علاقة الطب النفساني بالدماغ تمر عبر عدة مراحل هذه الأيام. هناك أولاً الجينات وتوارثها وتأثيرات البيئة والصدمات عليها. المستوى الثاني لعلوم الطب النفساني البيولوجية تدرس فسلجة الجزيئات والخلية. المستوى الثالث يتعلق بتشريح الدماغ ويليه المستوى الرابع الذي يعنى بالفعالية الوظيفية للدماغ. هذه المراحل الأربعة هي حجر الأساس لدراسة الوظائف المعرفية للدماغ ومن بعد ذلك نستوعب معنى التشخيص الطب نفساني الذي يحصل عليه المراجع.
الخلية العصبية أو العصبون Neurone من أكثر خلايا الجسم تطوراً. جسم الخلية يحتوي على نواة تحمل الجينات وشفراته، ومن جسم الخلية هناك غصون Dendrites وزائدة طويلة واحدة نسميها المحوار Axon التي تنقل الإشارة العصبية من خلية إلى خلية أخرى. المحوار يتكون من خلايا شفان Schwann Cells محاطة بمادة مياليني، وهذا الكساء يدعى بالغمد المياليني Myelin Sheath. هذه الخلايا والغمد مقسمة عبر عقد نسميها رانفييه Ranvier’s Nodes وترى الإشارات العصبية تقفز من عقدة إلى أخرى وهذا ما يسرع بنقل الإشارات. ينتهي العصبون بنهايات تسمى نهايات العصبون Axon Terminals التي تتصل بعصبون آخر، ومن خلال ذلك يتم نقل الإشارات الكهربائية والكيمائية من خلية إلى أخرى.
في نهاية العصبون هناك ما نسميه الكنب المشبكي Synaptic Knob الذي يتشابك مع خلية أخرى خلال فسحة نسميها فلح مشبكي.Synaptic Cleft الكنب المشبكي يحتوي على المقتدرة Mitochondria التي تجهز الطاقة وحويصلات متعددة تحتوي على ناقلات عصبية كيمائية Neurotransmitters . غشاء الكنب المشبكي يحتوي على قنوات يمر عبرها أيون كالسيوم، في حين أيون صوديوم يطوف بحرية في الفلح المشبكي ويتم استقباله عبر قنوات الصوديوم في غشاء العصبون المستقبل للعصبون الناقل.
هذه المقدمة المبسطة تساعد على استيعاب ماذا يحدث في الخلية العصبية مع استعمال العقاقير الطبنفسانية المختلفة ومن أقدمها ملح الليثيوم.
ليثيوم Lithium
أيونات الليثيوم تساعد أولاً على استقرار نشاط الخلايا العصبية عبر تخللها في قنوات الصوديوم التي تولد جهد الفعل الكهربائي Action Potential في العصبون. متى ما تم ذلك يتم إعادة ضبط النقل العصبي الاستثاري Excitatory والنقل العصبي المثبط. هذه الفعالية بدورها تؤدي إلى السيطرة على أكثر الناقلات العصبية الكيماوية الاستثارية في الدماغ وهو غلوتاميت Glutamate. هذا الناقل العصبي يلعب دوره في التعليم والذاكرة والمزاج. يتوفر هذا الناقل العصبي بوفرة في الفراغ المشبكي ويتم استرداده وإفرازه بصورة دورية مستمرة1.
في نفس الوقت يثبط ملح ليثيوم انتقال ناقل كيماوي آخر هو دوبامين Dopamine وبسبب ذلك يتم استعماله لعلاج الهوس. هناك فرضية تفسر اضطراب الهوس الثناقطبي وهي فرضية اختلال التنظيم الدوري2 Cyclical Dysregulation Hypothesis ومفادها كالآتي:
مع الهوس يزداد انتقال دوبامين بين الخلايا وهذا بدوره يؤدي إلى رد فعل الخلية العصبية بتقليل التنظيم إلى الأسفل Down-regulation ويعني ذلك خفض عدد المستقبلات الخاصة بالدوبامين. انخفاض عدد مستقبلات دوبامين يؤدي بدوره إلى الاكتئاب. هذا التنظيم السفلي يحدث إحياناً مع عدم انتظام النوم، البدانة، استعمال المخدرات، الإسراف في استهلاك الدهون المشبعة، والضغوط البيئية.
الليثيوم كذلك يحفز من انتقال ناقل كيمائي مثبط وهو حمض غاما امينو بوتيريك Gamma Aminobutyric والذي يشار إليه باختصار بـ GABA. هذا الناقل الكيمائي تختلف فعاليته في الدماغ الناضج حيث يكون مثبطاً، ولكنه استثاري المفعول في الدماغ الذي لا يزال يمر بعملية النضوج وهذا ما يفسر تأثير بعض العقاقير المعاكس في مراحل بعد وقبل البلوغ.
