علاج وسواس اللااكتمال التكرار القهري: التردد الوسواسي1
قمنا في المقال السابق بعرض لمفهوم التردد المرضي وعلاقته بالأمراض النفسانية مع التركيز على علاقته باضطرابات الطيف الوسواسي التي تتميز بوجود خلل وظيفي في دوائر عصبية مخية واضحة التداخل مع الدوائر العصبية المخية المكتنفة في صنع القرار في الإنسان الطبيعي بما دفع بعض الباحثين إلى اعتبار السلوك الوسواسي القهري بشكل عام ناتجا عن اضطراب صنع القرار (Sachdev & Malhi, 2005)، ثم عرضنا لعلاقة التردد الوسواسي بالاجترار الوسواسي، وكذا بالاضطرابات القهرية، ومنها علاقته باضطراب الاكتناز وباضطراب الشخصية القسرية، فرغم أننا في الأصل نكتب في علاج وسواس اللااكتمال التكرار القهري "و.ل.ت.ق" إلا أن عرضا موجزا لعلاقة التردد بالإمراضية النفسية عموما يجب أن يكون مقدمة للكلام عن العلاج.
يمكن للتردد أن يظهر ضمن أي عرض من عروض الوسواس القهري المختلفة سواء كان وسواس التلوث والغسيل القهري و.ت.غ.ق أو وسواس الشك التحقق القهري و.ش.ت.ق أو وسواس اللااكتمال التكرار القهري و.ل.ت.ق، أو وسواس الذنب التعمق القهري و.ذ.ت.ق..... وهو أقل ارتباطا بـ "و.ت.غ.ق" أو بالأحرى بالغسيل القهري حسب دراسة فروست وشوز (Frost & Shows, 1993) منه بغيره من العروض الأخرى خاصة و.ش.ت.ق أو بالشك والتحقق وو.ل.ت.ق أي باللاكتمال والتكرار.... وإن كان ارتباط التردد بالكمالية يسمح للأخير بأن يظهر في كل عروض الوسواس القهري المختلفة كما قدمنا والكمالية كسمة مرضية تظهر في مرضى و.ت.غ.ق كما في مرضى و.ش.ت.ق.. وغير ذلك فإن عروض الوسواس الأربعة أعلاه ليست مستقلة عن بعضها البعض وتظهر في نفس المريض في نفس الوقت أو ضمن نوبات وسوسة مختلفة على المسار المرضي.
العلاج السلوكي المعرفي لمشكلة التردد:
يبدأ العمل السلوكي المعرفي لعلاج التردد بشكل عام بالحديث عن أسباب التردد الخاصة بالعميل كما تفهم من التحليل السلوكي المعرفي للحالة وغالبا ما تكون متعلقة إما بعيوب معرفية أو صعوبات انفعالية لها تأثيرات أخرى تظهر ضمن أعراض الاضطراب النفساني الذي هو موضوع العلاج، وبالتالي يتم علاجها سواء لمناجزة التردد أو غيره من الأعراض، وبشكل عام يمكننا استخدام الاستراتيجيات التالية (Dunne & Llamas, 1998) لعلاج التردد الوسواسي، اعتمادًا على شكل المشكلة، أولا تحديد وتحدي الأفكار المبالغ فيها لدى العميل ومن المفيد في ذلك تدريب مرضى التردد الوسواسي على كتابة "مذكرات حالات الارتباك الوسواسي" للمساعدة في تحديد الموضوعات التي تم اجترارها وتفاصيلها المختلفة، بالإضافة إلى المواقف التي يتم تجنبها.، وثانيا تعلم استراتيجية حل المشكلات (مع تحديد الوقت)، وثالثا دمج طريقة "وقت للقلق" في استراتيجية حل المشكلات عند الضرورة، ورابعا التعرض المطول للاجترارات التوجسية التي تحدث بعد اتخاذ القرار.
أولاً: تحديد وتحدي الأفكار المبالغ فيها:
تتمثل أولوية العلاج في تحدي الأفكار المبالغ في تقديرها، وتقويضها باعتبارها عقبة أمام الاستخدام الفعال لحل المشكلات واتخاذ القرار. وبداية يتم تخصيص جلسة واحدة أو أكثر لأجل:
(أ) تحديد قناعات الشخص المبالغ فيها بشكل واضح،
(ب) "حشد" الأدلة المؤيدة والمعارضة لصحة هذه القناعات،
(ج) يساعد المعالج في فحص أي عيوب محتملة في المنطق ثم العمل عليها في محاولة لتقليل قوة اقتناع المريض،
(د) إرشاد المريض من خلال عملية "سقراطية" نحو قبول معتقدات بديلة أكثر تكيفًا، وبالتالي تمهيد الطريق لاستراتيجيات علاجية أخرى.
