وسواس التلوث والتنظيف علاج وسواس النجاسة القهري2
وساوس وقهور الشك في خروج ريح أو نقطة :
قلنا في الجزء الثاني من مقالنا عن أعراض وسواس النجاسة التطهر التطهير القهري أن الشك في خروج ريح -والذي غالبًا ما يليه تكرار الوضوء باعتباره مبطلا للوضوء- هو من أكثر أعراض الوسواس القهري الدينية في المسلمين حدوثًا أثناء و/ أو بعد الوضوء و/ أو أثناء الصلاة (وأحيانًا أثناء الطواف بالكعبة المشرفة)، ويتشابه المرضى عادة فيما يفعلون عند خروج الريح فالاستجابة هي تكرار التطهر وكذا الخوف من تكرار خروج الريح، لكن استجابات المرضى تختلف فيما يفعلونه في حياتهم إزاء هذا الخوف اختلافات كثيرة كل حسب مفاهيمه عن أسباب خروج الريح وكيف يتقيها ما استطاع.
الخوف من خروج الريح يرتبط عضويا بالخوف من نزول نقطة من المبال عبر الإمداد العصبي الواحد من العصب الفرجي كما بينا في ردنا على استشارة وسواس الريح فوسواس البول، ويؤدي الخوف المفرط في الحالتين إلى الوسوسة بخروج ريح أو نقطة وإلى سلوكيات شتى أبسطها التحرز مثلا بقبض عضلات الحوض أثناء الصلاة ... وترتبط كذلك بأفعال أو إجراءات استباقية Anticipatory Measures ربما أكثر انتشارا في يوم المريض منها طقوس تفريغ البطن بالقبض والتعصير قبل الوضوء ومنها ما يتمثل بداية من الإطالة في الإخراج أثناء التغوط وتحاشي أطعمة معينة أحيانا وكل الطعام غالبا في حالات الوسوسة الشديدة في الوضوء ... فحتى لا يضطر لتكرار الوضوء يلجأ الموسوس إلى عدم الأكل (وأحيانا عدم الشرب) إذا كان سيصلي في المسجد أو يوميا حتى يصلي العشاء ! وهناك من يعصر بطنه قبل الوضوء وهناك من يصبح خبيرا بكيفية تحريك الأمعاء.... وهناك من يقوم ببعض الحركات بيديه على بطنه ويهز نفسه قليلا قبل الشروع في الوضوء ... حتى تصبح لازمة قهرية قبل كل وضوء كل هذا مخافة أن تداهمه وسوسة بالريح أو بنزول النقطة أثناء الوضوء أو الصلاة).... كل هذا وغيره كثير.
وللتعامل العلاجي مع هذه الصورة الإكلينيكية من وسواس النجاسة التطهر يجب توجيه العمل نحو إقناع المريض بالتجربة السلوكية لاختبار قناعته بأنه إن لم يفعل كذا .... ستداهمه الريح أو تنزل النقطة .... بحيث يمتنع عن القيام بسلوكيات التأمين التي يتخذها لمدة متفق عليها ومعروفة ومسجلة توقعات العميل لما يمكن أن يحدث بعد تنفيذها ثم تقارن النتائج ويدور العمل المعرفي .... إلا أن هذا لا يمكن أن يبدأ من قبل العمل الطبي على تهدئة الأمعاء الغليظة (القولون) وربما المثانة من خلال تدريب الانتباه إن أمكن أو غالبا من خلال العقاقير المقللة لأثر القلق على الأمعاء... وهذا قد يستغرق الأسابيع الأولى للع.س.م بحيث يكون المريض جاهزا للقيام بالتجربة السلوكية المتفق عليها في الجلسة الرابعة أو الخامسة على أن يتم التجهيز لها جيدا...
ومن المفيد في العلاج المجتمعي المبدئي لهذه الحالات أن ترد إلى وسوسة الشيطان بواسطة أي من أفراد الأسرة أو شيخ المسجد وبعض الحالات تتوقف ولو لفترة عن الوسوسة استجابة لذلك فمن الأحاديث النبوية الشريفة نجد أمثلة كثيرة :
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : "إذَا وَجَدَ أَحَدكمْ في بَطْنه شيئًا فَأَشْكَلَ عَلَيْه أَخَرَجَ منْه شَيْءٌ أَمْ لاَ؟ فَلاَ يَخْرجَنَّ منَ الْمَسْجد حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجدَ ريحًا"، رواه مسلم. والإشارة في هذه الرواية تتعلق بأحاسيس في الجهاز الهضمي من طبيعتها أنها تشكك الإنسان في وضوئه... وبالتالي فإن الشعور الشرجي في الدبر بخروج الريح قد يعبث به الوسواس ويلبسه عليه، فلا يعتد به ولا يعول عليه.
