لا أدري ان كان المسؤولون في الحكومة قد اهتموا بدراسة الآثار النفسية لاتفاقية تسليم جزيرتي تيران وصنافير إلى السعودية أم لا، حيث يمثل هذا الجانب أهمية قصوى خاصة في قضية تتعلق بالأرض والتي تمثل بالنسبة للمصريين حساسية شديدة في أعماق وعيهم حتى ولو لم يعبروا عنها بالكلمات، ولا يختلف في ذلك متعلم أو أمي، فالأرض المصرية منبسطة في الأغلب ومفتوحة الحدود من كل جوانبها، وكان ذلك سببا في الإغارة على مصر عبر تاريخها من الشرق والغرب والشمال، وإن كان الشرق يمثل المدخل الأكثر احتمالا للغزو الخارجي، ومن هنا تشكل البوابة الشرقية لمصر (سيناء وما حولها) أهمية استراتيجية خاصة تجعل من كل سنتيمتر على هذه الأرض أمرا حيويا وأمنا قوميا وشرفا وطنيا. وقد دفع المصريون من دمائهم وأرواحهم الكثير عبر مراحل التاريخ من أجل الحفاظ على كل شبر نعيش عليه حتى الآن.
لذلك نحاول رصد بعض جوانب الآثار النفسية لهذه الاتفاقية دون الدخول في أي جدل سياسي أو تشريعي أو قضائي ربما يجد مكانه في دراسات ومقالات متخصصين آخرين. ونتمنى أن يهتم المسؤولون بهذا الجانب النفسي أسوة بما يحدث في كل أنحاء العالم.
• أول ما تستشعره لدى غالبية المصريين هو حالة من "كسر القلب" و"كسر النفس"، إذ يشعرون أن جزءا عزيزا من الأرض سوف يقتطع من جسد الوطن في ظروف لا يعرفون تفاصيلها ولا دوافعها ومراميها، وأن هذا الجزء سيذهب بلا رجعة حيث سيتم توثيقه إقليميا ودوليا بما يصعب معه أي احتمال للاستعادة. وقد يعترض البعض على لفظ "غالبية المصريين" ويتساءل: كيف عرفت أن غالبية المصريين ضد هذه الاتفاقية؟ ... هل سألتهم؟. والإجابة نجدها في استطلاع رأي مركز بصيرة (وهو مركز غير معارض للحكومة وغير محسوب على أي تيار معارض) والذي رأى أن 47% من المصريين يرفضون الاتفاقية، و11 % فقط يقبلونها، بينما 42% لا يستطيعون تكوين رأي حول الموضوع لعدم توافر المعلومات لديهم. وفوق ذلك ما نراه في حياتنا اليومية من رفض كل من نلقاهم لهذه الاتفاقية، مع استثناءات شديدة الندرة توافق على عهدة الثقة في أصحاب القرار وليس بناءا على معايير موضوعية.
• أن دولة شقيقة – هي السعودية – لها في نفس المصريين مكانة مهمة حيث تهفو إليها قلوبهم تعلقا بالحرمين، ربما تكون قد استفادت من هشاشة الوضع المصري، أو الاحتياج الملح للمال أو المساندة أو القبول، وحصلت على الجزيرتين. وهنا يستشعر المصريون مشاعر متناقضة مابين حساسية وقدسية أرضهم وما بين حبهم لأرض الحرمين. وهم كانوا يعرفون طريق استرداد أرضهم من إسرائيل وغيرها من الأعداء بالحرب وبذل النفس، أما الآن فكيف تسترد أرض من شقيق عزيز حين تتغير الأحوال والظروف. وهناك حساسيات تجاه أحكام الثروة الخليجية أمام الفقر المصري (الطارئ على الأقل) واحتياج أعداد كبيرة من المصريين لهجر وطنهم بحثا عن لقمة العيش في الخليج تحت وصاية الكفيل الخليجي وتحكماته. وقد يشكل هذا بذرة شقاق بين الدولتين العربيتين الأكبر والأهم لسنوات طويلة، وقد يتحول هذا في ظروف بعينها إلى صراع سياسي أو عسكري يطيح بما تبقى من التوافق العربي الهش.
• زعزعة الثقة تجاه أفراد ومؤسسات نافذة في السلطة لم ينجحوا في إقناع الناس بسعودية تيران وصنافير، بل على العكس بدا من سلوكهم إلحاح غير مبرر على تسليم الجزيرتين على عكس المتوقع في مثل هذه الأمور من التأني والمراجعة والتمسك بالسيادة الواقعية على الأرض والدخول في طريق طويل من المفاوضات والتحكيمات الدولية وتقديم كل الوثائق التي تصب في مصلحة الوطن خاصة إذا كانت موجودة بالفعل وحكم على أساسها القضاء المحلي بمصرية الجزيرتين، وهذا القضاء ليس معارضا ولا معاديا للسلطة.
• النظر بأسى إلى أحكام قضائية من مستويات عليا (الإدارية العليا ومجلس الدولة) يتم الإطاحة بها بهذا الاستخفاف بل واعتبارها (كما قال رئيس مجلس الشعب): "هي والعدم سواء". وهذا يهز بعنف هيبة القضاء، وقد يشجع في مراحل تالية على انتهاك أحكامه من قبل الأفراد والمؤسسات، وهذا ما يشعر الناس بالقلق والخوف إذ يظل القضاء في أي مجتمع هو ملاذ الجميع خاصة الضعفاء.
