى وصل إلى دمشق. ولكن المغول تظاهروا بالانسحاب، وانخدع بذلك السلطان والأمراء؛ فتراخى الجيش، وخمد حماس الجنود، ولم يشعروا إلا وقد انقض عليهم المغول، وألحقوا بهم هزيمة منكرة؛ فرجع السلطان يجر أذيال الهزيمة، ولكنه لم يلبث أن أخذ يعد العدة للقاء المغول، ومحو عار الهزيمة التي لحقت به.
عاد "المغول" مرة أخرى إلى الشام؛ فخرج إليهم السلطان بجنوده، والتقى الجيشان بطريق "مرج الصفر" بعد عصر السبت (2 من رمضان 702 هـ= 20 من إبريل 1302م)، وبرغم قوة "المغول" وكثرة عددهم فإن انتصار الجيش المصري في ذلك اليوم كان ساحقًاً، وأظهر الجنود من الشجاعة والفروسية ما يفوق كل وصف.
عاد السلطان في مواكب النصر، وعمت الفرحة أرجاء البلاد، وقد أدى هذا النصر إلى تحقيق نوع من الأمن والاستقرار الداخلي للبلاد، وأعاد إلى الدولة هيبتها وقوتها، خاصة أمام الأعراب الذين دأبوا على الإغارة على المدن والقرى والقيام بعمليات السلب والنهب والقتل، دون أن يجدوا من يتصدى لهم، وقد أرسل إليهم السلطان عدة حملات، حاصرتهم في الطرق والجبال؛ حتى قضوا عليهم وكسروا شوكتهم، وتخلص الناس من شرورهم.
وفي العام نفسه توج الناصر انتصاراته بهزيمة الصليبيين الذين كانوا قد نجحوا في الاستيلاء على جزيرة "أرواد" أمام ساحل مدينة "طرابلس" وأخذوا يهددون منها سواحل الشام، فأرسل السلطان حملة بحرية إلى تلك الجزيرة، استطاعت أن تحقق نصرًا عظيمًا على الصليبين؛ فقتلوا منهم نحو ألفين، وأسروا نحو خمسمائة آخرين، كما غنموا مغانم كثيرة.
يفقد سلطنته للمرة الثالثة
ولكن الأمور لم تسر بالسلطان الناصر على النحو الذي كان يتمناه، فبالرغم من حب الشعب لسلطانه وتعلقه به، فإن الأميرين: بيبرس الجاشنكير، وسلاد راحا يضيقان على السلطان بعد أن اتسع نفوذهما، وقويت شوكتهما؛ فسعيا إلى التخلص منه، وحاصراه برجالهما في القلعة، ولكن جموع الشعب خرجت غاضبة ثائرة؛ فاضطرا إلى استرضاء السلطان. شعر السلطان "الناصر" بالضيق؛ فخرج من مصر، واتجه إلى "الكرك" في (شوال 708هـ= إبريل 1309م) وقرر ترك السلطنة والإقامة في "الكرك".
وأصبح "بيبرس" سلطانًا على البلاد، إلا أن حركة المعارضة له أخذت تزداد يومًا بعد يوم، وأخذ الأمراء يلحون على السلطان "الناصر" بالرجوع إلى العرش. وبدأ "الناصر" يعد العدة لاسترداد عرشه، فلما علم "بيبرس" بذلك خلع نفسه من السلطنة، وأرسل كتابًا إلى الناصر يطلب منه الصفح، وأخذ ما استطاع أن يحمله من خزائن الدولة ليهرب به، لكنه فوجئ بالعامة وقد اجتمعوا عليه يريدون الفتك به؛ فأخذ يلقي إليهم بما معه من أموال، وينثر عليهم الذهب، ولكن العامة تركوا ذلك كله وراحوا يطاردونه، ففر إلى الصعيد.
عصر الرخاء
عاد الناصر ليجلس على عرشه من جديد للمرة الثالثة في مستهل (شوال 709هـ= مارس 1310م)، وقد شهدت هذه الفترة من حكم السلطان الناصر- والتي استمرت نحو 32 سنة- ازدهارًا كبيرًا في مختلف النواحي، وكانت من أزهي الفترات في تاريخ الدولة المملوكية؛ فقد تمتعت مصر خلالها برخاء واستقرار كبيرين، فضلاً عن اتساع النفوذ الخارجي لسلطان مصر؛ فقد كان هو الذي يعين أشراف "مكة"، وامتدت سلطته إلى "المدينة"، وخطب ملوك اليمن وده، وصار اسمه يذكر في مساجد طرابلس وتونس، وأصبحت له علاقات ودية بالدول المسيحية في قلب أوروبا، كما أرسل مساعداته إلى سلطنة الهند الإسلامية ضد المغول الذين اشتدت إغارتهم على "الهند".
