الفصل التاسع عشر
أيها الآباء والأمهات من واقع ملاحظاتكم ونظراتكم الصامتة لأطفالكم؛ ستجمعون على أن ليس هناك لفظ يليق أن يوصفوا به سوى الجنون والحركة الدائمة المستمرة؛ فهم كتلة مشحونة بالطاقة والحيوية، فكما لا يمكننا أن نتخيل نمو النبتة بلا جذور كذلك لا يمكن أن نتوقع النمو العقلي والجسمي للطفل بلا حراك أو نشاط!، إذ أنه لا يمكنه التعرف على الحياة وأسرارها واكتشاف عالمه الذي يعيش في أحضانه إلا عن طريق التجول والسير في جوانبه، وتفحص كل مادي ومعنوي يحتويه، والتلفت يمنة ويسرة للإحاطة بكل ما حوله والتعرف على ماهيته، وحيث أن الله تعالى خلق فينا حب الاستطلاع، والميل إلى التحليل والتركيب كوسيلة لإدراك كنه هذا الكون فإن هذه الميول تكون على أشدها عند الطفل.
وإذا كان حب الاستطلاع والاستكشاف يلازمنا نحن الكبار حتى لحظتنا هذه التي نحياها، بل ويلازم كل فرد طوال رحلة حياته حتى يلقى وجه ربه، فما بالنا بالدرجة التي يحتلها هذا الجانب في لب الطفل ووجدانه وهو الكائن الذي هلَّ وجهه على هذه الدنيا مؤخرًا، ولم ينل بعد الفرصة الكافية لإشباع ذاته بالخبرة التي تشعره بالأمن والطمأنينة في عالم جديد لم يتعود عليه من قبل، وما دام الأمر كذلك فنحن مطالبون بأن نفسح المجال، ونفتح الطريق أمام فلذات أكبادنا ليتمكنوا من تنمية كافة جوانبهم الجسمية والروحية والعقلية، تلك الجوانب التي ترسم الإطار السوي لشخصية كل إنسان.
ما سبق ذكره ما هو إلا هدف تربوي يتصل اتصالاً وثيقًا بقضيتنا المطروحة ولا يتحقق إلا من خلالها، وبأخذها في الحسبان باعتبارها واحدة من آلاف المواقف التي تخدم هذا الهدف التربوي؛ الذي هو أهم ما يسعى كل فرد لتحقيقه ليتمكن من التكيف في هذه الحياة.
إننا حين نطالب بتوفير ساحة واسعة الأرجاء يُمنح الطفل فيها حرية النشاط والانتشار؛ لتشكيل شخصيته وتنميتها في البيت والمدرسة والنادي والشارع وكل مكان ويسمح له بتكوين خبراته عن طريق اختلاطه بمن حوله في تلك الأماكن، فليس لنا الحق في أن نسلط له الضوء الأحمر في المسجد أو الكنيسة، وأن نقف سدًا منيعًا يحول دون تحقيق دار العبادة دوره الذي أصبح يقتصر الآن على تحقيق أهداف دينية تنمي الجانب الروحي في ذاته وشخصيته.
البعض منا يجنب أطفاله دخول المساجد مطلقًا حرصًا على راحة المصلين، وحفاظًا على استمرارية الهدوء فيها، والبعض الآخر دائم الاهتمام باصطحاب أطفاله إلى دار العبادة بالجسد دون الروح؛ فهو قد هيأه مادياً لا معنوياً، فحرمه من الخبرة اللازمة والتهيئة الضرورية التي تحفظ للمسجد قدسيته وحرمته، والتي كان من الواجب أن تحتل مكان الصدارة في ذهن كل أب وأم ليمدوا به أطفالهم قبل أن يأخذوا بأيديهم إلى أبواب دور العبادة، فهم لم ينيروا الطريق أمام أبنائهم بتوجيهاتهم الرشيدة ليقتبسوا منها سلوكاً قويماً يهتدون به ويتصرفون بمقتضاه في هذا المكان الطاهر، وبذلك نجد أنفسنا أمام صنفين من الآباء والأمهات؛ هما كطرفي نقيض: صنف أغلق الأبواب وحال دون وصول الأطفال إليها، والآخر فتحها على مصارعها وأتاح للصغار حرية مطلقة لا تحكمها حتى مجموعة من المبادئ والقيود.
