وسواس العد القهري Compulsive Counting
يتميز هذا العرْض Presentation لاضطراب الوسواس القهري (و.ل.ت.ق) بأن القهور فيه تؤدى لتقليل شعور اللااكتمال أو اللاصحة أو إ.ل.ص.ت والضيق بهذا الشعور، ونادرا ما يكون القلق أو الخوف هو الانفعال المصاحب مثلما نجد في حالات وسواس التلوث الغسيل القهري (و.ت.غ.ق) أو وسواس الشك التحقق القهري (و.ش.ت.ق)، وهي عروض الوسواس القهري التي درست كثيرا ووضعت لها نماذج معرفية تبين الخصائص المعرفية التي تهيئُ المرضى وصممت لها طرق علاج أشهرها التعرض ومنع الاستجابة (ت.م.ا) وهدفها كلها هو اعتياد القلق، وكان نجاحها باهرا وطويل الأثر مقارنة مثلا بالعلاج العقّاري وحده، وظلت أفضل النتائج تأتي من المزج بين نوعي العلاج على أن يكون ذلك المزج بين العقّار والعلاج السلوكي المعرفي (ع.س.م) مزجا يساعد الع.س.م ... لكن الهدف ظل دائما تعريض المريض نفسه لما يسبب الخوف والقلق ثم امتناعه عن أداء القهور تماما حتى يرى كيف من تلقاء نفسه سينخفض القلق.
إلا أنها ومنذ أشارت سمرفيلديت (Summerfeldt, 2004) إلى أهمية شعور اللااكتمال Incompleteness في مرضى الوسواس القهري وخصوصيته، وكونه من أهم أسباب الإخفاق في علاج الوسواس القهري، وأهم أسباب ما يسمى حالات وسواس قهري مقاومة للعلاج Treatment Resistant OCD ... مفسرة -وغيرها- ذلك بأنه بسبب اختصاص النماذج المعرفية السلوكية الشائعة والعاملة علاجيا بنجاح في التعويد على القلق تحاشيا للضرر وهذا لا يتوافق مع المطلوب لمناجزة علاجية ناجحة لحالات وسواس اللااكتمال التكرار القهري و.ل.ت.ق ولا للتعامل مع ظاهرة مثل إ.ل.ص.ت NJREs..... فشعور اللاكتمال قد يعكس خللاً وظيفيًا حسيًا أساسيا، وأن أولوية الأحاسيس الجسدية في اللاكتمال قد تجعل التقنيات المعرفية التقليدية أقل نجاحا في التعامل معها.
وبالفعل تلاقت خبرات العاملين في مجال الع.س.م لحالات الوسواس القهري والمتمثلة في قلة أو عدم استجابة مرضى و.ل.ت.ق للعلاج مع توقعات ومقترحات سمرفيلديت بأهمية ومحورية شعور اللااكتمال، ووجدت دراسات عديدة (Ecker & Gönner, 2008) ما تؤيده ملاحظات إكلينيكية عديدة من أن وجود وساوس التماثل/التناظر والتنسيق/الترتيب وكذا وجود الكمالية المرضية ولا تحمل الشك (ل.ت.ش) Intolerance of Uncertainty وشعور اللااكتمال أو إ.ل.ص.ت هي من أهم ما يميز من لا يكملون العلاج أو لا يستيجيبون له على الأقل بنفس المقدار كغيرهم من مرضى الوسواس، وانطلقت بعد ذلك مسارات بحثية كثيرة لدراسة شعور اللااكتمال وإ.ل.ص.ت وعلاقتها بالأبعاد المعرفية المعروفة للوسواس القهري (Schwartz, 2018) وبالأعراض وكذلك استجابتها لطرق وأساليب العلاج المتاحة، ونتج عن ذلك أن تغيرت الانطباعات الأولية وبدا أن الافتراض السائد بأن اللااكتمال لا يستجيب للعلاجات المتاحة يرتكز على ركائز ضعيفة ويستدعي فحصًا دقيقًا.
