تلعب الاستعارات (Metaphors) أو التشبيهات دورًا مهمًّا وأساسيًّا في العملية العلاجية للوسواس القهري، وبما أن إحدى المهمات الأساسية في العلاج هي نقل أو تبادل المعنى الكامن وراء المعتقد أو الفكرة، فهل من شيء أسهل من القصص القصيرة، أو الأمثلة العملية، أو التشبيهات اليسيرة لعمل ذلك؟ حيث يسهم هذا الأسلوب بتزويد المراجع بفهم وإدراك جديدين لبعض النواحي المهمَّة في مشكلة الوسواس لديه، ليقابل بها إدراكه القديم، وفي التواصل العام تستخدم القصص القصيرة أو الأمثلة التشبيهية أو الحِكَم والشعر لجعل مقصد الكلام أوضح أو أمضى أثرًا، بحيث يتأثر المستمع بذلك، ويتوصل لفهم المعنى الكامن الدقيق في كلام المتكلم، ويجعل بقائها في حيز الانتباه والقدرة على الوعي بها أفضل، والعزم على تبنيها إن أمكن.
وفي العلاج السلوكي المعرفي يكون الهدف من استخدام الاستعارات والتشبيهات هو تعزيز الفهم وتمثيل المعلومات خلال الجلسة العلاجية وبعدها، وبذلك يساعد المعالج المعالَج على نقل المعلومة بشكل مبسط ومفهوم وسهل، مما يسهل التذكر لهذه المعلومات، بحيث يضعها المعالَج ضمن إطار وسياق واضح، وقد يستعين المعالج بالاستعارات والتشبيهات لوصف لحظات محددة في حياة المعالَج، أو يصف سلوكًا محددًا يؤديه المعالَج، وعادة فإن الاستعارات والتشبيهات وخاصة السهلة والدارجة في المجتمع تلعب دورًا أساسيًّا في تعميق فهم مسألة ما، أو تغيير الفهم لمسألة أخرى.
ومن المهم دائمًا أن يكون المعالج على دراية عالية في كيفية وتوقيت استخدام الاستعارات، بحيث يناسب هذا التشبيه الحالة التي يريد وصفها، ويكون وقت التشبيه مناسبًا، وكل ذلك مناسبًا لثقافة المعالَج وعمره وظروفه، مع محاولة استخدام المناسب حسب كل مُراجع، وتزيد معرفتنا كمعالجين من التأكد من مدى فائدة الاستعارات والتشبيهات في توضيح الصور العلاجية، كلما كان المراجع في الأصل يستخدم التشبيهات ليوضح ما يمر به أو يعانيه.
التشبيهات المساعدة على فهم الوسواس:
تم تقسيم التشبيهات ضمن عدة فئات كما سيتم تفصيله لاحقًا؛ وذلك لتسهيل معرفة متى يمكن تطبيق تقنية الاستعارات والتشبيهات بشكل أوضح، وبداية: نشير إلى استعارة: (سين من الناس، صاد من الناس، عين من الناس)، وهم الأبطال الأسطوريون الذين دائمًا ما يستعين المعالج بهم لكل الأمثلة التي تحتاج لشخص يلعب دور المريض فيها، وبخاصة أن سين من الناس هي من عميق التراث العربي، سهلة الحفظ، إضافة أنها تقلل مقاومة الشخص بدل أن يكون التشبيه واقعًا عليه شخصيًّا، كما أننا بذلك نتجنَّب الحديث عن مرضى حقيقيين، بالرغم من إمكانية التحدث عن جزئيات بسيطة من حالات مرضية حقيقية لا تحمل أي دلالة على طبيعة المريض أو هويته، ونطلق عليه أيضًا (سين من الناس).