أذكر أنني كنت في إسطنبول عاصمة تركيا في صيف عام 2005 ، وكان بجوار المكان الذي أسكن فيه مع أسرتي مسجد جميل ذو مئذنة انسيابية شاهقة، رائعة الزخارف ، ويحيط بالمسجد حديقة غناء، بها عدد لا بأس به من المقاعد الخشبية تظللها بعض الأشجار وارفة الظلال، ويحيط بهذه الحديقة الجميلة، سياج من الأعمدة الحديدية، يتخلله عدداً من الأبواب المفتوحة دائما في أوقات النهار، ويجلس على تلك المقاعد بعض الشباب كبار العمر بين الصلوات، وهذا هو طراز معظم المساجد في هذه المدينة الطيبة، وبدافع من الإعجاب بالمنظر الخارجي لهذا المسجد قررت أنا وأسرتي الدخول في وقت الضحى للصلاة؛ فوجدت بالداخل حوالي ستة أولاد و خمس بنات تتراوح أعمارهم بين خمسة إلى عشرة أعوام، وكل منهم بيده مصحف على حامل يقرأ القرآن فيه في سكينة وهدوء، وجال في خاطري عندئذ حجرات الكتاتيب في مدننا وقرانا، والتي غالبا ما كانت تُلحق بالمساجد، ويتنافس أهالي كل منطقة في إرسال أبنائهم وبناتهم إليها؛ ليحفظوا القرآن وهم صغار العمر عن ظهر قلب، ويتعلموا مع القرآن قواعد القراءة والكتابة، وذلك تمهيدا للالتحاق بالمدرسة الابتدائية أو المدارس الأزهرية، وتحسرت على حال الشباب بل أقول الكهول في بلدي مصر، وأنا من هؤلاء الكهول، وللأسف فأنا لم أر الكتاتيب، ولكنني قرأت عنهم في السيرة الذاتية للدكتور طه حسين في كتابه الأيام، كما سمعت عنهم من أبي وجدي رحمهما الله تعالى، ولا أدري إلى الآن لماذا قامت إدارة ثورة يوليو في مصر بإصدار قرار يحظر من بناء مثل هذه الكتاتيب؟؟!!!؛
إن الراصد لحركات الجماعات الدينية في مصر يستطيع أن يلحظ العلاقة الوطيدة بين جهل المراهقين وصغار الشباب بأحكام الدين وبين انضمام هؤلاء الشباب والشابات إلى جماعات دموية الفكر وشديدة التعصب، سواء أكان هذا التعصب والتطرف في اتجاه الدين أو في الاتجاه المعاكس من أمثال جماعات عبادة النار وعبادة الشيطان وغيرهم، وأقول أن الفكر الديني الوسطي المعتدل هو خير وسيلة لمحاربة الإرهاب والتطرف، ولكن على حكوماتنا أن تبذر بذور هذا الفكر الوسطي المعتدل في مراحل مبكرة من عمر أبنائنا وبناتنا، وفي المساجد والكنائس على حد سواء.
فأمة الإسلام أمة وسطية، وديننا يميل إلى التوسط في الأمور كلها فليس هناك من النصوص الشرعية ما يمنع من دخول الأطفال للمساجد، حتى ولو لعبوا وأحدثوا ضخبا وضجيجا بين الصلوات!، فواجب الكبار العقلاء هنا هو التوجيه المباشر وغير المباشر، وسيأتي الوقت الذي يستجيب فيه الطفل كثير الحركة والتجوال في المسجد لتوجيهات ونصائح الأكبر منه عمرا وعقلاً؛ ولقد ورد الكثير من الأحاديث التي يُستدل منها على جواز إدخال صبياننا المساجد: من ذلك ما رواه البخاري عن أبي قتادة قال: "خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم وأمامة بنت العاص على عاتقه فصلى فإذا ركع وضعها وإذا رفع رفعها"، وأيضًا ما رواه البخاري عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه،" وكذلك ما رواه البخاري عن عبد الله بن عباس –رضي الله عنهما- قال: "أقبلت راكبًا على حمار أتان؛ وأنا يومئذٍ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف فنزلت وأرسلت الأتان ترتع ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك علي"، وإذا كانت هذه هي الأدلة النقلية التي تهتف بنا قائلة: "دعوا أطفالكم يدخلون المساجد" وكفى بها أدلة تجعلنا نبادر بالخضوع والاستجابة لهذا النداء.
وكذلك الأمر بالنسبة للكنائس؛ حيث نرى في مصر مثلا تدافع الأطفال والمراهقين المسيحيين على حد سواء لحضور القداس في صباح يومي الأحد والجمعة من كل أسبوع، والأكثر من ذلك أننا نرى في الساحات الخارجية لبعض الكنائس أماكن للعب الأطفال والشباب مثل كرة الطاولة وغيرها من الألعاب المناسبة للمكان؛ وهذا في الحقيقة خير كثير؛ لأن البديل مر كطعم العلقم، مثل الانجذاب لرفقاء السوء في الشوارع والأزقة والحارات، مع انعدام الرقابة من الناضجين العقلاء، وما يتبع ذلك من الانزلاق إلى مساوئ الأخلاق قولا وفعلا؛ لذا هذه دعوة صريحة لارتباط النشء بدور العبادة منذ نعومة أظفارهم، حتى وإن أحدث الصغار منهم بعض الضوضاء والمشاغبات في بداية الأمر؛ فواجب علينا نحن الكبار تحملهم، لأن هؤلاء الأطفال الصغار هم من سيحملون راية الانتماء لمجتمعاتنا وثقافاتنا في غضون سنوات معدودات قادمات، وكما نعلم ونحس ونشعر بأن العقود القادمة حبلى بالأحداث الجسام!!، فمن الواجب علينا بعد أن لمسنا ورأينا مدى المعاناة التي يواجهها سكان الأراضي الفلسطينية والعراقية المحتلة من المسلمين والمسيحيين على قدم المساواة؛ أن نُعِدََّ الأجيال القادمة لتحمل الصعاب المتوقعة، ولن يكون ذلك أبداً إلا بتعميق إحساسهم وشعورهم بهويتهم الدينية، أيا كانت؛ فقد نبعت الأديان السماوية اليهودية والمسيحية والإسلام من منطقتنا، وأنارت تلك الأديان دُجى الظلمات في ربوع الأرض، حيث تدفق المبشرون أيضا بهذه الأديان من منطقتنا لنشر تلك الأنوار والأخلاق السماوية الرفيعة الراقية في جنبات الأرض، وفي كافة الاتجاهات الجغرافية الأصلية منها والفرعية.
يتبع >>>>>>>>>>> كيف تصنعين طفلاً يحمل هم دينه؟