الاستعارات والتشبيهات في الع.س.م للوسواس القهري4
ما زلت خلال عملي في علاج مرضى الوسواس القهري بالـع.س.م ألتقط بين الحين والآخر استعارة أو تشبيها مما استخدمته مع هذا المريض أو ذاك وأسجله في ورقة صغيرة أثناء الجلسة ..... ثم أراجع تلك الأوراق كل فترة لأنتقي من التشبيهات أو الاستعارات ما يتسم بالعمومية أو بأنه يفيد في أعراض قطاع معتبر من المرضى ... وكنت قد فعلت ذلك مرات حتى جمعت ما لدي على ما كان لدى د. يوسف مسلم وأدرجناه في فصل عن الاستعارات والتشبيهات في كتاب مستشاري مجانين عن الفهم والعلاج التكاملي للوسواس القهري، والذي طبعته وأصدرته وتوزعه وزارة الأوقاف الكويتية ضمن سلسلة روافد، ثم راجعته قبل تقديم عرضٍ لهذا الفصل في ورشة عمل شاركني فيها يوسف ضمن فعاليات مؤتمر عمان أكتوبر 2016 الـ 14 لاتحاد الأطباء النفسانيين العرب والذي منح مؤلفو الكتاب فيه جائزة سليم عمَّار للبحث للعلمي من اتحاد الأطباء النفسانيين العرب، وقبل سنة تقريبا من الآن كنت قد راجعت ما لدي مرة أخرى وأضفت بعض التشبيهات ونشرته أنا ويوسف في 4 مقالات على مجانين هذا أولها، وظننت وقتها أني أكملت الاستعارات والتشبيهات لكن مراحعة أخيرة بينت أنه ما تزال هناك تشبيهات بعضها يفيد في تشجيع المثابرة على التعرض (1و2) وبعضها عام يتعلق باسترتيجيات التعامل مع العملية الوسواسية (3و4) وهناك استعارتان من الحديث النبوي الشريف (5و6)... فرأيت أن أضعهما كاستدراك لا أدري إن كنت يوما سأسميه : استندراك أول أم لا ؟
أولا تشبيهات تفيد في تشجيع المثابرة على التعرض:
1- الوسواس الآن يحترق تطفئه ! أم تتركه يحترق ؟
كثيرا ما يحتاج الم.س.م للتشبيهات والاستعارات أثناء تعليم المريض كيفية التعرض ومنع الاستجابة ومما يساعد في التشجيع والتحفيز على إتمام المهام السلوكية تخيل أن الوسواس كيان يحترق ولن يطفئه إلا الفعل القهري فيقال للمريض، أنت الآن وقد قمت باستفزاز الوسواس ومنعت نفسك من الفعل القهري (التحاشي/الغسيل) فكأنما الوسواس يحترق فيك لأنك لا تطيعه ... فهل تختار أن تطفئه أم تتركه حتى يحترق ؟ وإذا احترق تشفى.
2- عذاب يمتد ولا يعالج أم عذاب بالوقت ويعالج ؟!
لا يختلف مريض وسواس قهري على وصف خبرة حياته مع الوسواس خائفا ومطيعا بالعذاب... وتمتد حياة كثيرين في حلقة الوسواس الخوف الانزعاج الفعل القهري الوسواس وهكذا هم معذبون لا ينتهون من عذاب إلا ليقعوا في آخر ... وبالتالي يكون من المناسب تقديم الجزء المزعج من البرنامج العلاجي للمريض والتعامل معه على أساس أنه ألم أو عذاب متدرج ومنظم ومحكوم بجدول وعلى طريق الشفاء.... وهو مفهوم قريب من مفهوم المثل العامي المصري "وجع ساعة ولا كل ساعة" الذي أشرنا إليه من قبل.
ثانيا تشبيهات تعليمية لأفخاخ الوسواس وطرق التعامل معها:
3- الموسوس إن فتش في دواخله وقع
يشرح للموسوس كيف أن قابليته للوسوسة تزداد جدا حين يحاول التفتيش في ذاكرته أو مشاعره أو نواياه ... وكيف أنه في حالة القلق والانزعاج الوسواسية لا يستطيع أن يجد في نفسه شيئا يبني عليه ! وإنما فقط يعطي الوسواس الفرصة لتلبيس الأمر عليه بحيث يعود أكثر شكا فيه كلما كان أكثر تفتيشا....