ومن أجل تحديد قناعات المريض المبالغ فيها، وبغض النظر عن الاضطراب النفساني الذي يعالج فإن رؤية المريض لسبب أو أسباب تردده مهمة كمدخل للعلاج يشي بالضرورة بقناعاته أو يكشفها للمعالج ولنفسه، ولابد من مساعدة المريض على إيجاد أسباب تردده بلغته التي يفهمها ثم يترجم ذلك إلى مصطلحات النفساني المعالج، ويمكننا اختصار أسباب التردد بلغة بسيطة وموضحة للقناعات المبالغ فيها، وطريق التعامل مع كل منها (وهي صالحة كمداخل تعامل مع التردد بصفة عامة وفي الصحيح والمريض) في ما يلي:
1. التردد بسبب الخوف من تحمل المسؤولية أو الخطأ أو الخوف من الشعور بالذنب أو الندم، وهنا علينا العمل على مفاهيم فرط الشعور بالمسؤولية وفرط الشعور بالذنب، وكذلك العمل المعرفي السلوكي لتطبيع فرط تقييم الخطر وفرط تقييم احتمالاته، وربما العمل المعرفي لتطبيع ل.ت.ش (لا تحمل الشك) وفي النهاية يجب أن يتعلم كيف يتعايش مع عواقب قراراته- سواء كانت جيدة أو سيئةـ وأن يتحمل مسؤولية اختياراته ويتعلم من تجاربه، وأن يعتاد اتخاذ القرار برغم عدم اليقين 100% من عواقبه.
2. التردد بسبب فرط التفكير والتحليل، ويمكن أن يحدث هذا أحيانا في الشخص الطبيعي (والواقع أن إتاحة الإنترنت غالبا ما تزيد الطين بلة) بسبب كثرة المعلومات والخيارات وفرط معرفة مزايا وعيوب كل اختيار، كذلك نجد هذا النوع من التردد في مرضى اضطرابات القلق والاكتئاب واضطرابات الشخصية لكنه يصل ذروته في مرضى الوسواس القهري فنجد منهم من يتردد طويلا في ما سيلبسه لزيارة قريب أو أين سيذهب للنزهة ...إلخ، يحدث هذا الشكل من أشكال التردد عندما تنطبق حالة التحليل = التعطيل إذ يؤدي فرط التحليل إلى الشلل فيما يتعلق باتخاذ القرار. فبعد المبالغة في معالجة المشكلة ذهنيا، يأتي وقت تشعر فيه بالعجز حيال اتخاذ القرار، فرغم أن التحليل يبدأ بهدف الخروج بقرارات واستراتيجيات حكيمة. لكن ما يحدث هو أن الإفراط في التحليل يشل قدرة الشخص على اتخاذ قرار سريع.... وهنا يجب تعلم القبول بأن هناك حدودا لتحليل الموقف.... صحيح أنه قد يكون من المفيد إجراء بعض "البحث" قبل اتخاذ القرار، إلا أن من المهم الاعتراف بأننا لا يمكننا تجنب عدم اليقين أو عدم الراحة في عملية اتخاذ القرار. كل قرار نسبي ويسترشد بكيفية رؤيتنا للعالم وأنفسنا والآخرين. وكذلك كل قرار له نتيجة ولدينا القدرة على التعلم من قرارنا، حتى لو كان له تأثير سلبي.... في بعض الحالات يكون مثل هذا التوضيح كافيا لحل المشكلة لكن الأغلب هو الحاجة للعمل على العيوب المعرفية المسؤولة عن الوقوع في فخ التحليل = التعطيل.
3. التردد بسبب وجود خيارات عديدة ومتقاربة. وهذه حالة يضعنا فيها العالم الحديث أحيانا بكثرة المتاح والإفراط في طرح الخيارات المختلفة من كل شيء تقريبا، كما يمكن أن ينتج ذلك الوضع عن فرط جمع المعلومات والبحث عن الخيارات والمواصفات المختلفة كما يمكن أن يقود إليه الإفراط في سؤال الآخرين عن المزايا والعيوب، ويمكن أن يحدث هذا الشكل من التردد في الشخص الطبيعي والمريض، وبشكل عام ينصح بعدم اللجوء بإفراط لتلك السوكيات تجنبا للوقوع في هذه الحالة، وإذا وجد الشخص نفسه فيها فأفضل ما يمكن عمله هو ضع قائمة بالاختيارات وكتابة إيجابيات وسلبيات كل منها (وهي طريقة معرفية معتادة)، وعادة فإن مجرد الجلوس بعقل هادئ وتقييم الخيارات يجعل الشخص يفهم كل جانب من جوانب الموقف. ويحصل على وضوح بشأن هدفه وأفضل الطرق لتحقيقه.