كما شهدت البلاد في عهد الناصر نهضة حضارية وعمرانية كبيرة؛ فقد اهتم ببناء العمائر الفخمة، فشيد "القصر الأبلق" و"مسجد القلعة"، واهتم بإنشاء الميادين العظيمة مثل: "ميدان الناصر"، وأقام "خانقاه" للصوفية، وأنشأ البساتين الجميلة، ولا تزال تلك المنطقة من ضواحي القاهرة، تحمل اسم "الخانكة" حتى الآن.
واهتم "الناصر" بشق الترع، وإقامة الجسور والقناطر، وإنشاء الخلجان؛ فحفر خليجًا امتد من القاهرة إلى "سرياقوس" مخترقًا أحياء القاهرة، وأقام عليه القناطر الكثيرة، مثل قناطر السباع، وأنشأ عددا من البساتين منها بستان "باب اللوق"، كما أعاد حفر خليج الإسكندرية وتطهيره، ليستمر فيه الماء العذب طوال العام، وما زال هذا الخليج موجودًا حتى الآن، وإن تغير اسمه ليصبح "ترعة المحمودية". وفي شهر ذي الحجة (741 هـ= يونيو 1341م) مرض السلطان الناصر مرضا شديدًا، ظل يقاسي شدته وآلامه حتى توفي بعد أحد عشر يومًا عن عمر بلغ سبعة وخمسين عامًا.
إن قصة هذا الرجل القوي الإرادة المؤكد لذاته يجب أن تُدرَّس لتلاميذ مدارسنا؛ كي يتعلموا العزيمة والإصرار من عمر الطفولة والمراهقة إلى عمر الشباب المبكر ثم عمر النضج واكتمال الرجولة؛ كيف يفقد ملك حكمه وعرشه وسلطانه ثلاث مرات من أمراء شرسين أقوياء ثم يسترجعه ليس منتصراً وحسب، بل وسالماً غانماً أيضاً؟! وكيف يدخل ملك أو سلطان هذا العدد من الحروب الطاحنة ضد جيوش أقوى القوى على وجه المعمورة في زمانه ويخرج من معظمها منتصراً مؤزراً؟!، وكيف نجح هذا السلطان في طرد الصليبيين من إماراتهم التي احتلوها بالشام نهائياً بعد مائتين سنة من احتلال استيطاني بغيض مصحوب بالتطهير العرقي العنيف والمنظم؟! أليست حياة ذلك السلطان المؤكد لذاته الواثق من نفسه وقدراته، المؤمن بقضية دينه ووطنه وأمته، جديرة بالدراسة التحليلية؟!.
وسأذكر هنا نموذجاً آخر وشكل آخر للنضج النفسي فيه حسن الاعتقاد وتمام التوكل على الله تعالى، مع الاطمئنان بقضاء الله وقدره..... هو داعية إسلامي عاش خلال القرن التاسع عشر وكان ممن بنوا أجيالا من الدعاة والمصلحين والثوار على الاستعمار في بعض البلدان الإسلامية، وذلك في مصر والهند وإيران وأفغانستان وتركيا، تعالى نستمع له وهو يحكي عن بعض المواقف الصعبة التي واجهته في حياته:
الشيخ الأفغاني و صدق التوكل على الله
يروي الأستاذ جمال الدين الأفغاني، وكان في الهند، وقصد الحج، فركب سفينة كبيرة حملت من الحجاج عددا وفيرا. وخلال سيرها في المحيط الهندي هبت عواصف شديدة جدا وانهمرت أمطار غزيرة وزاد الخطر، واضطرب الركاب وكادوا يغرقون ووقع الهرج والمرج بينهم.
وأخيرا التفوا حول الشيخ الصالح (جمال الدين) يطلبون إليه الدعاء الصالح إلى الله تعالى أن ينقذهم ويُكتب لهم السلامة، بعدما بلغت الأرواح التراقي، فما كان منه إلا أن أقسم لهم بأنهم ناجون، وأن هذا الكرب سيزول بعد ساعة.