وكما في الع.س.م لأي حالة وسواس قهري تشمل العملية جانبا سلوكيا وجانبا معرفيا، فأما الجانب السلوكي فيقوم على طريقة الت.م.ا (التعرض ومنع الاستجابة) لكنه بدل أن يستهدف التعويد على القلق حتى يخفت فإنه في حالات و.ل.ت.ق يستهدف اعتياد مشاعر اللااكتمال وإ.ل.ص.ت واستبدال الضيق الناتج عنهما بمشاعر التقبل والاعتياد، أو بصورة أخرى نقول لما كانت طريقة الت.م.ا الشائعة تعتمد على استثارة مشاعر الخوف والقلق ثم الامتناع عن ممارسة القهور، فإن ما يحدث في ع.س.م لحالات و.ل.ت.ق هو استشارة مشاعر اللاكتمال و/أو إ.ل.ص.ت ثم تعلم أنها لا تضر وأنه يمكن التعايش معها (ولا يشترط حدوث اعتياد القلق) وهناك طرق فهم جديدة لآلية التعافي بالت.م.ا من خلال نموذج التعلم المُثَبِّط Inhibitory Learning Model والذي ما زال في مراحل التجريب (Craske, et al., 2014) والتطوير، وأما الجانب المعرفي فيهتم بأكثر الخصائص المعرفية ذات العلاقة بالوسواس ظهورا في مرضى و.ل.ت.ق وهي الكمالية المرضية Pathological Perfectionism، والتردد المرضي ولا تحمل الشك (ل.ت.ش) وكذلك بالتأويلات المعرفية الشخصية لمعنى وتأثير مشاعر اللااكتمال وإ.ل.ص.ت كما يراها كل مريض والعمل عليها، وبشكل عام تشمل عملية العلاج السلوكي المعرفي لحالات و.ل.ت.ق ما يلي:
(أ) التثقيف النفسي حول الوسواس القهري والنموذج السلوكي المعرفي للانفعالات أو النموذج الثلاثي أفكار انفعالات سلوك، جنبًا إلى جنب مع التحليل الوظيفي لفهم العلاقة الدقيقة بين المحفزات والأفكار والانفعالات والاستجابات السلوكية بشكل أفضل، وخلال هذه المرحلة يتم التركيز بشكل كبير على مساعدة المريض على استيعاب نموذج العلاج من خلال تطبيق كل مكون من مكوناته على الأعراض الخاصة به. ويجب أن يكون الهدف من التعرض ومنع الاستجابة في علاج و.ل.ت.ق هو مساعدة الفرد على اعتياد مشاعر الانزعاج الحسي الانفعالي Sensory-Affective Discomfort من أجل تقليل قوة هذه المشاعر على توجيه السلوك، كما يقوم المريض خلال هذه المرحلة بمراقبة سلوكياته ومشاعره وتسجيلها من أجل إعداد قائمة السلوكيات المطلوب تغيييرها .
من المهم خلال هذه المرحلة كذلك أن يتم تقييم مشاعر اللااكتمال وذلك من خلال التقييم الشخصي فبما أن اللاكتمال أو إ.ل.ص.ت هي تجارب حسية فيجب أن يُسأل المريض مباشرةً عن موضع الانزعاج أو عدم الراحة أين وكيف يشعر به عندما يكون غير قادر على أداء القهور. وهناك مقاييس التقييم بالتقرير الذاتي ومقاييس التقييم التي يطبقها المعالج وأحدثها مقياس براون للااكتمال (Boisseaua, et al., 2018)، كما يمكن التقييم من خلال اختبارات سلوك التحاشي Behavior Avoidance Tests والتي طورها المعالجون لتقييم درجة التحاشي (التجنب) التي قد تنتجها المحفزات. وفي حالات و.ل.ت.ق يكون الدافع وراء التحاشي هو غياب سلوك إضافي يكمل المهمة المطلوبة. لذا يحتاج الطبيب إلى بناء المواقف التي "يبدأها" العميل ثم يُطلب منه تركها غير مكتملة، مع تقييم مشاعر الضيق أو عدم الراحة بعد كل حالة بطريقة وحدات الضيق الشخصاني (و.ض.ش 0 - 100)، ويمكن أن تكون الاختبارات عامة جدًا مثل ترك الدرج مغلقًا جزئيًا، أو خاصة جدًا بالعميل.
ولأن مشاعر اللااكتمال في مريض و.ل.ت.ق غالبًا ما تكون طويلة الأمد وكثيرا ما تكون القهور المصاحبة منسجمة مع الأنا. فمن المتوقع وجود مشاعر متناقضة لدى المريض فيما يتعلق بالعملية العلاجية كما يمكن أن نجد تذببا في الدافع للتغيير على الأقل في بداية العلاج، لذلك من المهم أن توضع هذه المشاعر المتناقضة في إطار أنها نتيجة مفهومة للتخوف من التغيير ومدة وقوة الوسواس القهري. ومن المفيد تصحيح تصور الفرد حول الهدف من العلاج من خلال الإشارة إلى الفرق بين الاضطرار إلى القيام بسلوك ما واختيار القيام به. إضافة إلى زيادة وعي المريض بالكلفة الواقعية للأعراض، مثل تأثيرها السلبي على العلاقات والمزاج والتوظيف والخطط المستقبلية (Summerfeldt, 2004). ومن المهم بنهاية هذه المرحلة أن يتم بنجاح إعداد هرمية التعرض التدريجي، كما تشرح للمريض فكرة وحدات الضيق الشخصي أو الذاتي (و.ض.ش) بين صفر و100 ويتم تدريبه عليها .... وكذا يتم تدريب المريض على مراقبة أفكاره ومشاعره وسلوكه اليومي مع الانتباه إلى أن أهمية الإفصاح عن الوساوس المستأنسة لا تقل عن أهمية الإفصاح عن تلك المستوحشة بالنسبة للمريض، ومن المهم كذلك أن تكون الخصائص المعرفية للحالة باتت واضحة لدى المعالج.
