علاج و.ل.ت.ق علاج الكمالية السريرية1
النموذج السلوكي المعرفي للكمالية :
من الواضح أن اهتمام شافران ومجموعته البحثية بالكمالية أثمر كثيرا لعلم النفس المرضي وللع.س.م فمفهومهم للكمالية السريرية وما أجروه من أبحاث نتج عنه نموذج سلوكي معرفي للكمالية السريرية (Shafran, et al., 2002) و(Shafran, et al., 2010) يهدف إلى توجيه تقييم ومعالجة الكمالية، ويكمن في جوهر هذا النموذج السعي الدؤوب للنجاح وفرط الخوف من الإخفاق، بما يؤدي لارتباط معقد بين الشعور بقيمة الذات وتحقيق الإنجاز. وهذا بدوره يؤدي إلى تكوين مجموعة من المعايير الصلبة والافتراضات الصارمة، مما يجعل كل سلوكيات الشخص تحكمها قواعد، مثلا "يجب أن أتأكد دائمًا من عدم وجود أخطاء فيما أكتب". أو "يجب أن أحافظ دائما على وضوئي"..إلخ ومن الطبيعي في مثل هذه الحالة أن توضع قواعد صارمة للغاية لكل تصرف وكيفيته في مختلف البيئات والأحوال.
انطلاقا من هذه المعايير الصارمة التي يتشبث بها الكمالي بإحكام، تشتق أو تنشأ أشكال مختلفة من التحيزات المعرفية. مثلا التفكير الثنائي أو القطبي (أي رؤية أداء المرء إما أسود أو أبيض -وكل الرمادي بالتالي أسود-)، والتعميم المفرط Overgeneralization (مثلا "لأنني ارتكبت خطأ، فأنا عديم الفائدة تمامًا")، والاهتمام الانتقائي Selective Attention (مثلا تضخيم السلبي وتجاهل الإيجابي)، والتخصيص أو الشخصنة Personalization ("انقطعت الكهرباء لمدة ساعتين، كان خطأي") ونمط تفكير اللزوم والوجوب Shoulds & musts ("يجب أن أمارس الرياضة يوميا، يجب ألا آكل إلا الأكل الصحي").. وكلها شائعة في الكماليين، بالإضافة إلى ذلك تنشأ وتستمر السلوكيات القهرية المتعلقة بالأداء والهادفة إلى دعم الوصول إلى المعايير الكمالية والحفاظ عليها دائما، كالتحقق المتكرر، وطلب الطمأنة من الآخرين (مثلا "هل كنت جيدًا بما يكفي؟")، وكذلك مقارنة الذات بالآخرين، ووفقًا للنموذج السلوكي المعرفي للكمالية تكون هذه هي العمليات المسؤولة عن إدامة المشكلة المرضية، كما تمثل المفتاح لفهم ما يجعل الشخص يخاف من الإخفاق ويسعى لتحقيق النجاح.
وحسب نموذج شافران وشركائه فإن النتيجة النهائية لأداء الفرد تضعه في مفارقة صعبة، فالنجاح في الوفاء بالمعايير إذا حدث يؤدي إلى تحسن قصير المدى في تقييمه لذاته، مما يعزز الحاجة إلى متابعة الالتزام بهذه المعايير مرة أخرى (أي، تعزيز متقطع Intermittent Reinforcement وفقًا للنموذج السلوكي، على غرار آلة القمار التي يكافئ فيها السلوك على أساس غير منتظم). إلا أن من المحتمل أن يؤدي الوفاء أحيانا بالمعايير إلى اعتبار المعايير أقل من المثالي، مما يعني أن الشخص سيرفع المستوى في المستقبل (مثلا "لقد نجحت فقط لأن الاختبار كان أسهل ما ينبغي يجب أن أفعل ما هو أفضل في المرة التالية"). وتشير الدراسات إلى أن الكماليين يميلون إلى السعي لتحقيق أهداف أكثر صعوبة بعد تحقيق معاييرهم (Rozental, 2020).
