مدى تأثير الإعلام والعولمة في ضياع هوية أبنائنا؟!
الفصل التاسع عشر
وفي هذا الجو أيضاً ولد "البطل العبثي" الذي لم يجد في الحقيقة قيمة يتشبث بها حسبما صور له وهمه، فلا هو نعم بالإيمان الموروث، ولا هو ابتدع بناء خلقياً جديداً، بل لم يجد أي جدوى من هذا أو ذاك، فانطلق دون وعي أو منهج، واعتبر اللا فلسفة، وكيف لا يفعل ذلك وهو يرى أن العشوائية والفوضى تسود كل ما في الوجود، وأن الموت قادم لا محالة، وأنه ليس وراء الموت شيء، هذا الخلاص المزعوم جعله يتخبط ويمارس حياته في طيش وجنون، بعد أن عطَّل وظيفة الضمير، وأغلق قلبه وعقله عن فهم الحياة على وجه صحيح (وخير مثال على هذا البطل ما نراه من أبطال السينما المصرية في وقتنا الحالي كالليمبي، وأبطال عمارة يعقوبيان).
وكفر البطل الرومانسي بالعقل، وتشبث بحرقه العواطف وتهويماتها، وأخذ يتغنى بحرمانه وعذابه وأساه، واستعذب ذلك التوهم، وغرق في بحوره العاصفة، دون أن يحاول الخروج من هذا الكابوس الرهيب (وخير مثال عليهم أبطال أفلام الخمسينات والستينات بمصر)، وكان البطل في إطار المادية والفرويدية والطبيعية وليداً للتقدم المادي الخارق في مجالات العلم والصناعة والتقنية، فهذا البطل لا يؤمن إلا بما يراه ويحسه ويسمعه أو يتذوقه، وليس وراء عالم الحواس شيء آخر، ولم يعد للجانب الروحي أو الميتافيزيقي في الإنسان قيمة يعترف بها علميا، مادام خارج التصور المادي للحياة، ولا يمكن قياسة بالمقاييس، أو إثباته في أروقة معامل الكيمياء والفيزياء والبيولوجيا والفسيولوجيا وغيرها (وخير مثال على ذلك أبطال أفلام السينما الأمريكية).
كانت الفلسفة والأدب في القرون الثلاثة ـأو الأربعةـ الأخيرة يسيران جنباً إلى جنب، واحتدمت حرارة الحوار، وبالتالي حرارة الصراع بين المدارس المختلفة للفكر والفن، بل في إطار المدرسة الواحدة كانت تخرج تيارات فرعية، تثير من الجدل والصراع في داخل المدرسة الواحدة، أكثر مما تثير مع المدارس الأخرى المخالفة ويكفي أن نشير إلى التيارات والمدارس الفرعية التي تولت عن الواقعية أو الرمزية أو الرومانسية مؤكدة في هذا البحر الهائج من الفلسفات والاتجاهات والتفسيرات، بل أن الدارس أيضا يقف مذهولاً وهو يقرا تاريخ تلك المدارس، وكيف سطعت وترعرعت، ثم كيف أخذت تتمزق وتذبل، ثم كيف يحكم عليها بالخطأ.. بل بالفناء، وقد يكون الأمر مقبولاً بالنسبة لاتجاهات فنية وتتوهج ثم يهال عليها تراب النسيان، أما الفلسفات ـ وهي عادة تقوم على أسس أدق وأعمق ـ فإن الأمر يعتبر غريباً، وخاصةً أن بناتها عرفوا بالتفكير المنهجي، والدقة في البحث، والتأني في الوصول إلى النتائج.
ولم يخل الأمر من وجود تيارات دينية فنية وفكرية في أوربا أبان ذلك الصراع المحتدم، حيث ظهرت فئة من رجال الدين المسيحي تبنوا قيماً دينية وأخلاقية، وصاغوها في إطار فلسفي، ونجح منهم فنانون وأدباء في تقديم نماذج قادرة على التصدي والذيوع، لكن الزحف المادي الجديد كان أقوى من أن يتراجع أمام الأدب المسيحي المدافع.