عن عبد الله بن زيد قال: شُكي إلى رسول الله أنه يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال "لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا"، وواضحٌ أن التأكيد هنا أو المرجعية إنما يجب أن تكونَ لسماع الصوت أو شم الريح، وهو ما قد يشاركك فيه الآخرون، وليس خبرة حسية تخص صاحبها وحده، وبالتالي تصبح عرضة لعبث الوسواس.
وفي حديث آخر عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال: "إنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتي أَحَدَكمْ وَهوَ في صَلَاته، فَيَأْخذ شَعْرَةً منْ دبره، فَيَمدّهَا فَيَرَى أَنَّه قَدْ أَحْدَثَ، فَلَا يَنْصَرفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجدَ ريحًا"، رواه أحمد واللفظ له، وأبو داود، ولفظ أبي داود: "إذَا صَلَّى أَحَدكمْ فَلَمْ يَدْر زَادَ أَمْ نَقَصَ، فَلْيَسْجدْ سَجْدَتَيْن وَهوَ قَاعدٌ، فَإذَا أَتَاه الشَّيْطَان، فَقَالَ: إنَّكَ قَدْ أَحْدَثْتَ، فَلْيَقلْ: كَذَبْتَ، إلَّا مَا وَجَدَ ريحًا بأَنْفه، أَوْ صَوْتًا بأذنه"، وتُظهر هاتان الروايتان بوضوح أن مشاعر وأحاسيس الإنسان الخاصة هي من أكثر ما يتدخل فيه الوسواس، وبالتالي يحدث التوهم أو التخيل، والذي إما أن يكونَ مصدرًا أصليًّا للفكرة التسلُّطية، أو يكون داعمًا ومعززًا لفكرة تسلُّطية قَبْلية، ومن المهم أن نبين أن كلامنا هنا إنما يدور حول مشاعر وأحاسيس حقيقية بالنسبة للمريض، لكنها علميًّا أو واقعيًّا -لنَقُل- ليست كذلك، فهي هلاوس حسية جسدية Somatosensory Hallucinations، لكنها في هذا المثال (كما في غيره) تحديدًا تعمل عمل الوساوس بمعنى أن المرضى يرفضون فكرة أنها ناتجة عن القلق من نقض الوضوء، ويصرون على أنها أحاسيس حقيقية وأنها وساوس في نفسها وليست مبنية على الوساوس، وكانت ملاحظتنا هنا أساسًا لدراستنا عن الظواهر الحسية في مرضى الوسواس.
لكن عندما يصل إليك المريض كطبيب أو معالج نفساني هذه الأيام ستجده عارفا بهذه الأحاديث غالبا وربما غيرها ... وعاجزا في نفس الوقت عن تطبيقها -رغم محاولة وربما بعض نجاح عابر- لأنه يرى نفسه يشك شكا يعجز أن يطرحه ... وستعتمد مهمتك كمعالج معه على مهارتك في العمل على مفهوم التطهر للعبادة .... ومفهوم القلق الوسواسي المولد للأحاسيس الحشوية الكاذبة، ومفهوم رخصة الموسوس التي يلزمه اتباعها.
ولعل الأهم والألزم توضيحا وتعليما للموسوس هو المفهوم الأوسط أي مفهوم القلق الوسواسي المولد للأحاسيس الحشوية الكاذبة والذي سنركز عليه هنا في هذا الجزء من المقال فحين يضع الموسوس جزءٍا من وعيه وجهده الذهني وربما الجسدي رهنا على مراقبة أحد أو كلا سبيليه مخافة خروج الريح أو النقطة يدخل نفسه في وضع الأكثر استقبالا لمشاعر حشوية عادية -لا تعني شيئا للشخص العادي- أو وسواسية كاذبة كالحقيقية (ظواهر الوسواس القهري الحسية) بأن شيئا خرج لكنها بالنسبة للموسوس دائما تعني ذلك... وبالتالي فكأنما هو يضبط طاقمه العقلي والنفسي لاستقبال ما ينقض وضوئه ريحا كان أو نقطة ... فيكون له ما يخاف منه وسوسة لا حقيقة.... فهو يشعر شعورا كخروج الريح أو نزول النقطة لكنه يشك في نفس الوقت أنه يشعر شعورا طبيعيا هكذا تكون الظواهر الحسية..... ومما يستخدم في التدليل على ذلك السؤال عن مرات التفتيش عن النقطة في اللباس التحتي ؟ وكم مرة في المائة كانت بها أثر لا خلاف عليه ... وكثيرا ما تكون النتيجة ولا مرة ... أو بالكثير 1% ... وكذلك يفيد مع الإناث اختفاء كل تلك الأعراض أيام الدورة .....إلخ.... المهم أنك تستطيع بهذا الشرح إذا وصل مفهوما للمريض أن تمكنه من الثقة في والشعور باكتمال تطهره للعبادة رغم ما يوسوس له به من أحاسيس كاذبة فيبقي على وضوئه ويكمل صلاته ولا يفكر أبدا في التكرار.