وفي السيناريو البديل، أي عندما يخفق الشخص في تلبية معاييره، إما لأنه كان من المستحيل تحقيقها في البداية، أو لأنها تحدد النجاح بطريقة "الكل أو لا شيء" (وهو ما يعني فقدان حقيقة أن الهدف قد تحقق من وجهة نظر أكثر موضوعية)، بل وأحيانا، يمكن أن تؤدي فكرة عدم القدرة على الارتقاء إلى مستوى معايير الفرد إلى تحاشي (تجنب) المهمة تمامًا. وترتبط الكمالية بمشاعر الخزي والذنب بعد الفشل في مهمة ما، بالإضافة إلى زيادة مستويات التوتر والاختلال الوظيفي وانخفاض مستويات المثابرة عند محاولة الأداء تحت تهديد التقييم وهو ما يعكس بعض أفكار النقد الذاتي، وسواء كان التحاشي أو الإخفاق ففي كلتا الحالتين، غالبًا ما تكون الآثار المباشرة هي النقد الذاتي والانخراط في سلوكيات مختلفة تؤدي إلى نتائج عكسية، مثل التسويف Procrastination والبطء وقلق الأداء وقلة الاهتمامات ...إلخ والتي يمكن اعتبارها استراتيجيات للتعامل مع الانزعاج العاطفي ولحماية الذات (مثلا "لو بدأت العمل في الوقت المحدد فقط سأكون قادرًا على الأداء بشكل أفضل"). وأخيرا، بغض النظر عن الأداء والقدرة على الوفاء بمعايير الفرد، فإن النتيجة هي الدوران في حلقة تغذية مرتدة تستمر في تغذية الفكرة القائلة بأن تقدير المرء لذاته مشتق من الإنجاز، وفقط الإنجاز.
العلاج السلوكي المعرفي للكمالية
تم خلال العقدين الأخيرين تطوير عدة تقنيات سلوكية معرفية لمناجزة مشكلة الكمالية، ويتم استخدامها إما منفردة أو ضمن تقنيات علاج اضطرابات نفسانية أخرى باعتبار الكمالية السريرية عادة تصاحب اضطرابا نفسانيا أو أكثر فضلا عن إمكانية تناولها في العيادات النفسية كمشكلة قائمة بذاتها، والعلاج في الحالة الأولى أي في وجود اضطراب نفساني يعني أن استهداف الكمالية سيمثل جزءًا من مكونات علاج ذلك الاضطراب الذي قد يشمل أهدافا علاجية أخرى، وإن كان الاضطراب عادة ما يعبر عن نفسه عبر مناحي الكمالية المختلفة بمعنى أن المعايير الصلبة والعيوب المعرفية التي قد تكون عند مريض اضطراب وسواس قهري ستختلف عن تلك لدى مريض اضطراب التشوه الجسدي أو الأكل أو الرهاب الاجتماعي أو الاكتئاب ...إلخ، وهناك ما يشير إلى (Lloyd, etal., 2015) –كما هو متوقع- أن الع.س.م الموجه فقط للكمالية يؤدي إلى تحسنٍ في أعراض الاضطراب الذي تعالج الكمالية ضمن إطاره ومن ذلك أعراض القلق والاكتئاب واضطرابات الأكل والوسواس القهري.
وربما من ما يجب أن يكون أحد أهم أهداف العلاج استيضاح القناعات الإيجابية التي يعتنقها المريض حول الكمالية، فلابد في تاريخ كل إنسان كمالي ما يدعم معايير وإصرار وعناء أن يكون كماليا فمن المعروف أن بعض أبعاد الكمالية ترتبط بالنجاح والإنجاز، كما يُنظر إلى الكمالية أحيانًا على أنها سمة مرغوبة تتضمن ميزات مثل وضع معايير عالية، والسعي لتحقيق الإنجاز، والضمير الحي. كما يميل المجتمع ككل أيضًا إلى الانتباه ومكافأة العديد من الصفات الشائعة في الكماليين لا سيما القدرة على التنظيم والاهتمام الشديد بالتفاصيل ..إلخ، من المهم إذن فتح النقاش مع المريض حول ما يمكن اعتباره كمالية صحية في مقابل الكمالية المرضية، ويبدو أن ربط الشخص تقديره لذاته كلية بالإنجاز هو ما يسمم الكمالية الصحية بحيث تصبح مرضية وإمراضية، وفي نموذج الكمالية السريرية (Shafran et al., 2002) يُقال أن السعي نحو الإنجاز الإيجابي يكون سامًا عندما يقترن بالتقييم الذاتي بناءً على تلبية هذه المعايير.