تحفيز انتقال GABA يتم كذلك عن طريق عقاقير بنزودايازابينBenzodiazepines التي يتم استقبالها عبر مستقبلات خاصة بها. هذا ما يفسر استعمال هذه العقاقير في علاج نوبات الهوس الحادة3 حيث يفضل استعمال عقار طويل الأمد في الفعالية وهو كلونازيبام لفترة طويلة أو عقار لورازيبام لفترة قصيرة. كلما ارتفعت الفة العقار للمستقبلات ازداد احتمال الإدمان ولذلك لابد من تجنب عقار الوبروزلام Alprazolam قدر الإمكان.
لا يوجد تعريف واحد لمفهوم تثبيت المزاج4 لأنه لو يوجد اضطراب نفساني يتميز فقط بعدم ثبات المزاج أو يحمل مثل هذا الاسم. حين يتم استعمال عقار مثبت للمزاج فذلك يعني انخفاض شدة وتكرار نوبات هوس واكتئاب أو عدم تدهورها على أقل تقدير. قبل ما يقارب ربع قرن من الزمان كان هناك مثبت واحد للمزاج وهو ملح الليثيوم ولا يزال حتى يومنا هذا يتصدر القائمة. ظهر بعد ذلك عقار فالبرويت Valproate وهو عقار مضاد للصرع، وتبع ذلك دراسة تأثير كل مضاد للصرع على تثبيت المزاج. ثم جاء استعمال عقاقير مضادة للذهان كمثبطات مزاج وخاصة عقاقير الجيل الثاني منها. لا تزال فعالية عقار فالبرويت ومضادات الصرع عبر الخلية غير واضحة تماما، ولكن ما نعلمه بأن فالبرويت وليثيوم يتشاركان في تنظيمهم لتعبير بعض الجينات المسؤولة عن النقل العصبي وتدمير الخلية العصبية ، وربما لهما تأثيرات وقائية على الخلية كذلك.
دوبامين Dopamine
ليس من المبالغة القول بأن الحديث عن الناقل العصبي الكيمائي دوبامين يتفوق على جميع الناقلات الأخرى في جميع الأعمار. الحديث عنه يشمل هذه الأيام الإدمان على استعمال الإنترنت، مختلف مشاكل الإدمان، الاضطرابات الذهانية، مرض باركنسون، اضطراب عجز الانتباه فرط الحركة، والذهان. في حين أن عجز السيروتونين يتم ربطه بالحصار المعرفي Obsessive Compulsive Disorder والاندفاع، فإن عجز الدوبامين يتم ربطه بأعراض متلازمة باركنسون وانعدام التلذذ. عجز الدوبامين والسيروتونين يتم ربطهما بالاكتئاب.
كان الدوبامين يعتبر وإلى بداية منتصف القرن العشرين، مجرد مادة كيمائية سابقة لناقل عصبي كيمائي آخر هو النورادرينالين ، ولكن تغير ذلك مع اكتشاف صيدلاني سويدي لفعالية الدوبامين في النوى القاعدية عام ١٩٥٧ وحصل على جائزة نوبل لاكتشافه هذا عام ٢٠٠٠.
لا تزال نظرية دوبامين5 هي النظرية الكلاسيكية في تفسير وعلاج الفصام إلى يومنا هذا. هذه النظرية تفسر الفصام كما يلي:
١- الأعراض الموجبة مثل الهلاوس سببها مصدرها ارتفاع فعالية السبيل بين المنطقة السقيفية البطنانية Ventral Tegmental Area والدماغ الحوفي Mesolimbic Pathway.
٢- الأعراض السالبة مصدرها خلل فعالية السبيل الذي يربط المنطقة السقيفية البطنانية والقشرة المخية Mesocortical Pathway.
الإدمان عموماً هو اضطراب عصبي يؤثر على جهاز المكافأة في الدماغ، وهذا النظام يعزز السلوكيات الحيوية الضرورية للبقاء مثل الأكل والشرب والجنس والتفاعل الاجتماعي. على سبيل المثال يضمن نظام المكافأة أن تأكل حين تكون جائعاً لأنك تعلم أن هناك شعور بالراحة بعد وجبة الطعام. حين تأكل وجبة طعام في أمسية ممتعة فأنك لا تنسى الطعام الممتع وترغب في تكرار التجربة. لكن الذي يحدث أحياناً أن العقاقير المخدرة تخطف هذا النظام وتتحول الاحتياجات الشخصية إلى احتياجات مخدرات. مسار الدوبامين في جهاز المكافأة هو من النوى السقفية البطانية إلى الجهاز الحوفي. والقشرة المخية الأمامية.