4. التردد بسبب الرغبة في الكمالية. تؤدي الكمالية من خلال نزعة السعي للكمال Perfectionistic Strivings بالشخص إلى وضع معايير عالية جدا فهو لا يريد اختيار الأفضل وإنما أفضل الأفضل، وهو ما يدفعه إلى الإفراط في جمع المعلومات ومقارنة الخيارات واستهلاك وقت كبير جدا للوصول إلى قرار، مع محاولة الوصول إلى اليقين بشأن العواقب، وكثيرا ما يؤجل الكمالي قراره حتى يجمع معلومات أكثر أو حتى تتغير الظروف بشكل أو بآخر، فإذا ما أخيرا اتخذ القرار تبدأ بعد ذلك المخاوف الكمالية Perfectionistic Concerns في تشكيك الشخص في قراره والانشغال المفرط بعواقبه ....إلخ وعلاج هذا النوع من التردد هو علاج الكمالية أي علاج السبب... ثم التدرب على اتخاذ قرارات بطريقة أقرب إلى الطبيعي.
5. التردد بسبب التعمق والاستبطان (التعمق هو فرط التدقيق والاشتراط، والاستبطان هو استكشاف المرء لحالة ما أو شعور ما في داخله) واشتراط حالات داخلية معينة يصح معها القرار، فالمشكلة هنا تجمع بين تعمق الاشتراط وفخ الاستبطان فاشتراط الوصول إلى حالة داخلية معناه أنه لابد من الاستبطان والذي عادة ما يكون فخا بسبب قابلية المريض العالية للشك في ما يستبطن من دواخله، فإذا نظرنا لمريض الوسواس القهري المسلم الذي يقف طويلا أمام حوض وضوئه وقد فتح صنبور الماء لكنه يتردد في مد يده ليبدأ طقس الوضوء وربما يمدها نحو الماء ثم يسحبها سريعا وقد يكرر ذلك ... حتى يبدأ أخيرا...........، الظاهر أنه يتردد في البدايات وليس فقط يتأخر، ويعلل ذلك أحيانا بعدم قدرته على جعل فكرة الوضوء وحدها في ذهنه (تعمق وسواسي) وهي حالة داخلية لابد يصلها ليبدأ العبادة، ويخاف من الذنب إن أغفل ذلك،... وأحيانا بفكرة تسلطية مؤداها أنه يريد غسيل وجهه لا الوضوء!! وهو يريد الوضوء!! لكن يريدها نية صافية (فكرة وسواسية) والنية يلزمها استبطان ويخاف من الذنب إن أغفل ذلك،... ونجد كذلك من يتردد في إخراج الصدقة لأنه يشترط حالة داخلية لا تشوبها شائبة من رياء ...إلخ ذلك من أمثلة، وقد نجد ذلك أيضًا في مرضى اضطراب الشخصية القسرية.... والعلاج هنا يستلزم العمل على مفهوم التعمق Scrupulosity ومدى كراهته الشرعية، مع التركيز على أهمية تلافي الوقوع في فخ الاستبطان لأن التفتيش في الدواخل هو آفة الموسوس.
ثانيا: تعلم استراتيجية حل المشكلات (محددة الوقت):
واقعيا يمكن القول بأن ضعف مهارة حل المشكلات لدى بعض المرضى قد يكون عاملاً وسيطًا مهمًا في ترددهم. ومن ثم، فإن تعليمهم إجراء حل المشكلات بشكل موجز وواضح من أجل اتخاذ القرار هو استراتيجية معقولة للتواصل مع هؤلاء المرضى تتضمن خطوات استراتيجية حل المشكلات حسب مونتجُمري وإيفانز(Montgomery & Evans, 1984) ما يلي:
(أ) وضع تعريف عملي موجز للمشكلة،
(ب) العصف الذهني للخيارات البديلة،
(ج) تحديد المزايا والعيوب المحتملة لهذه البدائل،
(د) اختيار خيار أو خيارين
(هـ) وضع خطة لوضع القرار المختار موضع التنفيذ.