ورغم وضوح اتساع المفاهيم وطرق الطرح والقياس فيما يتعلق بالكمالية فإن الثابت كما كتبنا في المقدمة- أن هناك بعدان للكمالية هما الأعلى رتبة في تركيبة علاقة الكمالية بالإمراضية النفسية وفهمهما في كل حالة على حدة مهم في الع.س.م هما أولا نزعة السعي للكمال Perfectionistic Strivings أي النزوع إلى وضع معايير عالية للأداء ومطالبة الشخص نفسه بها. وثانيًا Perfectionistic Concerns المخاوف الكمالية، وهاتان تمثلان أهداف العلاج الذي يوجه إلى محاولة تطبيع المعايير أو جعلها أكثر إنسانية ومناجزة المخاوف وخلفياتها المعرفية....
وبشكل عام هناك أربعة مكونات مهمة للعملية العلاجية لمناجزة الكمالية (Egan et al., 2016):
1) توفير التثقيف النفسي حول الكمالية نظرياتها وعلاقتها بالمرض النفساني وبالأبعاد المعرفية الشعورية المختلفة كتقدير الذات ول.ت.ش والخوف من التعاطف مع الذات، كذلك مساعدة العميل في الوصول إلى تصور فردي لمشاكله المستمرة. بحيث تتضح عمليات الإدامة التي تبقي المشكلة مستمرة وتمنع التغيير، كما تزيد الدافعية للعلاج، وعادة ما يركز العلاج على عمليات الإدامة وليس على العوامل المسببة ما لم يكن ذلك لازما لمآلفة المريض على النموذج السلوكي المعرفي، وفي البداية، يستكشف الشخص إيجابيات وسلبيات كماليته ليدرك أنها ترتبط بالعيوب (كتضييع الوقت، والتسويف، وانخفاض المزاج، وقلق الأداء، ونقص تقدير الذات) كما بالمزايا (كإشعاره بالسيطرة، وتقليل الإخفاق وحصد النجاح ومديح الآخرين أحيانا)، وهذا الاستكشاف يمكن أن يزيد الدافع للتغيير، كما يجب تجنب المناقشة حول الحاجة إلى خفض المعايير الشخصية من عدمه، ويلي ذلك التعليم النفسي حول العلاقة بين الكمالية والأداء، والتدرب على استخدام المراقبة الذاتية.
2) توسيع مجالات التقييم الذاتي حيث يطلب من العميل بداية أن يستكشف كلا من السلوكات التي يفرط فيها وتلك التي تغيب عن يومه أو يقصر فيها باستخدام نموذج ذي عمودين فقط: "الأشياء التي أفعلها كثيرًا" و"الأشياء التي أفتقدها" في يومي، وهو ما يعطي العميل بعض الأفكار حول استراتيجياته وأنشطته ومهارات تكيفه الحالية، فمثلا يفرط العميل في سلوكات "الاجترار، التوجس، الخوف من الضياع، التوتر الداخلي، التفكير في أن كل شيء مهم وأنه يجب أن يكون مثاليًا"، بينما تنقصه سلوكات مثل "الاستقلالية، اتخاذ قراراته بنفسه، إعطاء وقت للترفيه والمتعة، أخذ الأمور ببساطة أكثر".... يطلب منه كذلك الانخراط في أنشطة ممتعة وكتابة مخططات كاملة للأنشطة والأحداث الممتعة، ثم يطلب منه بعد ذلك في الجلسة أن يملأ مع المعالج في مخطط فطيري توزيع الأهمية التي يراها لكل نشاط من أنشطته اليومية لشعوره بقيمته الذاتية بالنسب المئوية، وتتم بعد العلاج مقارنة كيف كان قبل العلاج وكيف أصبح بعده، ويكتشف أغلب العملاء أن جل أوقاتهم كانت توزع على أنشطة كمالية تتعلق بالإنجاز بشكل أو بآخر، مع إغفال واضح لما يمكن أن يكون ممتعا في الحياة غير الشعور بالإنجاز.... وبالتدريج يتم إعطاء وقت أكثر للأنشطة التي تهدف لتفاعل أكبر مع الآخرين والحصول على اللازم من الاسترخاء والمتعة.