تبدأ العملية بأن يشعرَ الوسواسُ المريضَ بأن عليه أن يتذكر حدثا أو موقفا أو فعلا ما في الماضي القريب أو البعيد كيف حدث أو كيف كان يشعر أثناءه أو ماذا كانت نيته ...إلخ ... فيفاجأ بأنه لا يتذكر جزئيا أـو كليا أو أنه يشك فيما يتذكر....... ببساطة لأن ثقته في ذاكرته قد تهتز بشدة أو تنعدم، فيعود يحاول التذكر أي تبدأ محاولات قهرية لإعادة التذكر ومحاولات الطمأنة الذاتية التي سرعان ما تتبعها وسوسة تشكك بمحتواها... وهكذا.
يتميز مرضى الوسواس القهري بشكل خاص بقابلية عالية للانفصال تحت تأثير التهديد الوسواسي وهو ما يجعل قابليتهم للانفصال عن دواخل أنفسهم بما فيها من مشاعر ونوايا وذاكرة ظاهرة كثيرة الحدوث... نشبه للمريض أن باستطاعة الوسواس أن يضع حائلا بينك وبين ما تفتش عنه في ذاكرتك أو مشاعرك الداخلية ... وربما للحائل مستويات مختلفة من السمك بحيث يحجب عنك إما كل ما تريد أو بعضه والنتيجة الوحيدة بعد كل عملية انزلاقٍ وسوسيٍّ من هذا النوع هي إدامة مرض الوسواس القهري.
إذن فعلى المريض أن يعتبر كل حثٍّ على التفتيش في معلوماته الداخلية فخا وسواسيا جديدا يستطيع تجنب الوقوع فيه فقط بإهماله، ويحتاج ذلك إلى مجهود للتدرب على التجاهل والإهمال لهذا الفخ. كما يمكننا أن نأخذ من هذا التشبيه استعارات عديدة كأن نقول "الموسوس لا نية له" (في موضوع وسوسته حال المرض)
4- الوسوسة دليل الإحسان أو إذا وسوست في العبادة فقد أحسنت:
نبدأ بالحوار مع مريض وسواس العبادات بسؤال متى تتوقع أن يأتيك وسواس في العبادة ؟ فيرد المريض دائما أو في العبادة الأهم فنسأله هل يلازمك طوال العبادة أم في خطوة منها ؟ وهل تتوقع أن توسوس أكثر إذا صليت لاهيا أم إذا حاولت الخشوع؟ هل توسوس أكثر إذا أحسنت خطوة ما ؟ أم أكثر لو لم تحسن ؟ وتختلف الإجابات بقدر استيعاب النموذج السلوكي المعرفي المبني على استعارة الشيطان، لكن الحوار ينتهي عادة بأن الوسواس يحدث فيما هو أهم وفيما أحسن... ويتم الاتفاق مع المريض على تطبيق فكرة أن أنه إذا أحسن وسوس فيما أحسن، أو إذا وسوس فقد أحسن... وعليه أن يفعل شيئا واحدا هو الخطوة التالية في العبادة .. وهذا تطبيق للأمر الشرعي بإهمال الوسواس وسد في نفس الوقت لمدخله من بوابة الشك في إحسان الفعل ... الوسوسة دليل الإحسان ... وهي طريقة أشمل من استعارة القطار في التعامل مع وساوس العبادات التي ينزلق فيها المريض شكا في إحسانه الفعل فيحاول التذكر فيشك أكثر أو ربما اختار التكرار استجابة لمجرد الشك ... فحين يقال له الوسوسة دليل الإحسان فإن ذلك يشجعه على المضي قدما في خطوات عبادته.
ثالثا استعارات من الحديث النبوي الشريف تفيد في علاج وساوس العبادات:
5- لا تصلوا صلاة في يوم مرتين :
حديث : أنه صلى الله عليه وسلم قال {لا ظهران في يوم} وما رواه الدارقطني من حديث ابن عمر رفعه : {لا تصلوا صلاة في يوم مرتين} صدق صلى الله عليه وسلم، رواه أحمد وأبو داود وآخرون، يفيد ذكر هذا الحديث في كبح جماح النزعة لتكرار الصلاة بشكل قهري ... ويشرح للمريض كيف أن الصلاة المعادة والتي تكون لدفع الوسواس هي لدفع الوسواس عن نفسك وليست لله فقد تقبل الله منك صلاتك الأولى.... بغض النظر عن ما يكون بدر من أخطاء واقعية أو متخيلة لأنك مريض وللمريض رخصة وليس عليه حرج.
