الأمن هو ثاني أهم احتياج للإنسان لا يسبقه إلا الإحتياجات البيولوجية (المأكل والمشرب والمأوى) طبقا لهرم الإحتياجات عند ماسلو وطبقا لما ورد في الآية الكريمة "الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف". ولا يستطيع أي مجتمع معاصر ومتحضر أن يعيش بدون أمن, ففي مناخ الأمن والإستقرار تزدهر الحياة وتتفتح ملكات الإنسان لتنتج وتبدع وتعلو في كل المجالات. والسياسة هي إدارة البشر وإدارة الحياة لتخرج منهم أفضل ما فيهم لتحقيق متطلبات العمران والتطور والحضارة.
وللأمن رجاله وللسياسة رجالها, ولكل مجال مواصفات عقلية وسلوكية يتصف بها من ينتسبون إليه (بحكم تركيبتهم الشخصية وإعدادهم المهني) ليحققوا أعلى معدل للأداء يسعدون به ويسعد به الناس وتستقر به الحياة وتنمو, ولكن المشكلة أو المشكلات والأزمات تنشأ وتتفاقم حين يحل أحدهما مكان الآخر أو يتوغل فيه أو يتغول عليه, ولكي تدرك هذه القضية تخيل أننا وضعنا القلب مكان المعدة أو استبدلنا المخ بالذراع في الجسد البشري. لقد خلق الله الكون وقدره تقديرا وجعل كل ميسر لما خلق له.
والآن نحاول أن نرى مواصفات العقلية الأمنية مقارنة بالعقلية السياسية ليس بهدف تفضيل أحدهما على الآخر ولكن لوضع كل في مكانه الذي يفيد فيه:
العقلية الأمنية هدفها الأساسي تحقيق الأمن من خلال إنفاذ القانون, والعقلية السياسية هدفها الأساسي إدارة الموارد البشرية والطبيعية للوصول إلى أعلى درجة ممكنة من النمو والتطور والإستقرار والرفاهة في المجتمع.
العقلية الأمنية تتعامل في الأغلب مع الخارجين على القانون أو المهددين للأمن داخليا أو خارجيا, والعقلية السياسية تتعامل مع كل فئات المجتمع المحلي والدولي.
العقلية الأمنية تتسم بالشك والحذر والتوجس, والعقلية السياسية تتسم بالثقة والإنفتاح والتعاون.
العقلية الأمنية ترى في التعددية تهديدا لا ستقرار الأوضاع, والعقلية السياسية ترى في التعددية ضرورة لازدهار الحياة ونموها.
العقلية الأمنية ترى المعارضين مثيرين للمشاكل ومكدرين للأمن العام, والعقلية السياسية ترى في المعارضين ضرورة للحياة السياسية حيث يثروا الرؤى ويعدلوا الإتجاهات.
العقلية الأمنية تميل إلى التحكم والسيطرة, والعقلية السياسية تميل إلى فتح الأفاق للجميع للمشاركة في أجواء تنافسية مفتوحة.
العقلية الأمنية تميل إلى الإنضباط والسمع والطاعة, والعقلية السياسية تميل إل النظام المفتوح والإبداع والتطوير.
العقلية الأمنية تضيق المنافذ والثغرات كلما أمكن حتى لا تنفذ منها أي مخاطر محتملة, والعقلية السياسية تفتح الآفاق لمزيد من الرؤية والتفاعل والإستثمار والتعاون والأخذ والعطاء.
العقلية الأمنية تلتزم بالقواعد التقليدية المتعارف عليها أمنيا, والعقلية السياسية تتصرف بشكل براجماتي لتحقيق المصالح ولديها المرونة للتغيير حسب تغير الظروف والأحوال.
العقلية الأمنية تتسم بالصلابة, والعقلية السياسية تتسم بالمرونة.
العقلية الأمنية تتسم بالسرية التامة وأحيانا التمويه والعقلية السياسية تتسم بالشفافية والعلنية.
العقلية الأمنية تجند العملاء السريين وتتعامل مع أهل الثقة والموالين (غالبا), والعقلية السياسية تنفتح على الجميع من أجل تحقيق المصالح.
العقلية الأمنية تميل إلى الإقصاء لكل ما تعتبره خارج نطاق الثقة, والعقلية السياسية تميل إلى إدماج كل الفرقاء في النسيج السياسي متعدد الأطياف.