ومن الواضح أعلاه أن أحكام الإحساس بخروج الريح من الدبر الذي وردت فيه أحاديث نبوية واضحة، يمكنها أن تساعد كثيرا في العلاج.... ولكن يبقى لدينا الإحساس بنزول نقطة بول أو مذي لم تصلني فيهما أحاديث مباشرة واضحة تفيد مرضى الوسواس القهري إلا أنني منذ مدة أقيس أحاسيس القبل على أحاسيس الدبر كاستنتاج علمي يعرفه الأطباء... وقد وجدت في علاج الموسوسين بخروج النقطة أن من المفيد معرفيًّا بيان العلاقة العصبية البيولوجية بين القُبل والدبر، وكون الإنسان عرضة للتوهم بأحاسيس فيهما، مع التدليل بالحديث المشهور عن الشك في خروج الريح، ثم القياس عليه؛ لأن القطع العصبية المسؤولة عن تلقي الإحساس من بطانة المبال وهي القطع العجزية الثلاثة (S2,S3,S4) عبر العصب الفَرْجي، هي نفسها التي تنتقل عبرها الأحاسيس القادمة من الدبر كخروج الريح؛ أي أن حكمًا على الشعور بالريح من الدبر يصلح حكمًا للشعور من القُبل بنزول نقطة بول أو مذي!
وبشكل آخر فإنه يمكن تشريحيًّا وطبيا استنتاج أن القطع العصبية العجزية الثلاثة (S2,S3,S4)؛ والتي تنتقل لها ومنها عبر العصب الفرْجي Pudenal Nerve الأحاسيس القادمة من الدبر؛ كخروج الريح وغيره، والأحاسيس القادمة من القبل؛ مثل الشعور بنزول نقطة بول أو مذي! كما تنتقل منها ولها الأحاسيس إلى القشرة المخية عبر المسارات العصبية الصاعدة والنازلة، أي أنه يجوز الحكم قياسًا فيما يتعلق بأحاسيس القبل بنفس أحكام الدبر الذي وردت فيه أحاديث نبوية واضحة.... هذا هو المنطق الذي كنت أناقش فيه الأمور مع من يستطيع من رفاقي أثناء العلاج.
ومن المهم بيان أنه بالرغم من منطقية ما سبق فإن الحكم الشرعي مرتبط أساسًا بقضية أن (اليقين لا يزول بالشك)؛ سواء كان العصب نفسه أم لا، والحكم في حديث الصوت أو الريح ليس خاصًا بالصوت والريح فقط، بل هو عامٌّ في كل ما يحصل به العلم بحصول الحدث، وهذا الحديث واحد من أحاديث كثيرة استنبط منها العلماء قاعدة: "اليقين لا يزول بالشك"؛ سواء كان العصب نفسه أم لا، وسواء شك بانتقاض وضوئه بسبب ما يخرج من السبيلين، أم بسبب آخر من نواقض الوضوء، بل المراد أن يحصل عنده علم بانتقاض وضوئه بيقين، وإن لم يسمع صوتًا أو يجد ريحًا، فما لم يتيقن فهو على وضوء، مع أنه يحتمل أن يكون قد انتقض وضوؤه في حقيقة الأمر، ولكنه غير مطالب بما لم يتأكد منه؛ قال النووي في شرحه على صحيح مسلم: (معناه: يعلم وجود أحدهما ولا يشترط السماع والشم بإجماع المسلمين. وهذا الحديث أصل من أصول الإسلام وقاعدة عظيمة من قواعد الفقه، وهي أن الأشياء يحكم ببقائها على أصولها حتى يتيقن خلاف ذلك. ولا يضر الشك الطارئ عليها. فمن ذلك مسألة الباب التي ورد فيها الحديث وهي أن من تيقن الطهارة وشك في الحدث حكم ببقائه على الطهارة)، فخير ما يقال للموسوس: طالما أنت تشك، فأنت إذن متوضئ (رفيف الصباغ، 2008).