(ب) التعرض ومنع الاستجابة (ت.م.ا)، والتي تشمل التعرض الواقعي و/أو التخيلي لمحفزات اللااكتمال و/أو إ.ل.ص.ت، مع الامتناع عن أداء قهور التكرار أو العد أو التنسيق أو التحقق أو الغسيل..... إلخ. وعادة ما يكون التعرض التخيلي مرحلة يراها المريض أقل صعوبة فضلا عن أنها تشجعه على التعرض الواقعي مع عدم القيام بالقهور بعد النجاح في التعرض التخيلي، وبعد تجارب المريض الأولى الناجحة في التعرض (حتى حدوث انخفاض مرضٍ لوحدات الضيق الشخصاني و.ض.ش في غضون 60-90 دقيقة) من المهم أن نشجع المريض إلى جانب مهام التعرض المتفق عليها حسب الهرمية على القيام بالتعرض الذاتي لمواقف أخرى غير مخطط لها يُعتقد أن لها قيمة مماثلة في إحداث عدم الراحة ومشاعر اللااكتمال، كما ينبه إلى التفكير في الت.م.ا كتغيير في نمط الحياة، بدلاً من استراتيجية خاصة بالموقف العلاجي الحالي. وأن يعرف المريض أنه كل أسبوع سيواصل القيام بالتعرض للعناصر السابقة مع إضافة العناصر الجديدة، ومن المفيد كذلك في علاج و.ل.ت.ق إعداد المخططات "اليومية"، حيث يقوم المريض بمراقبة و.ض.ش على فترات كل ساعة أثناء الانخراط في التعرض كجزء من الأنشطة اليومية، وبدلا من ممارسة ما اعتاد من قهور أو طقوس فإنه سيعتاد الفوضى والتغيير والعشوائية.... حتى أنني كنت أتفكه مع بعض المرضى قائلا : يعني اجعل شعارك في الحياة "اللهم أدمها فوضى واحفظها من النظام" !
ولابد عند التخطيط للعلاج الانتباه إلى جوانب القهور التي يجب منعها. وهذا مهم بشكل خاص في حالات و.ل.ت.ق حيث قد يكون لمعظم الأنشطة اليومية صفة قهرية، ففي هذه الحالات ذات البداية المبكرة غالبا في الطفولة غالبًا ما تنضج القهور إلى أشكال طقسية متقنة ودقيقة ويمكن أن تشمل (1) البطء الوسواسي في سلوك معين (مثلا في قراءة مستند حيبث تجب القراءة بطرقة معينة أو لعدد محدد من المرات دون خطأ مثلا، ترتيب السرير بطريقة معينة...إلخ) ؛ (2) البطء الوسواسي في سلسلة من السلوكيات؛ ويتطلب مصدر البطء (مثلا الفحص للتحقق، المراجعة العقلية، التكرار، أو الأداء الدقيق لكل مكون) مزيدًا من التحليل؛ و(3) طقوس تكرار سلوك فردي واحد أو التسلسل الشعائري لسلوكيات متعددة... وفي أغلب الحالات نجد القهور متداخلة بشكل كبير مع كل ما يمارسه المريض من أنشطة، وهو ما يعني وجوب المرونة من جانب المعالج وربما المرور بمرحلة من المنع الجزئي للطقوس أو اختصارها أو تأخيرها لمدد متزايدة بالتدريج، ولابد هنا من تعاون المريض والحفاظ على مستوى دافعية مناسب لاستمرار العمل.... والحذر من الوقوع في ما نسميه فخ التحسن الجزئي! فمما لا شك فيه أن المنع الجزئي للطقوس سيشعر المريض وأهله بالتحسن مقارنة بحاله السابق للعلاج لكن من المهم أن ينبه المعالج إلى كون هذا النوع من التحسن نادر إن لم يكن مستحيل الاستمرار، وأنه يجب أن لا يعتبر أكثر من مرحلة من مراحل العلاج التدريجي والهادف إلى التحرر من كل السلوكيات القهرية.