مسار الإدمان يتضمن استقبال المحفزات في المنطقة السقيفية البطنانية ويتم إفراز انكيفالين Enkephalin اندورفين Endorphin وذلك يرتبط من فعالية نوى الجهاز الحوفي وبالتالي يثبط إفراز GABA وهذا يطلق العنين لإفراز دوبامين.
سيروتونين Serotonin
سيروتونين له موقع مركزي في الدماغ كناقل عصبي7 وموقع محيطي في بقية أعضاء الجسم ويفصل بين الإثنين الحاجز الدموي الدماغي. يتم تصنيعه بطرق مختلفة، ويدور في الجسم مع مجرى الدم ويتم نقله بواسطة الصفحات الدموية. يتم تصنيعه في الأمعاء وتخزنه وتنقله الصفحات وتفرزه حين يتم تنشيطها في موضع التهاب أو جلطة.
تأثيرات السيروتونين الدماغية لها علاقة بالاكتئاب، النوم، تناول الطعام، الذهان والقلق. لكن الحديث عن السيروتونين الدماغي هو حديث عن الاكتئاب. هناك اعتقاد خاطئ هو أن تركيز سيروتونين منخفض مع القلق والاكتئاب، ولكن الدليل على ذلك لا وجود له، بل أن الأصح هو أن علاج القلق والاكتئاب مهمته رفع كمية السيروتونين المتوفر للخلايا العصبية ومنه استرداده من قبل الكنب المشبكي.
نورادرينالين Noradrenaline
قلما يتحدث البشر عن هذا الناقل الكيمائي هذه الأيام عكس دوبامين وسيروتونين. هذا الناقل الكيمائي8 له دوره في زيادة التركيز والانتباه واليقظة وكذلك يشترك مع دوبامين في رفع تحفيز الإنسان ومع سيروتونين ودوبامين سوية في تنظيم الاندفاع، القلق، والمزاج عموماً. زيادة وجود هذا الناقل للمستقبلات الخاصة به يتم عن طريق تثبيط استرداده وتثبيط تعطيله عن طريق انزيمات مثبط اكسيدات أحادي الأمين Monoamine Oxidase Inhibitor MAOI. وكذلك هناك طريقة ثالثة لزيادة توفره عن طريق تثبيط مستقبلات ألفا ٢ الذاتية alpha 2 auto receptors. كل ذلك يؤدي إلى كثرة توفر نورادرينالين ولكن في نفس الوقت قد يؤدي ذلك إلى تغير المزاج الاكتئابي إلى هوسي.
مستقبلات د اسبارتات ن ميثيل NMDA receptors: N-methyl D-aspartate
هذه المستقبلات المنتشرة في الدماغ تلعب دورها في تنظيم الوظائف المعرفية المختلفة وكذلك في سمات الشخصية. تنشر بوفرة في الجهاز الحوفي Limbic System، ويتم تحفيزها بالناقل العصبي الكيمائي غلوتاميت وكذلك كلايسن Glycine ومتى ما حدث ذلك يدخل الصوديوم والكالسيوم إلى داخل الخلية ويخرج البوتاسيوم. يتم قبط هذه المستقبلات بمادة كيتامين Ketamine وماغنسيوم9.
رغم وجود ما يقارب ثلث بليون نسمة يعانون من اضطرابات مزاجية وتوفر مضادات اكتئاب ، فإن العلاج كان ولا يزال يستهدف السيروتونين ور النورادرينالين، ولكنه بعيداً عن الكمال. مضادات الاكتئاب التقليدية تعدل من فعالية هذه المستقبلات، وذلك دفع البحوث العلمية نحو استهدافها مباشرة للحصول على نتائج سريعة للتخلص من الاكتئاب.
الكيتامين10 مخدر تفارقي تم استعماله كنموذج للذهان ومضاد للاكتئاب سريع المفعول، وفعاليته نظرياً هو عن طريق تثبيط غير تنافسي لمستقبلات NMDA ولكن الدليل على هذه الآلية في فعالية كيتامين غير مؤكدة.
مصادر:
1- Young A & Hammond J. Lithium in mood disorders: increasing evidence base, declining use?. BJP 2007; 1919: 474-476.
2- Dodd B, kauer-Sant’ Anna M, Malhi G et al. Dopamine dysregulation syndrome: Implications for a dopamine hypothesis of bipolar disorder. Acta psychiatry Scand 166(Supll.434):41-49.
3- Kadiri M, Mehsanni J, Bichra M. The use of benzodiazepines in bipolar disorders. Addict Clin R 2018; 2: 1-4.
4- Keck P & McElory S. Redefining mood stabilisation. Journal of Affective Disorders 2003, 73: 163-169.
5- Brisch R, Saniotis A, Wolf R et al. The role of Dopamine in schizophrenia from a neurobiological and evolutionary perspective. Front psychiatry 2014, 5:47.
6- