أسس تحديد نظام الحوافز المادية
الفصل الثامن عشر
متى كان العامل مطمئنا على صحته وعمله ومستقبله وأولاده وبعيداً عن الخوف يكون بحالة أمن كلي ومحاط بضروب مختلفة من التأمينات الاجتماعية ضد حوادث العمل وأمراض وأخطار المهنة والشيخوخة والبطالة والوفاة فالعدل أساس الأمن؛ وينعكس ذلك إيجابياً على العامل، والشعور بالأمن شرط ضروري من شروط الصحة النفسية السليمة، وإذا كان أمن الفرد أساس توازنه النفسي فأمن الجماعة أساس كل إصلاح اجتماعي, وقد أشارت البحوث إلى علاقة الحوافز المادية والمعنوية بصحة العامل النفسية وزيادة إنتاجه.
دوافع العمل الاجتماعية
أن يكون الفرد موضع تقدير واحترام واعتبار من الآخرين، وأن تكون له مكانته الاجتماعية وبمنأى عن نبذ المجتمع، أي شعور الفرد بأن له قيمة اجتماعية، وأن وجوده وجهوده لازمان وضروريان للآخرين، كما أن الثناء وحب الفرد للظهور والشهرة بين الناس من الدوافع القوية للتميز في مجال عمله. إن التقدير الاجتماعي يعزز الشعور بالأمن وهو من شروط الصحة النفسية.
العمل والحاجة إلى التقدير
يطلق عليها أيضاً حاجات "الانحياز" لأنها تتضمن تكوين علاقات مع الآخرين مثل هذه العلاقات تشمل الحب والرضا والقبول والصحبة والمكانة الاجتماعية.
لقد ذكرني سياق الكلام السابق كله بنصيحة لشوقي لخصها في بيتين:
يقول شوقي:
وكن في الطريق عفيف الخطى شريف السماع كريم النظر
وكن رجلا إن أتوا بعده يقولون مر وهذا الأثر
العمل والحاجة إلى تحقيق الذات
من أجل حفظ وتكامل الأنا يدفع الفرد إلى تحقيق إمكاناته وطاقاته أي يضعها موضع الإنجاز والإكمال، وتحقيق مستوى الطموح الذي وصفه الشخص خلال مفهوم الذات الذي كونه لنفسه، والمجهود الذي يشبع هذه الحاجة يتوجه نحو السمو والتحصيل, وهي الحاجة التي تدفع الفرد للتعبير عن ذاته وإثبات شخصيته وتحقيقها، وأن يقوم بأعمال نافعة ذات قيمة للآخرين من خلال القيام بعمله الموكل إليه، يقول عمر بن الخطاب (رضي الله عنه وأرضاه): "من يأكل ولا يعمل موتُهُ خيرٌ من حياته، وعَدَمُهُ خيرٌ مِن وجوده".
دوافع الاستقرار والإنجاز في ضوء نظرية "هيرزبرج"
يرى هيرزبرج أن الدوافع التي تحفز على العمل تنقسم إلى قسمين:
1- دوافع الاستقرار: أي حاجة العمال في المجالات المختلفة ليشعروا بالاستقرار في أعمالهم، وليشعروا أيضا بأن هناك عدالة في المعاملة، ولا توجد تفرقة من حيث الترقيات أو استحقاق العلاوات، وكذلك الاستقرار من ناحية المستقبل، وما يحدث لهم في حالة وقوع حادثة ما أو في حالةٌ الإصابة بأي مرض.
2- دوافع الإنجاز: وتتمثل بشعور العامل في أنه يؤكد ذاته في عمله من خلال ما يقدمه من تحسينات وابتكارات أو اختراعات فيه؛ أي إحساسه وشعوره بأن ما يقوم به من عمل يتوافق مع الأهداف المرسومة لوطنه.
أهم نقاط نقد نظرية "هيرزبرج"
قام "إدون" بتوجيه نقد لنظرية "هيرزبرج"، حيث تمثل نقده في نواح تتصل بالمهن المدروسة والأماكن التي جُمِعت منها البيانات واستخدام أداة واحدة لقياس الاتجاه وثبات وصدق البيانات، وفيما يلي نتناول كل هذه النواحي كما جاءت في هذه الدراسة:
أ- قلة الأعمال المدروسة: فدراسة "هيرزبرج" اقتصرت على أعمال المهندسين والمحاسبين، وهي تمثل عينة صغيرة فقط من الأعمال التي يجب أن تُدرَس.
ب- الأماكن التي جُمِعت منها البيانات: وصل عددها لتسعة أماكن فقط، وبالإضافة لذلك فإن البيانات في هذه الأماكن اعتُبِرت مجموعة واحدة، مع إهمال تأثير الفروق بين تلك الأماكن.
ج- التعميم من خلال التاريخ: فقد حاول "هيرزبرج" ومعاونوه تعميم اكتشافاتهم بتتبع تاريخ العمل الإنساني، وأوضحوا أنه يمكن تفسير ظواهر تاريخية متعددة من خلال نظريتهم, ولا يعتبر هذا محكماً كافياً لتعميم النظرية.
استخدام مقياس واحد لقياس التوجه نحو العمل: إذ استخدم "هيرزبرج" مقابلة شبه محددة لقياس التوجه نحو العمل، وهذا يكون مقبولاً عندما يقوم الباحث بعمل دراسة مكثفة.
أحذر إدمان العمل
إنني أذكر الكلام التالي نقلاً عن ما يجري في الدول الصناعية الكبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا واليابان، وليس الذي يحدث لمعظم البالغين والقادرين على العمل في أقطار أمتنا؛ حيث يكون متوسط عمل الشخص يومياً حوالي ثلاثين دقيقة كما جاء في بعض الإحصائيات، فأي كسل وأي تنبلة يعيشها شباب الأمة؟!، ثم نلقي باللوم على الآخرين ونتهمهم بأنهم هم السبب في تخلفنا لتآمرهم على شباب أمتنا!، وصدق من قال: "توجد في طريق العظمة خمسة موانع: الكسل، وحب النساء، وانحطاط الصحة، والاشتياق إلى الوطن، والإعجاب بالنفس".
أما في الدول المتقدمة، وعلى النقيض من حالنا فيتعرض الكثير من العاملين هناك للإصابة بأمراض معينة نتيجة لقيامهم بالعمل الإضافي خلال أيام العطلات الأسبوعية والإجازات، بل وبعد انتهائهم من القيام بأداء ساعات العمل الأساسي المُحدَد لهم يومياً، وبالتالي يُحرمون من الاسترخاء وقضاء أوقات ممتعة، ويرى العلماء في هولندا أن مثل هؤلاء الأشخاص قد يعانون من حالة مرضية جديدة تعرف باسم "مرض أيام الإجازات".
الشعوب بين إدمان العمل والتهرب منه
لكي نوفر لأنفسنا كل الممتلكات التي نود اقتناءها، والتي يتوقع أبناؤنا أن نوفرها لهم؛ يجب أن نعمل، ونكد في العمل، سوف تجد اليوم على الأرجح أن كلا الوالدين في الأسرة الثنائية (أي التي تضم الأب والأم) يعملان؛ ويكون العمل عادة بدافع الحاجة، وليس الاختيار، كما أن هناك عدداً متزايداً من النساء من ذوات التخصص اللاتي يتطلعن إلى العمل.
وتشير التقارير الدولية إلى أن عدد العاطلين عن العمل في الوطن العربي بلغ 16 مليون شخص ويتوقع أن يصل إلى 80 مليون شخص بحلول 2020 ، وهذا رقم كبير جداً، وكما تعلمون فإن أزمة البطالة هي محور أزمات المجتمعات العربية، خاصة وأنها ترتكز بشكل أساسي في فئة الشباب وتتسبب في معظم أزماته ومشاكله التي قد تؤدي به إلى الانحرافات، الفكرية والسلوكية والعاطفية؛ وصدق من قال: "لو زرعت (لو)، و(ليت) سينبت لك لاشيء"، وفي المقابل لذلك، فإننا في بعض الأوقات قد نجد شخصا يعيش حياته كلها لعمله!، وقد نجد أنفسنا في وضع نشعر فيه وكأن العمل هو الذي يقودُنا، ولسنا نحن من نقوده، ولعل هذا هو سر الأهمية البالغة للإجازات، وعطلة نهاية الأسبوع. إن كنت تعمل بشكل متواصل، فسوف تفقد إحساسك بنفسك، وتُنهَك جسدياً ونفسياً، وسيكون الجسد في معظم الوقت في وضع "الهجوم أو الانسحاب"، كما أن مشاعرك سوف تكون موجهة صوب أهداف العمل، وسوف تتعامل مع أي شيء يقطع عليك تقدمك صوب الهدف بوصفه دخيلاً.
لقد وجد الباحثون في جامعة تيلبيرغ الهولندية بعد متابعة 1128 رجلا و 765 امرأة أن 3 في المائة من الأشخاص يعانون من المرض ويشكون من مشكلات صحية مختلفة بمجرد توقفهم عن العمل والرغبة في الاسترخاء فيصابون بأعراض مثل الدوار والتعب والغثيان وآلام عضلية متفرقة وحالات شبيهة بالزكام والأنفلونزا خلال أيام الإجازات.
وأرجع العلماء هذه الشكاوى المرضية التي تصيب الأشخاص الذين يحسون بقدر عال من المسئولية والمفرطين في العمل إلى إصابات التوتر وصعوبات التكيف مع الإجازات والعطلات والاستراحات مشيرين إلى أن للصفات الشخصية أهمية بالغة خصوصا عند الأشخاص الذين يجدون صعوبة في الحصول على الاسترخاء المطلوب.
يتبع >>>>>>>>>>> أضرار إدمان العمل