وقد وضع ضان وليماس (Dunne & Llamas, 1998) ثلاث إضافات محددة لطريقة حل المشكلات القياسية أعلاه ليكون أنسب لمرضى التردد الوسواسي هي: أولاً، يجب أن يُنظر إليها على أنها استراتيجية "محدودة زمنياً". أي أنه يُقترح على المريض أن مقدار الوقت الذي يقضيه في حل مشكلة ما يجب أن يعتمد على أهمية المشكلة، بحد أقصى لمدة 30 دقيقة خلال أي جلسة لحل مشكلة واحدة. ثانيًا، إذا لم يستطع اختيار أي من البدائل، يُنصح المريض باختيار واحد عشوائيًا عن طريق مثلا إغلاق عينيه والإشارة إلى أي خيار من الموجود. ثالثًا، يتم تشجيع المريض بشدة على مقاومة أي ميول لتحاشي التفكير في عواقب القرار بعد اختياره... بمعنى اختيار التعرض للتوجس والاجترار لأجل التدرب على الاعتياد كما سنشرح لاحقا.
ثالثا دمج "وقت القلق" Worry Time في استراتيجية حل المشكلات عند الضرورة
إذا حدث التردد الوسواسي في مكان أو موقف ما، وكان من غير المناسب معالجة القضية في ذلك الوقت، يُنصح بتحديد وقت لاحق للتوجس بشأنه "وقت للقلق". مثلا بينما الشخص في إحدى المحاضرات، يبدأ التفكير في نوع الهدية التي يجب تقديمها لصديق بمناسبة عيد ميلاده ،... فبدلا من محاولة التلهي عن الفكرة والدخول في صراع معها، يقوم الشخص بتحديد فترة زمنية مناسبة في وقت لاحق من اليومه لحل مشكلة هذا القرار، ويواصل تركيزه في المحاضرة.
ورابعا التعرض المطول للاجترار التوجسي بعد اتخاذ القرار.
بعد اتباع الاستراتيجيات المذكورة أعلاه والوصول إلى قرار، يطرح السؤال حول كيفية تعامل الشخص مع الاجترار التوجسي بعد اتخاذ القرار، مثلا "لم تجمع معلومات بما يكفي قبل الاختيار، ربما لم يكن هذا هو الشخص المناسب لتسأله".....إلخ ويكون ذلك بدمج المبادئ والإجراءات الموضحة جيدًا في تحديث طريقة التدريب على الاعتياد Habituation Training والذي اقترحه سالكوسكيس وويستبروك (Salkovskis & Westbrook, 1989) للتعامل مع الأفكار الاجترارية أو الوسواس القهري النقي Pure OCD (أي غير المصحوب بقهور ظاهرة وإنما قهور عقلية باطنة أو خفية Covert)، من خلال استهداف ذلك النوع من الأفكار التوجسية التي يمكن أن تؤدي إلى عمليات معرفية خارج السيطرة، والتدرب على اعتياده من خلال ممارسة التعرض المطول.
بشكل أساسي، تتضمن عملية التدريب على الاعتياد (أ) المراقبة الذاتية لنوبات الاجترار الوسواسي المتعلقة باتخاذ القرارات لتعزيز الوعي بها، (ب) تحديد الفكرة أو الأفكار المحفزة المعينة التي تفجر تلك النوبات... ثم (ج) حث المريض على السماح للفكرة "أن تأتي" واستمرار التفكير فيها -رغم تعاظم القلق والتوتر- حتى يتبدد القلق الشديد بعدما يتعاظم بحدوث الاعتياد. وإذا تحول انتباه المريض إلى أفكار تحيدية أثناء هذه العملية يُنصح بإعادة توجيه انتباهه إلى الفكرة الأولية المزعجة... أي العودة إلى حالة التعرض والاستمرار فيها قدر الإمكان.
المراجع :
1- Sachdev PS. and Malhi GS (2005). Obsessive–compulsive behaviour: a disorder of decision-making. Australian and New Zealand Journal of Psychiatry 2005; 39:757–763
2- Frost, R. O., & Shows, D. L. (1993). The nature and measurement of compulsive indecisiveness. Behavior Research and Therapy, 31(7), 683–692. http://dx.doi. org/10.1016/0005–7967(93)90121-A.
3- Dunne P. & Llamas M. (1998). Obsessional Indecision: Its Psychological Conceptualisation, Assessment, and Treatment. BEHAVIOUR CHANGE Vol. 15, No. 3 1998 pp. 165-177
4- Montgomery, B., & Evans, L. (1984). You and stress: A guide to successful living. Melbourne: Nelson.
5- Salkovskis, P.M., & Westbrook, P.M. (1989). Behaviour therapy and obsessional ruminations: Can failure be turned into success? Behaviour Research and Therapy, 27, 149-160.
واقرأ أيضًا:
علاج و.ل.ت.ق علاج الكمالية الإكلينيكية2 / توجهات جديدة في التعرض ومنع الاستجابة ت.م.ا