وفعلا لطف الله بعباده وهدأت الرياح وكفت الأمطار وصفا الجو واعتدلت المسيرة، فجاءوا إليه يشكرونه ويدعون له ويحسبونه من أولياء الله المستجاب دعاؤهم. وقال جمال الدين بعد ذلك لأحد تلاميذه: إنني لمثلهم قلقا واضطرابا وأكثر منهم مخافة، ولكنني قلت إما أن يتداركنا الله بلطفه الخفي وننجو وإما أن نغرق جميعا، وفي هذه الحالة لا أجد من يكذبني أو ينازعني لأننا نكون في قاع البحر. وفي حالة السلامة أصبح من الأحبار الأخيار، وكذلك كان. فما برحوا يلثمون أذيالي ويقبلون يدي وذلك سر الخشوع والرجاء في رحمة الله ولطفه، وهي حكمة بالغة ونضج نفسي، وتصرف صائب وعقل سليم. ولقد ذكرني تصرف الشيخ الأفغاني بقول دوبيك: "حتى الذين أضحت شجاعتهم مضرب المثل، لا يمكنهم الادعاء أن الخوف لم يتطرق إلـــى قلوبهم".
كما ذكر جمال الدين الأفغاني للشيخ محمد عبده في بعض كتبه أنه كان مسافراً على قدميه في بعض صحاري الهند فخرج عليه جماعة من اللصوص وأسروه فأراد أن يعظهم وعرفهم بأنه من علماء الإسلام فزجروه وهددوه فاستسلم ثم باعوه على أنه عبد رق، فلما ذهب به المشتري عرفه الشيخ بنفسه، فأطلق سراحه!!.
ومن المعروف عن هذا المصلح الكبير أنه قد طاف كداعية للإصلاح بالكثير من المدن والبلدان الإسلامية في القرن التاسع عشر، وكان من محصلة ذلك أنه ربى جيلاً من الدعاة المُصلحين أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: الشيخ محمد عبده والزعيم سعد الزغلول وأحمد عرابي وسامي البارودي ومحمد رشيد رضا وغيرهم الكثير الكثير، وبالطبع كان مكروها من رجال السلطة الخاضعين للدول الاستعمارية في ذلك الوقت، لذلك لم يكن يستقر المقام به في أي بلد من البلاد التي زارها، وكثيراُ ما ترك البلد الذي يقيم فيه منفياً أو بتهديد من جهاتها الأمنية بحجة أنه شخص أجنبي غير مرغوب فيه!!؛ أو لاختلافه في الرأي مع حاكم أو سلطان مستبد؛ وذلك لتجمع الناس حوله أينما حل، واعتناق الشباب لأفكاره الإصلاحية، وهذا ما كان مزعجاً جداً للطغاة والمستبدين من أهل السلطة ومن فوقهم أسيادهم من ممثلي المستعمرين، هذا الرجل الناضج المؤكد لذاته داعية الإصلاح كان بلا أدنى شك سبباً من أسباب نشر الوعي الإصلاحي المعتدل المستنير في نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. إن قصة حياة هذا الداعية تذكرني دائماً بهذين البيتين المعبرين:
والناس في حاجة دوما لذي ثقة بنفسه ليقيهم ما به عثروا
وإذا لم يكن من الـــــموت بــــــد فمن العار أن تموت جبــــانا
لقد كان يمكنه الاستقرار بأجمل مدن العالم في قصر منيف ذي حدائق غناء مع أكل أطايب الطعام وشرب ما يستسيغه من لذيذ الشراب والنوم على الحرير بجوار أجمل من يشتهي الإنسان من الغيد الحسان، ولكنه لم يفعل ذلك ورفض مثل ذلك العرض من السلطان العثماني، وآثر الترحال والنفي الاختياري بدعوته الإصلاحية المستنيرة بين مختلف البلدان بلا زوجة ولا ذرية وبلا رغبة في جمع مال أو سلطة أو منصب أو سعياً وراء الأمان المادي والذي يسعى إليه معظم البشر!، فمن أي عجينة من الناس هذا الرجل؟ وأي درجة من النضج البشري وصل إليها هذا الداعية؟! إنه نموذج للنضج والكمال البشري الذي يُحتذى به ونرجوه لدعاتنا وعلمائنا في حاضر أمتنا.... أليس كذلك؟ رحم الله داعية الإصلاح الأفغاني الذي شاع اسمه في أمتنا، فكان أغنى وأشهر من الحكام والسلاطين في زمانه بقناعته وعلمه وحكمته، يقول الشاعر:
كم واثق بالنفس نهاض بها ســاد البـــرية فيه وهــو عصــــام
وإنما رجل الدنيا و واحــدها من لا يعول في الدنيا على رجل
ويتبع >>>>>>>>>>> اللولب العصابي1