ومن الجميل عند قراءة شرح الحديث أن تجد اشتراط عدم إعادة الصلاة بأن يكون محمولا على إعادتها منفردا، أما إن كان صلى منفردا ثم أدرك جماعة فإنه يعيد معهم... وإذا فكرنا بما يحمل الإنسان على إعادة صلاته منفردا فأغلب ما يكون هو الشك والوسواس، وحين يصلي جماعة هو لا يكرر ما فعل لأنه هذه المرة يتبع الإمام، وفي حين أن الصلاة في جماعة تخفف كثيرا من العبء عن الموسوس، فضلا عن كونها أعلى أجرا من الصلاة الفردية، كل هذا يمنعها أن تكون قهرية....
6- حديث المنبت :
في شريحة معينة من مرضى الوسواس القهري (الديني الأعراض كلا أو جزءًا) هي شريحة المتعمقين ... أي الذين يشددون على أنفسهم في العبادات، نجد ميلا إلى الإسراف في التعبد ... غالبا مع بداية التزام الشخص بعد فترة من التفريط .... نجد ظهورا لأعراض الوسواس القهري للمرة الأولى في حياته ... وكثيرا ما تفيده مناقشة هذا الحديث وتدبر معناه خاصة إذا حدث ذلك في بداية الوسوسة، ومن اللافت للنظر أن عددا لا بأس به من الموسوسين المتعالجين من فرط العادة السرية و/أو إدمان الإباحية أو الاضطرابات ذات العلاقة بالخطل إلى جانب الوسواس القهري يتميزون بنوبات دوروية من الانفلات الجنسي مقابل نوبات من التعمق الشديد في الالتزام الديني بعد التوبة التي لا تكاد تستمر أسبوعا أو اثنين وترسل المريض مرة أخرى لنوبة انفلات ... وكأنها حالة فريدة يرى الطبيب النفساني فيها المريض في نوبة التزام ووسوسة عبادات تعقبها نوبة انفلات وأحيانا إهمال عبادات....، فهو في الأولى متعمق إلى درجة الالتزام بصلاة الصبح في المسجد وبجداول المحاسبة اليومية، وفي الثانية لا يكاد يجد الوقت للاغتسال والصلاة منغمسا في نشاطه الجنسي، نستخدم مع أولئك وهؤلاء معاني هذا الحديث الشريف والذي ذكرته في كتابي الأول عن الوسواس القهري.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة: "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإن المُنبتَّ لا أرضًا قطع ولا ظهرا أبقى ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه" صدق صلى الله عليه وسلم، هكذا أخرجه البزّار عن جابر في الجامع الصغير للسيوطي، ومعنى المنبت هنا هو الشخص الذي يجهد نفسه ودابته في السير دون أن يعطي لنفسه أو للدابة ما يحتاجانه من الراحة واستعادة النشاط والحيوية ومن هنا فهو يفشل في الوصول إلى هدفه نتيجة لنفاذ الطاقة واستهلاك القدرة في نفس الوقت الذي يكون فيه قد فرط بدابته فلم يبق عليها، وكذلك الأمر بالنسبة للعبادة التي تعد سيدة الأعمال، نظرا للعلاقة التربوية والإبداعية بينها وبين الأعمال المهنية والمعيشية فإن ربطها بالإسراف والإرهاق وعدم الاهتمام بحق الجسد في الراحة والترويح أمر لا يدخل أبدا في إطار المفاهيم الإسلامية الداعية إلى العبادة وتوثيق علاقة الإنسان المؤمن بربه وخالقه سبحانه.... (أبو هندي، 2002).
تلك كانت معلوماتي وفهمي للحديث في ذلك الوقت لم يكن فهمي كما تطور حتى الآن بفعل ما رأيت من المرضى على مدار السنوات، فقرأت من الروايات المختلفة للحديث ما يجعله أقرب لمعنى العبادة من أي شيء فمنها مثلا أن النبى صلى الله عليه وسلم رأى رجلا اجتهد فى العبادة حتى غارت عيناه (أي دخلت عيناه بعمق فى وجهه وأصبحتا ذابلتين من شدة الجهد) فقال له النبى صلى الله عليه وسلم (إن هذا الدين متين –أي قوى- فأوغل فيه برفق- أى ادخل فى الدين بسهولة ولين – إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى) صدق صلى الله عليه وسلم والمنبت هو المتسرع الذى ينقطع عن أصحابه فى السفر فيسرع ويتركهم خلفه، كما وردت في إحدى الروايات عبارة "ولا تبغض لنفسك عبادة ربك" أي بالإثقال على نفسك سواء في شروطها أو طريقة أو كثافة أدائها، فما أنفع ذلك التفصيل مع تلك الحالات..... في حالات الوسواس بعد الالتزام كثيرا ما يكون الفهم والتطبيق في اتجاه تنظيم العبادات وعدم الإثقال على النفس بها خاصة في بداية الأمر... وأما في الحالات الدوروية التي أشرنا إليها أعلاه فإنما نطبق نفس المعنى "التقرب إلى الله عز وجل" ولكن من طريق آخر هو التقرب بتقليل المعاصي مثلا الاكتفاء بالاستمناء تخيلا بدلا من ولوج موقع إباحي ... على الأقل لفترة فأنت تفعل ما هو أقل حرمانية من الأكبر.... وربما تتمكن يوما من تنظيم الاستمناء.