• حالة من الاستغراب الشديد لحماس الدولة لإثبات سعودية الجزيرتين وتسابق الموالين والمؤيدين لتأكيد ذلك، وكأنه أصبح كثير من بني جلدتنا محامون للطرف الآخر ضد أهلهم وناسهم وأرضهم.
• تتعاظم اتهامات التفريط في وعي الكثيرين من المصريين بما يؤسس لشروخ عميقة في البناء الوطني قد تصل إلى حد القطيعة أو العداوة (الظاهرة أو الباطنة)، مع شيوع تبادل الاتهامات بالخيانة أو العمالة بين من رفض ومن وافق وتحمس، وهذا يشكل نزيفا نفسيا خطيرا قد لا يتوقف في المستقبل القريب حيث تشكل الاتفاقية أوضاعا جديدة تكون عصية على الإصلاح أو التراجع لما لها من امتدادات قانونية محلية ودولية.
• سوف تشكل لحظة إنزال العلم المصري ورفع العلم السعودي على الجزيرتين جرحا عميقا وصدمة مؤلمة للوعي الشعبي والوطني المصري والذي لا يرى مبررا قانونيا وأخلاقيا مقنعا خاصة بعد حكم القضاء في أرفع مستوياته بمصرية هذه الأرض، وهنا يحدث شرخ خطير في وعيه بين ما رآه من أحكام قضاء يحترمه، أمام قرار مجلس نواب يعرف إشكاليات تكوينه وتوجهاته المؤيدة للحكومة "دائما".
• سيزيد الجرح ألما حين يتضح استفادة إسرائيل من تغير الأوضاع في خليج العقبة وتحول مدخله إلى مياه دولية تمكن إسرائيل من الاستفادة منه في حفر قناة تنافس قناة السويس أو عمل ممر بري فائق السرعة قد يلغي أهمية القناة في المستقبل. وهنا ستزداد الحيرة والتساؤلات المؤلمة: كيف ولماذا حدث هذا ؟؟؟!!!!!.
• يتعرض الضمير العام لهزة عنيفة نظرا لما يواجهه من تناقضات قانونية وأخلاقية وسياسية تحدث ثقوبا في هذا الضمير وتهتكات يصعب رتقها على أي منظور قريب أو بعيد. وقد يؤدي هذا إلى تدهور في المعايير الأخلاقية أكثر مما نعاني منه الآن.
• حالة من الإحباط العام، إذ لا يستطيع أي مصري (طبيعي وأصيل) أن يفرح باقتطاع جزء هام من أرضه دون أن يجد مبررات قوية جدا ومقنعة لأقصى درجات الإقناع، للأسف هو على العكس يرى ضد ذلك. والإحباط حين لا يتم معالجة أسبابه يتحول إلى غضب مكتوم (حنق)، وهذا إن لم يتم تصريفه يتحول إلى غضب صريح، وهذا الأخير قد يتحول في ظروف بعينها إلى عنف لفظي أو جسدي.
• صعوبة التعبير عن الإحباط والغضب إعلاميا أو حزبيا لأسباب نعلمها جميعا، وهذا قد يظهر في حالة عجز عام أو حالة لامبالاة، أو حالة عدوان سلبي، وقد يظهر لاحقا نوع من الشعور العام بالذنب تجاه أرض اقتطعت ولم يفعل الناس شيئا (خوفا أو عجزا أو انسحابا وإيثارا للسلامة).
• الشعور العام بالهزيمة النفسية تحت ضغوط داخلية وخارجية مرهقة ومستمرة، يضاف إليها شعور بفقد شيء عزيز لم يتمكن الناس من الدفاع عنه بالوسائل القانونية المشروعة، وجاء قرار مجلس النواب صادما له.
• تسرب جزء من الإحباط والغضب والمشاعر العدائية إلى مسارات التطرف والإرهاب كوسيلة يراها بعضهم وحيدة للتعبير عن رأيه، والانتقام من السلطة المتحكمة أو من الشعب المستسلم (في رأيه).
• قد يقول البعض إنها أزمة مؤقتة أو مشاعر وقتية وتمر كما مرت أشياء كثيرة من قبلها وتم استيعاب آثارها مثل تعويم الجنية، ورفع أسعار الوقود وكثير من السلع، وهذا قول يفتقر لأدنى درجة من الحكمة حيث أن الأرض تختلف جذريا عن أي شيء آخر فالأسعار قد تعلو وتهبط والقرارات الاقتصادية قد تصيب وتخطئ وقد يتم تعديلها، والمواقف السياسية قد تتباين وتتغير، أما الأرض فقوانينها شبه أبدية وتأثيراتها كذلك.
• نتمنى أن تكون ثمة فرصة أمام العقلاء لتدارك هذا الأمر قبل وقوعه، وقبل تعرض هذا الوطن المثقل بالجراح والأزمات والتهديدات لتبعات خطيرة يمتد لسنوات لا يعلم مداها إلا الله، فالأرض مثل العرض.
• ألا هل بلغت، اللهم فاشهد.
واقرأ أيضًا:
أنا السيسي/ مصر بعد الانقلاب: الأمن عاد، والخوف ساد!/ الدم الرخيص/ سيكولوجية الثورة/ لديهم وزارة السعادة .. ولدينا سعادة الوزير2017