(ج) مجموعة من التقنيات المعرفية المختلفة
وتعتمد هذه التقنيات على القناعات المطلوب العمل عليها من أجل تخفيف حدتها أوتغييرها، وأهم القناعات في مرضى و.ل.ت.ق هي الكمالية المرضية Pathological Perfectionism، والتردد المرضي ولا تحمل الشك (ل.ت.ش)، وسنكتب مقالات خاصة بمناجزة كل منها، ولا يجب إغفال التأويلات المعرفية الشخصية لمعنى وتأثير مشاعر اللااكتمال وإ.ل.ص.ت كما يراها كل مريض والعمل عليها، لأن ذلك يساعده كثيرا على قبول وإحداث التغيير.
(د) منع الانتكاس:
في هذه المرحلة الأخيرة عادة ما يُشرح للمريض كيف أن العلاج عن طريق التعرُّض ومنع الاستجابة يعدِّل العادات الوسواسية القهرية، ويقلل من أعراض الوسواس القهري المزعجة له، لكن ورغم من ذلك النجاح فالأعراض لا تذهب بعيدًا تمامًا وإلى الأبد، فهو في المواقف العصيبة والكرب بشكل عام قد يواجه زيادة في القلق ونزوات أو نزعات Urges للتصرُّف بطريقته القديمة؛ أي القهرية، كما نشرح رؤيتنا كيف أن الأفعال القهرية المزمنة تصبح بالتدريج إدمانية التأثير على المريض؛ لأنه يبدأ في استخدامها للتعامل مع الضيق والتوتر، بما يعني أن الأمر كعلاج المدمن يحتاج صبرًا وإصرارًا وتوقُّعًا للهفوات والكبوات، بل الأمر في الإدمان السلوكي أصعب، وهذا الكلام العام في ع.س.م الوسواس القهري مهم جدا أن نعمق فهمه لمريض و.ل.ت.ق لأنه الأكثر عرضة للانتكاس إذا لم يفهم جيدا الخلفية الحسية الانفعالية لأعراضه مثل (إ.ل.ص.ت)، ولأنه من أشد وأطول أنواع مرضى الوسواس القهري معاناة مع قهور التكرار سعيا للاكتمال وأكثرهم قابلية لإدمان القهور .... وغالبا ما يحتاج المريض إرشادات لاستخدامها في السلوك "الطبيعي" دون قهور ؟ أي كيف يغسل يديه وكيف يستنجي وكيف يغتسل وكيف يتوضأ !!.. كثيرا ما يقول المريض أثناء العلاج "نسيت كيف كنت أغسل أو أتطهر قبل المرض" ما هي الطريقة الصحيحة ؟
وكما يحدث تقليديا في ع.س.م الوسواس القهري يُطلب من المريض تحديد الكرب أو الكروب الممكنة أو حالات الخطر التي قد تسبِّب له أو لها الانتكاسة بشكل شخصي، ويساعد المعالج المريض في وضع قائمة من الحالات التي يُحتمل أن تسبِّب إشكالية تؤدي إلى الكرب (على سبيل المثال مواقف محددة، كالوقوف في طابور منحني، أو الصلاة إماما)، ثم تقدَّم الكبوات والانتكاسات كردود أفعال طبيعية -وربما مدمنة- للقلق الذي يستثيره الكرب أو تحفِّزه الأحداث الطارئة، ومن المفيد اعتبارها فرصة لتعلم مهارة التعامل مع الوساوس واستخدام المهارة ذاتيًّا في الحياة اليومية.
المراجع :
1- Summerfeldt, L. J. (2004). Understanding and treating incompleteness in obsessive-compulsive disorder. Journal of Clinical Psychology, 60(11),1155–1168.
2- Sookman, D., Steketee, G., (2010). Specialized cognitive behavior therapy for treatment resistant obsessive compulsive disorder. In: Sookman, D., Leahy, R. (Eds.) Treatment Resistant Anxiety Disorders: Resolving Impasses to Symptom Remission. Routledge, New York, pp. 31–74.
3- Ecker, W., & Gönner, S. (2008). Incompleteness and harm avoidance in OCD symptom dimensions. Behaviour Research and Therapy, 46(8), 895–904. https://doi.org/10.
4- Schwartz RA (2018). Treating incompleteness in obsessive-compulsive disorder: A meta-analytic review. Journal of Obsessive-Compulsive and Related Disorders. 19 (2018) 50-60.
5- Craske, M. G., Treanor, M., Conway, C. C., Zbozinek, T., & Vervliet, B. (2014). Maximizing exposure therapy: An inhibitory learning approach. Behaviour Research and Therapy, 58, 10e23.
6- Boisseaua CL, Sibravac NJ, Garnaata SL, Manceboa MC and Rasmussen SA (2018). The Brown Incompleteness Scale (BINCS): Measure development and initial evaluation. Journal of Obsessive-Compulsive & Related Disorders (16) 66–71