ولحديث المنبت بالتأكيد استخدام مهم مع مرضى وسواس قهري العبادات فهم متعجلون في طلب الإحسان بشكل مرضي ومبتسر وأكثرهم يقول لك ذلك صراحة فهو الآن يرى و/أو دائما يرى إيمانه وإتقان أو إحسان عباداته هدفا هو الأهم في حياته، ويرى أن عليه الإتقان والإحسان في كل شيء ... فهدفه إرضاء الله عز وجل .... وحين ترى أنه مثلا يلزم نفسه بالصلوات الخمس في جماعة (معرضا نفسه للانتقاد أحيانا من مدرسيه) وبقراءة جزئين ومحاولة حفظ 5 آيات من القرآن الكريم يوميا، ويسبغ الوضوء ويصر على أن يتسوك ويصوم الاثنين والخميس والأيام الثلاثة البيض، فتقول له ألا ترى أنك تثقل على نفسك فيكون رده ما دمت أستطيع فلابد أفعل ! وعادة ما يكون حديث عهد بالالتزام .... وبعضهم متكرر الانفلات الالتزام... فإذا انفلت فعل كل محرم وإذا التزم شدد على نفسه وأسرف في التعمق.
ويستعان للتدليل على نفس المعنى أيضًا بما روى ابنُ عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جاءت امرأةُ عثمانَ بن مظعونَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن عثمانَ يصوم النهار ويقومُ الليل، فخرجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضَبًا، يحملُ نعليهِ حتى جاءَ إلى عثمانَ، فوجدَهُ يصلي فانصرفَ عثمانُ حينَ رأى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال لهُ: يا عثمان لم يرسلني اللهُ بالرهبانية، ولكن بعثني بالحنيفية السمحة، أصومُ وأصلي وألمسُ أهلي، فمنْ أحبَّ فطْرَتي فلْيَسْتَنَّ بسُنَّـتي، ومن سنتي النكاح" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أبي عبد الله قال: إن ثلاثَ نسوةٍ أتينَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالتْ إحداهنَّ: إن زوجي لا يأكلُ اللحمَ، وقالت الأخرى: إن زوجي لا يشمُّ الطيبَ وقالت الأخرى: إن زوجي لا يقربُ النساءَ، فخرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يجرُّ رِداءَهُ حتى صعد المنبرَ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قالَ: "ما بالُ أقوامٍ من أصحابي لا يأكلونَ اللحم ولا يشمونَ الطيب ولا يأتونَ النساء !؟ أما إني آكلُ اللحمَ وأشمُّ الطيبَ وآتي النساء، فمن رغبَ عن سنتي فليسَ مني" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا وما تزال تشبيهات وربما استعارات أنتبه إليها وأسجلها أثناء العمل مع الموسوسين، لكنني أجد بعضها مجرد تكرار معنى لتشبيهات أو استعارات من قواعد فقهية ذكرناها من قبل مثل أن تقول: "النجاسة لمن يعلم بها ... ولا نجاسة لمن يعلم" ! فهذا تكرار لقاعدة "لا تنجيس بالشك" والتي وضحناها في المقال الرابع، لا قذارة أو لا اتساخ إلا بعلامة (مشمومة أو مرئية)... فهذا قياس على أقوال الفقهاء في اشتراط اليقين بعلامة النجاسة كما ذكرنا أيضًا في ذلك المقال.... أعدكم على كل حال إن تجمع لدي ما يكفي لاستدراك ثانٍ أن أنشر في الحال.
واقرأ أيضًا:
احتياطات الأمان، سلوكيات التأمين والوسواس القهري / العلاج السلوكي للوسواس القهري3 / وسواس التلوث والتنظيف : علاج الغسيل القهري1