في هذا الجو المشحون بالجنون الفكري والفن، أصبح لشخصية (البطل) في الآداب الأوروبية الجديدة سمات وملامح تعبر بقوة عن هذه التيارات الصاخبة، التي كانت ومازالت غير قادرة على الرسوخ والصمود، وبدا البطل بصفة عامة ـكإنسان العصرـ غريباً، هذه الغربة المحزنة وصمت البطل، وجعلته ساخطاً رافضاً متمرداً، لا يعرف الطمأنينة والاستقرار، ولا ينعم بالسعادة ولا ينعم بالحب الحقيقي، إنه يعاني الأرق والاكتئاب، والوحدة والعجز، عن خوائه الروحي، وإمكاناته المحدودة، وخضوعه لسيطرة الآلة، ودورانه في ساقية المطالب المعيشية الآنية، قد أفرغت كيانه من مقومات القوة، وإن فقره العقائدي قد جرده من أهم أسلحة معركة الحياة، ذلك هو البطل المعاصر في الآداب الأوروبية، بل وفي آداب الشرق التي تقلد وتعيش عالة على التراث العلمي والتكنولوجي والفكري للغرب.
بطل يائس، يتغنى بيأسه، ويقدم التراتيل والصلوات المرذولة بطل متمرد رافض، قد تنكر لكل شيء، فمات بين جوانحه الأمل بطل منطوٍ منعزل، تقطعت روابطه بدفء الأخوة والصداقة، فأصبح في التيه وحدة، بطل هارب إلى الحانات والمراقص والموسيقى المجنونة، يغرق تعاسة في الخمر والمخدات والشذوذ، ويمضي مختاراً إلى حيث الفناء، بطل غارق حتى أذنيه في الوهم، يخدعه الساسة، وتخدره الفنون، ويصنعة الإعلام دمية تتحرك حسب الأوهام والأهواء بطل بلا فضيلة (من أمثال مايكل جاكسون).
ولو كان هذا الإنسان مدركاً حقاً لمأساته، راغباً في التخلص منها، لهان الأمر، لكن تراكم الترهات والخداع، واستغلال (العلم) فيما يُقدم من تحليلات وتفسيرات، قد زاد الطين بلة، وأكد أن الكارثة باقية، فالبطل لا يعرف أنه مريض ويحتاج إلى علاج، وهكذا تمضي الفنون بالإنسان التعس من متاهة إلى أخرى.
والآن، بعد أن استعرضنا صورة البطل في الآداب المعاصرة، فما هو التصور بالنسبة للبطل في الأدب الإسلامي؟؟
إننا لن نجد صعوبة تذكر في وضع التصور الملائم لذلك، فالبطل ـإسلامياًـ هو (القدوة) أو النموذج أو المثال الحي، الذي تتجسد فيه القيم الإسلامية، هذه ناحية هامة، لكنها لا تغلق الباب أمام (نماذج) الضعف البشري، أو البطولة الناقصة التي تحتاج إلى تجربة ومعاناة وهي في طريقها إلى النمو والاكتمال، وهذا دور هام لا بد وأن يختفي به الأدب الإسلامي، فما أكثر النماذج المشوهة أو الجانحة أو المنحرفة، وهي طبيعة كل مجتمع قديماً وحديثاً، وشرقاً وغرباً، بل ربما كانت هذه النماذج الناقصة أكثر جاذبية بالنسبة لحامل القلم، لكنه يجد فيها مادة خصبة للمعالجة ومحاولة إخضاعها للعديد من العوامل والمؤثرات أو الأحداث حتى تحقق من خلال نموها وتطورها بأسلوب مقنع ليصل إلى المثال المطلوب، أو القدرة المنشودة، لأن مهمة الدعاة ليست قصراً على النماذج الصالحة الطيبة وحمايتها من الانزلاق فحسب، ولكن المهمة الأكبر تكمن في استنقاذ الجانحين، وإصلاح الفاسدين، وفتح باب الأمل اليائسين أو المترددين، والأخذ بأيدي التائهين إلى طريق الحق والخير والجمال، البطل في العمل الأدبي الإسلامي هذا، وذاك، لأن الخروج من المأزق بطولة، وكذلك التخلص من سلبيات السلوك، وهواجس الضعف، الضعف، وإغراءات الحياة الزائفة، والانتقال من حال متردية إلى حال متسامية، والخروج من السلبية إلى الإيجابية، والتخلص من أدران الشك والخوف والتسيب، والقدرة على بدء حياة نقية جديدة، كل هذا يعتبر ضرباً من البطولة، الجديرة بالإبراز والتمجيد لأنه يعني انتصار الخير على الشر في قلب الإنسان أولاً، وفي معترك الحياة ثانياً، ومن هنا كانت التوبة التي أنعم الله بها على المسلم، وجعلها باباً مفتوحاً حتى نهاية الحياة.
يتبع >>>>>>>>>>> البطل في الأدب الإسلامي