1) تشبيهات شرح العملية الوسواسية ككل:
1- الاستجابات الأساسية مقابل الشعور بالأمان:
ويحمل هذا التشبيه شرحًا لطبيعة الاستجابات الأولية للدماغ في حال التعرض للخطر، من بداية تحفُّز المنطقة المسؤولة عن التعامل مع المخاطر، حتى الاستجابة الجسدية من إفراز للنواقل العصبية والتغيرات الحيوية في الجسم، وعلاقة ذلك بالاستجابات الوسواسية. ونتحدث عن قصة (سين من الناس)، الذي خرج من المنزل في أحد أحياء غزة الصامدة، ثم تعرض حيُّه لاعتداء وقصف، فهو في وسط الحي لا يستطيع العودة، والمنطقة مكشوفة جدًّا، فما هي الأعراض التي سيشعر بها؟ وكيف سيفكر بالتصرف؟ وننقل (سين من الناس) إلى مدينة عمان في حي هادئ جدًّا، وأصابته الأعراض السابقة نفسها، دون وجود خطر حقيقي، لكن الدماغ حفز مناطق الأمان، وإفرز الهرمون، والتغيرات الحيوية بدأت بالسيطرة على الجسم، لكن بسبب فرق عدم وجود قصف أو اعتداء، سيركز (سين من الناس) على نفسه بدل تركيزه على الخطر الخارجي، وسيحاول الهرب من الموضوع الذي ركز عليه بدل الهرب من خطر العدوان، وعندما نقول سيركز على نفسه، فإن أهم ما سيركز عليه هو (الأفكار الخطرة)، وهنا سيكون التركيز على الأفكار عاليًا جدًّا بحيث لا يستطيع الفكاك من ذلك، ونعيد التشبيه بأنه في حالة الخطر الحقيقي؛ نجد الشخص يركز على مصدر الخطر -القصف في القصة الحالية- والدماغ معدٌّ عند الخطر للتركيز بقدر عالٍ لضمان التعامل مع مصادر الخطر دون الإغفال عنها، ففي حالة الخطر ليس هنالك مجال لتفكر بمستقبل وظيفي، أو بظروفك المادية، فقط يركز دماغك على الخطر، وفي الوسواس الخطر هو (الأفكار) لذلك يركز الدماغ عليها بشكل كبير، وللتعامل مع هذا الخطر وصولاً للأمان يحاول مريض الوسواس عمل السلوك القهري الهادف للهرب من المخاطر للوصول إلى درجة أمان، ولذلك عند التعرض للخطر من جديد ترتفع درجة الاستجابة التي أصبحت تلقائية للوصول للأمان، والذي هو السلوك القهري في مرضى الوسواس.
2- حالة الحرب على رقعة الشطرنج:
وهنا نشبه حالة القلق الوسواسي باستجابة الجسد والنفس في ساحة حرب، لكن نضيف هنا أنك تشعر باستجابة ساحة الحرب نفسها، لكن تشعر بها وأنت تلعب على رقعة شطرنج! كتشبيه لحجم تفاقم الأعراض بشكل أعلى مما يجب.
3- مجرد حالة قلق:
هذه الكلمة ليست بسيطة عندما يتعود المريض على قولها واستحضارها بقوة شعوره ووعيه، فيعوِّد نفسه كلما شعر بدفق الوسواس أن يقول لنفسه "مجرد حالة قلق"، بحيث ينفي تلقائيًّا بعدها تفاصيل الإسقاط الوسواسي، مجرد حالة قلق تشبيه ينبه أن ما يحصل للجسد والعقل الآن نابع عن حالة القلق الوسواسي، وهو بحد ذاته تفسير كافٍ لما يحدث.
4- انسكب الماء:
وهذا تشبيه آخر ندرب عليه المراجعين ليجسِّموا الوسواس كشكل إبريق ماء، وأنه حين يثور فكأنَّ الإبريق انقلب، فما علينا فعله هو ألا نشغل أنفسنا بمسح الماء، بل يجب علينا رفع الإبريق قبل كل شيء، وهذا يهدف للتعامل مع الأصل الوسواسي، وليس الأفكار الناتجة والانشغال بتحليلها.