أهم أهداف العلاج هي الوصول بالمريض إلى إهمال شكه أو إحساسه بأنه أحدث (ريحا أو نقطة) بشكل أو بآخر فلا يعيد لا الوضوء ولا الصلاة ولا الاستنجاء، بناء على وساوس ذهنية أو حسية أي ألا نعطي استجابة لتلك الوساوس كي لا نعزز حدوثها وعلى وعد بأنه إن نجح في الإهمال فصلى الصلوات الخمس على مدى أسبوعين دون أن يعيد وضوءا ولا استنجاء فإن هذا الشكل من الوسواس يختفي ولو لفترة ... وإن عاد يعود المريض للتدرب على إهماله حتى يختفي ربما تماما.
والمشكلة أن ليس كل مريض يرضى بإهمال الشك فبعضهم يرى هذا تقصيرا في الدين بل وبعضهم يراه استهتارا واستهزاء ! ورغم ما يبدو من تكلف في سلوك هؤلاء إلا أن الحقيقة أنهم مساكين بسبب مفاهيم مختلطة الفهم كما وكيفا عليهم كما على كثير من الناس تتعلق بالكمال والانضباط والالتزام ... فإذا اتسم شخص بذلك ماذا تظنون معايير تطهره أو وضوئه ؟ .... إنه لن يقبل بها دون 100% يقين ... ويحتاج هؤلاء إلى العمل على مفاهيم الكمالية والالتزام والإتقان إضافة إلى مفهوم التطهر كسلوك مطلوب شرعا وعقلا، وتتم الاستعانة بكثير من التشبيهات العلاجية أثناء الع.س.م مع هؤلاء.... وقد عرضنا بعض ما يخصهم تحت عنوان : تشبيهات متفرقة تساعد في العلاج في الجزء الثالث من مقال الاستعارات والتشبيهات في العلاج المعرفي للوسواس، واستكملنا بعضها تحت عنواني : قواعد فقهية مفيدة في علاج الوسواس القهري واستعارات مبنية على أحكام فقهية تيسر العلاج، في الجزء الرابع منه.
كما يتميز من يرفضون إهمال الشك هنا في معظم الأحيان بما نسميه التعمق الديني أو فرط التورع والذي يجعلهم أسوأ وأسوأ حين يتوقعون الله عز وجل يطلب منهم الكمال وليس دونه ويحاسبهم على أخطائهم كقاض دقيق لا كخالق رحيم. ويحتاج هؤلاء إلى عمل معرفي مكثف على مفاهيم التعمق سببه ومعناه ومغزاه وسبب لزومه ؟ وهو ما يعني التطرق لمفاهيم دينية وعقدية تتعلق بفكرة الإنسان عن خالقه وماذا يريد منه وبماذا يلزمه ؟ ولماذا يؤمن العميل بهذا الفهم دون غيره، كذلك فكرته عن نفسه كإنسان متدين ما معنى ذلك ؟ وما مدى جدارته به ؟ وما شروط استحقاق ذلك ؟ وكيف تعلم عن الله وماذا كانت أفكاره الأولى ؟؟ ... وهكذا
الحالة الإكلينيكية التي تصل بها هذه النوعية من حالات وسواس النجاسة التطهر التطهير القهري عادة ما تكون حادة ومعقدة وقد سبق أن رآها عارف بالأمر سواء كان شيخا أو دجالا أو زميلا من رفاق المهنة... وكثيرا وليس دائما ما تكون قد استخدمت العقاقير العلاجية للوسواس ولم تستفد إلا قليلا أو لا شيء في تقليل تكرار التطهر والوضوء والاغتسال إلخ.
ينصح في هذه الحالات باستخدام الع.س.م المدعوم عقاريا بجرعة الدرجة الأولى أو الثانية على الأكثر من عقار واحد من عقاقير معززات السيروتونين الم.س أو الم.ا.س.ا كما سميتها قديما، ثم بعد العمل المعرفي المناسب المختار مما سبق أو من مثيله أينما وجد وخلال ستة جلسات... عادة ما يكون المريض أفضل حالا وأقل طقوسا من بداية العلاج وهنا يمكن البدء في تدريبات سلوكية أو بالأحرى تجارب سلوكية يتفق عليها مع المريض على أساس التعرض ومنع الاستجابة والتأمل المعرفي في نفس الوقت ومع التدرج المعتاد في العلاج السلوكي للوسواس القهري... ويراد بهذه التجارب أن تزيد ثقته بقدرته على إهمال الوسواس وعدم إعادة لا الوضوء ولا الغسل ... وإن اغتسل وجوبا لا وسوسةً فيكون ذلك بالطريقة الموصوفة في علاج اغتسال التطهر القهري،... بالتدريج يصبح المريض أقل لجوء للاحتياطات وأكثر ثقة في نفسه.
ويتبع >>>>>: وسواس التلوث والتنظيف علاج وسواس النجاسة القهري4
واقرأ أيضًا:
وساوس بخروج الريح / وسواس في خروج ريح / وساوس تنقيط البول