3) اختبار المعتقدات والتنبؤات من خلال التجارب السلوكية، ويمكن أن يساعد تحليل الأفكار والانفعالات والسلوكات المرتبطة بالكمالية في حياة العميل على فهم عمليات الإدامة، وهذا يهيئ الفرصة للتدخلات الأخرى كالتجارب السلوكية (مثلا جمع المعلومات واختبار الفرضيات البديلة)، وإعادة الهيكلة المعرفية (مثلا المخططات الفطيرية وتحدي التحيزات المعرفية)، واستراتيجيات حل المشكلات، وأحد أهم المخاوف الكمالية هو "القلق بشأن الأخطاء" Concern over Mistakes والذي يعتبر أحد أهم أهداف علاج الكمالية لأنه يرتبط ارتباطًا مباشرًا بمعايير الأداء العالية كما يرتبط بشكل كبير بأعراض الاضطرابات النفسانية. وعادة يتسم الأشخاص الذين يبدون اهتماما كبيرا بالأخطاء بأسلوب تفكير ثنائي يجب العمل عليه. ومن أساليب العمل المعرفي على هذا النوع من التشوهات المعرفية "التدريج Scaling“ أو التدريب على القياس بحيث يتم تحويل الثنائيات الحدية إلى متصل مسلسل، من خلال الانتباه إلى استخدام الشخص لكلمات مثل (أبداً، دائماً، مطلقاً، نهائياً، كل مرة،...).. ثم المناقشة في سبب استخدامها وبيان عدم مطابقة ذلك للواقع، كما يتم بعد ذلك التدرب على السماح بالأخطاء والهفوات الصغيرة... إلى أن يتمكن الشخص من رؤية المعاني والمواقف والحالات كنقاط مختلفة على متصل فهناك الأفضل والأسوأ وبينهما درجات متعددة.
كما يفيد النقاش المعرفي مع هذه الحالات حول أسئلة مثل:
- هل كل الأمور تكون ذات طرفين فقط (أبيض – أسود، حسن- سيء، طيب- خبيث، صادق- كاذب...)؟
- هل بين معارفك أناس طيبون رغم بعض التصرفات السلبية لديهم؟ هل يوجد إنسان كامل.
- جزء من أحداث الحياة ليس من صنعنا، ولذلك فقدرتنا على التحكم به محدودة.
- الناس، الأمور، الأحداث، الحياة، الظروف، كما هي وليس من الضروري أن تكون كما نريد.
- تقبل الأمور على طبيعتها رغم ما فيها من سلبيات جزء من الواقعية.
4) معالجة المعايير الشخصية الصلبة وفرط النقد الذاتي. لا يتعين طرح المعايير المنخفضة في حد ذاتها على العميل صراحة لأن هذا يمكن أن يضر في كثير من الأحيان بالتحالف العلاجي وينهي العلاج قبل الأوان. بدلاً من ذلك، الأمر متروك للعميل لاستكشاف فوائد وتكاليف الاستمرار في السعي إلى الكمال من خلال استخدام التثقيف النفسي والتجارب السلوكية وإعادة الهيكلة المعرفية ، مع إدراك أن هناك ما هو أكثر في الحياة من مجرد محاولة أن تكون مثاليًا..... وإضافة لذلك، يتميز العلاج أيضًا بتدخلات مختلفة لتعلم والتدرب على الاسترخاء، واليقظة الواعية ومناجزة الوقت، والتعامل مع التسويف، والاستجابة للنقد الذاتي من خلال ممارسة التعاطف مع الذات (التعامل مع أفكار النقد الذاتي من خلال اللطف مع الذات)، وأخيرا التدرب على منع الانتكاس
المراجع :
1- Shafran, R., Cooper, Z. and Fairburn, C. (2002). Clinical perfectionism: a cognitive behavioral analysis. Behaviour Research and Therapy, 40, 773–791.
2- Shafran, R., Egan, S., & Wade, T. (2010). Overcoming perfectionism: A self-help guide using cognitive behavioural techniques. Robinson Publishing.
3- Rozental A. (2020). Beyond perfect? A case illustration of working with perfectionism using cognitive behavior therapy. J. Clin. Psychol. 2020;76:2041–2054.
4- Lloyd, S., Schmidt, U., Khondoker, M., & Tchanturia, K. (2015). Can Psychological Interventions Reduce Perfectionism? A Systematic Review and Meta-analysis. Behavioural and Cognitive Psychotherapy 43(6), 705-731.
5- Egan, S. J., Wade, T. D., Shafran, R., & Antony, M. M. (2016). Cognitive‐behavioral treatment of perfectionism, New York, NY: Guilford Publications.
ويتبع >>>>>> : علاج وسواس اللااكتمال التكرار القهري التردد القهري1
واقرأ أيضًا:
الشعور بالذنب في مرضى الوسواس القهري2 / وسواس العد القهري Compulsive Counting