الفصل التاسع عشر
إن فنان فرنسا الضاحك "موليير" كان حريصا أشد الحرص على أن يرضي الناس ويضحكهم قبل أي شيء آخر، حيث كان يرى أن القاعدة الكبرى أو قاعدة القواعد هي أن تفوز من الناس بالرضا وحسن القبول، وكان يقول أضحكوا أولا من قلوبكم ثم فكروا بعد ذلك فيما أقدمه لكم وأعرضه عليكم.
وقد كان الطب في عصر موليير متخلفا، وكان يرى أن الأطباء يتعمدون التحدث باللغة اللاتينية حتى يظهروا أمام الناس بمظهر متعال ومتكبر، وهكذا قام "مولير" بشن حملة عنيفة على الأطباء وأضحك الناس عليهم وجعل منهم سخرية على كل لسان.
وقد كان موليير يهاجم مهنة الطب بغير رحمة، وقد وصف بطل مسرحيته "دون جوان" بأنه فاجر في الطب، ورأى أن الطب من أكبر الكائر والجرائم الإنسانية، وكان قد عانى بنفسه ما في أطباء عصره من قصور وغرور، وخيل إليه أن الأطباء قتلوا ابنه الأول حين وصفوا له حجر الكحل لعلاجه من حالة التدرون الرئوي والذي مات بسببه، وقد كان اعتقاده أن العلاج الخاطئ للأطباء هو السبب في وفاته.
وقد كان هناك موقف لموليير والذي كان على علاقة طيبة جدا مع طبيب خاص له، وقد توسط لدى الملك ليجد وظيفة شرعية لابن هذا الطبيب، وقد شرح موليير كيف كان الانسجام بينه وبين هذا الطبيب إلى حد بعيد (بطريقة تهكمية) حيث يقول إننا نناقش الأمر ويصف صديقي الطبيب الدواء المناسب لي وأنا أمتنع عن تناول هذا الدواء فأحصل على الشفاء، ومن هنا نصل إلى مرحلة انعدام الثقة التامة بالأطباء عند موليير.
لا يوجد بين الصفات الإنسانية أجمل من صفة البساطة، فهي تعكس وضوح في التفكير وصفاء في النفس وتهذيب في السلوك وتواضع كريم في التعامل مع الآخرين، والبساطة في حد ذاتها ليست صفة بسيطة، فلا يمكن أن يصل إليها الناس إلا بعد جهد وثقافة ومقاومة شديدة لإغراء الإدعاء والتظاهر والتعالي والرغبة في لفت الأنظار بصورة مستمرة، ونقيد البساطة هي الحذلقة، وهي تقوم على الغرور والافتعال في كل شيء.
والمجتمعات الإنسانية التي يسودها الاضطراب وتعصف فيها الأخلاق وترتبك فيها مقاييس الأشياء ويسيطر عليها الكذب والنفاس وتتعقد فيها مشاكل الحياة دون أن تجد حلا ميسورا لها هي كلها مجتمعات تسودها صفة الحذلقة وتختفي منها صفة البساطة لأن الناس في مثل هذه الأحوال الاجتماعية المضطربة لا يؤمنون بشيء ولا يصدقون ما يسمعون ولا يجدون طريقة للحياة سوى الخداع والتظاهر بما لا يملكون، وهنا تسود الحذلقة، والتي يظن أصحابها أو من يتبعون هذا المذهب أنهم من الطبقة الراقية في المجتمع الذي يعيشون فيه، وتلك هي الظاهرة السخيفة التي اصطدم بها فنان فرنسا "موليير".
وكان والد موليير يعمل خادما في بيت أعظم ملوك عصره "لويس الرابع عشر" وبالتالي ورث موليير تلك المهنة عن أبيه، إلا أنه استقال ليتفرغ لفنه الجميل، مما أصاب كل من حوله بالدهشة، حتى أن والده اعتبر ذلك سذاجة بالغة من ابنه، وكان موليير نبيل القلب والعقل وكان موهوبا، وكان ذو عزة وكبرياء وشهوة للقتال ضد كل ما في الحياة من سخافات، حيث أنه الذي رفض الاستمرار في خدمة أعظم ملوك عصره ورفض أن يكون خادما في بلاط الملك وقبل أن يكون خادما في بلاط الإنسانية كلها، قد يكون الإنسان كناسا راضيا عن نفسه منسجما مع ضميره على أن يكون إمبراطورا مليئا بالغضب على نفسه.
وفي عصره كانت إحدى السيدات الأرستقراطيات قد عادت إلى فرنسا نتيجة مرض ألم بها، وقد تفتق ذهنها إلى دعوة كبار الشخصيات والعلماء إلى صالون بيتها لتبادل الآراء الناجحة سواء في السياسة أو الأدب أو المجتمع، ومن هنا نشأت فكرة الصالونات وانتشرت انتشارا كبيرا في ربوع فرنسا كلها، إلا أنها بدأت تأخذ منحنى آخر مختلف عن كل ما كان متوقع منها، حيث بدأت النساء في الثرثرة والنميمة ونسيان أصل انعقاد تلك الصالونات، ومن هنا وقف موليير موقف رجولي متحضر ليقول فيها لنساء باريس وفرنسا كلها "عيب يا بنات"، فكتب مسرحيته الشهيرة والقصيرة والضاحكة وأطلق عليها اسم "المتحذلقات"، فضجت فرنسا كلها بالضحك، وكانت سطوة المتحذلقات في باريس قوية فصدر قرار رسمي بمنع المسرحية بعد عرضها بأيام.
يتبع >>>>>>>>>>> الاعـتـدال