العقلية الأمنية تميل إلى الردع الأبوي الحاد والصارم, والعقلية السياسية تميل إلى التفاوض الراشدي المتكافئ والمرن.
العقلية الأمنية تميل إلى المواجهة الصراعية, والعقلية السياسية تميل إلى التوافقية والتلاؤمية.
التسامح لدى العقلية الأمنية تفريط وكسر لهيبتها وهيبة القانون, بينما التسامح لدى العقلية السياسية فرصة لاستئناف علاقات جديدة وتحقيق مكاسب سياسية.
العقلية الأمنية تميل إلى أحادية ومركزية القرار والتوجيه وتفترض السمع والطاعة, بينما تميل العقلية السياسية إلى تعددية القرارات والتوجهات وتفترض الحوار والتفاوض للوصول إلى أفضل الحلول.
وهكذا نرى فروقا جوهرية بين العقليتين, والمشكلة تحدث في كثير من دول العالم الثالث حين تعطى مساحات كبيرة في الخريطة المجتمعية والحياتية للعقلية الأمنية فتسيطر على حركة المجتمع وتقيدها وتحبسها ضمن المعايير الأمنية, وتستبعد المفاهيم والمعايير السياسية سالفة الذكر وتجفف منابع السياسة ويتم إضعاف المؤسسات والأحزاب السياسية حتى لا تنتج كوادر قادرة على الوصول لمواقع التأثير أو الحكم, وقد يصبح الوطن سجينا اقتصاديا واجتماعيا وإنسانيا, وتنعدم الثقة بين الناس, ويسود الموالون ويتوارى المعارضون, وتنتصر الرؤية الأحادية المركزية والرأي الواحد, ويعلو الفرد الحاكم على المجتمع, ويختفي أو يضعف المجتمع المدني بينما تقوى وتتضخم وتتغول السلطة الأمنية.
وهذا في النهاية يخلق مناخا من اليأس والإحباط والعدوان السلبي واللامبالاة وانسحاب الناس من المجال العام والإعتمادية المطلقة على السلطة القابضة وانتظار المعجزات من الحاكم الفرد وتسليم الإرادات والخيارات للسلطة المتحكمة, وانتشار النفاق والتملق والخداع, وشيوع كل قيم الفساد للتكيف مع الظروف الخانقة والضاغطة.
وأصحاب العقلية الأمنية في الحكم والإدارة يروجون لفكرة أن الشخصيات الأمنية جديرة بإدارة المؤسسات والمحافظات والمراكز والإدارات نظرا لما يتميزوا به من حزم وضبط وربط وانضباط, ولكن الواقع العملي في كل دول العالم لا يؤيد هذه الفكرة, إذ لم تنجح دولة واحدة باستبعاد العقلية السياسية واستدعاء العقلية الأمنية في المجال العام, كما أن دولا كثيرة (مثل أسبانيا والبرازيل وتركيا والهند) لم تنجح ولم تتطور أو تزدهر إلا حين حلت الإدارة السياسية محل الإدارة الأمنية.
والشخصيات الأمنية تظلم (بضم التاء وفتح اللام) وتظلم (بفتح التاء وكسر اللام) حين تتصدر حل مشاكل المجتمع الحياتية والإرتقاء به اقتصاديا واجتماعيا وهي غير مهيأة بحكم تكوينها ودراستها واهتماماتها لمواجهة كل هذه المطالب المعقدة وهنا تحدث المشكلات وتتراكم حتى تتحول إلى أزمات وربما تطورت إلى كوارث يدفع ثمنها الجميع.
واقرأ أيضاً:
مصر تطلق لحيتها !....مصر تحلق لحيتها!2/ الحالة النفسية للإسلاميين/ رسالة إلى العقلاء في الإخوان: لا تحملوا السلاح ولا تحرقوا مراكبكم/ صناعة الدكتاتور/ الكلمة تقتل.. والكلمة تحيي/ إسلامية بالشطة، أو علمانية بالسم الهاري!!/ العضّاضون والعضّاضات/ مستقبل تيار الإسلام السياسي/ استراتيجيات حل الصراع/ انتهاك حقوق الموتى/ عودة المتدين الطيب/ إرهاب المعتدلين/ أرجوك لا تترشح للرئاسة/ هشاشة النظام/ لماذا يقتل المصريون رؤساءهم ؟/ الزعيم الملهم/ الأثر النفسي للقفص الزجاجي/ قوة التسامح/ لولا دي سيلفا.. ماسح الأحذية صانع نهضة البرازيل