5- هي متطلباتك أنت:
والتشبيه هنا بقصة وجود ثلاثة أشخاص (س، ص، ع، من الناس)، ولدى كل منهم متطلبات وسواسية، أو ميل للكمالية، تراهم سيتفقون على ترتيب أثاث غرفة مثلاً، أو تنظيم مكان ما؟ غالبًا لا، لأن لكل شخص كمالي متطلبات تختلف عن الآخرين من الكماليين، وبالتالي هي متطلباتك أنت، وليس متطلبات عامة.
6- تريد تفسير أعراضك والتفسير موجود:
وهذا تشبيه ينطلق المعالج منه إلى تفسير الأعراض التي يعاني منها المراجع، فيبدأ بشرح أن كل مرض له أعراض، ثم يسأل المراجع الذي طلب تفسير الكثير من الأعراض لديه، هل تريد تفسير الأعراض التي تشعر بها؟ هل تعلم أن التفسير موجود؟ ويعيد شرح أعراض اضطراب الوسواس القهري وحالة القلق، مركزًا على إقناع المراجع بأن التفسير أصبح موجودًا "مجرد حالة قلق".
7- جرس الأمان ضرب، هنالك أعراض تتسلَّل!
وهذا عبارة عن تشبيه لحالة القلق الوسواسي بجرس الإنذار حين يعلن الإنذار، وأن الأعراض تبدأ بالتسلل، وكأنه يساعد نفسه لفهم العملية بشكل يقلل خوفه وانزعاجه منها.
8- الأنف يكبر!
وهذا التشبيه خاص بالأطفال، حيث نحدثهم عن قصة "بينوكيو" أو "ماجد" اللعبة الخشبية، وكيف يطول أنفه الخشبي حين يكذب، وندربهم على تشبيه الوسواس بهذه اللعبة الخشبية، وتخيل هيئته حين يزعجهم كأن أنفه يطول ويكبر، دليلاً على عدم صحته.
9- دون كيشوت:
وهذا التشبيه يختص بالمراهقين والشباب الصغار أكثر، حول الفارس الذي حارب طواحين الهواء، وهذا هو الوسواس محاربة لطواحين الهواء؛ لأنه صراع وخطر غير فعلي.
2) تشبيهات شرح عملية التفكير الوسواسي:
1- ما دام الأصل كاذبًا فالخبر خرافة:
هل من الممكن أن تتخيل إنسانًا كاذبًا تعرفه، أو تخيل "ساهر" على أنه إنسان كاذب جدًّا في كل ما يقوله، عندما تعرف ذلك عن "ساهر"، فإنك لن تلقي بالاً لأي شيء يتحدث عنه؛ لمعرفتك بأنه كاذب، وبأنه لا يصدر عنه إلا الأكاذيب، ولو حدث وحدَّث أحدًا بأمر ما، وقال لك: إن "ساهر" هو من حدَّثه عن ذلك، فلن تُلقي بالاً للكلام أيضًا؛ لأن مصدره من الأصل يحترف الكذب، فـ"ساهر" هذا كاذب محترف، الآن تخيل أن الوسواس (مثلاً) وسواس الطهارة هو "ساهر"، فهل سيكون ما يقوله عن الطهارة صدق أم كذب؟ بما أن "ساهر" لا يصدر عنه إلا الكذب؟ فالأهم هو أصل المعلومة؛ أي أن الوسواس (ساهر) هو المصدر، بغض النظر عن أي شيء تحدث عنه، فما دامت المعلومة نابعة من هذا الأصل فكل ما سيُقال بعدها غير موثوق به، فلا تشغل بالك في تحليل التفاصيل ما دام الأصل نابعًا عن كذب!
2- إذاعة "مسيلمة"!
وهذا من التشبيهات لتخيل وتجسيم الوسواس كمذياع يذيع الأخبار، ونطلق على الإذاعة اسم "إذاعة مسيلمة"، ثم نستخدم ذلك كتكنيك، وندرب المراجع على تجسيم الوسواس على شكل مذياع يذيع أخبارًا من "إذاعة مسيلمة"، وندربه على الانتباه إلى طبيعة هذه الإذاعة، فبغض النظر عن الخبر، فالإذاعة نفسها كاذبة.
3- الفتوَّة النصَّاب في الفصل أو في النادي:
يطلب من المراجع بعد النجاح في تفنيد فكرة وسواسية معينة ودحضها؛ من أجل تشجيع المريض على الاستهانة بها وتتفيهها، "تخيل أنك في المدرسة أو النادي أو الشارع مثل الجميع كنت تطيع الفتوة النصَّاب خوفًا من حجمه الكبير وصوته الجهور، وبقيت كذلك سنوات مرضك، هل بعد أن عرفت حقيقته ورأيت بنتًا تصفع وجهه وهو يبكي؛ هل ما زلت تستمر في طاعته؟ انظر إلى مردود ذلك على حياتك.. إلى متى تستمر في طاعة الفتوَّة النصَّاب؟
4- الخيال حرٌّ طليق والقدر مقيَّد بإرادة ربانية:
ونشبه الخيال هنا كطير حرٍّ طليق في غابة مليئة بالأشجار، له أن يحطَّ على أي شجرة منها، لكنه لم يصنع هذه الغابة ولا يستطيع أن يغير فيها الكثير، فهو لم يقرر وجود الشجر والحجر، لكنه جزء منها يعيش فيها، وله أن يدرب نفسه على الأشجار الأجمل، ويرى من الغابة المظاهر الخلابة، ثم نسأل المراجع، تخاف أن يحصل ما تفكر به ويصبح حقيقة، هل تعلم قاعدة مهمَّة تدل على ذلك؟ الأفكار حرَّة وكذلك الخيال، أما القدر فمقيد بإرادة الله لا بما سيصدر من خيالك، تخيل لو كان كل ما يخطر ببال الناس سيتحقق، تخيل لو أن كل ما يحلم به الناس ليلاً -على سبيل المثال- سيستيقظون وقد تحقَّق، هل من الممكن أن يكون سليمًا أن يتحقق كل ما يفكر به ستة مليار إنسان؟! كم مرة تفاجئك أحداث قدرية غير متوقَّعة؟ ما الذي منع توقُّعها؟ وكم مرة توقعت شيء ولم يحصل؟ ما الذي يمنع حصوله؟!
5- تقبُّل الفكرة لا يعني قبولها:
ونشبِّه الفكرة هنا بزميل في العمل أو المدرسة، لا أحبه، أو يضايقني، ولكني قرَّرت تقبُّل وجوده دون السعي لإرهاق نفسي بالانزعاج منه، هذا التشبيه مهمٌّ بما يتعلق بأفكار الكفر، أو الأفكار الجنسية، ويتحول هذا التشبيه إلى (تكنيك) تقنية علاجية لتدريب المعالَج على الفرق بين قبول الفكرة وتقبُّلها، بحيث نعزز لديه تقبل وجود فكرة وسواسية مزعجة، مع تنبيهه إلى أن تقبُّلها لا يعني قبولها أو قبول ما تحمله هذه الفكرة.
6- نوبة الأفكار.. نوبة نزيف الأنف:
ونسأل المراجع عمَّا هي ردة فعله لو عانى من نزف الأنف "الرعاف"؟ ثم نشبه نوبة الأفكار الوسواسية بنوبة رعاف تحتاج من المراجع للتعامل معها فورًا وإسعافها حتى لا تزيد.
المراجع:
1. وائل أبو هندي، رفيف الصباغ، محمد شريف سالم ويوسف مسلم (2016) العلاج التكاملي للوسواس القهري، البابُ الثاني: العلاج السلوكي للوسواس القهري، سلسلة روافد 135 تصدر عن إدارة الثقافة الإسلامية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، دولة الكويت
ويتبع >>>>>: الاستعارات والتشبيهات في العلاج المعرفي للوسواس2
واقرأ أيضًا:
أيها المبتلى بالوهم : الموهومون / بالعلم قاوم (3) / سيكولوجية الضواري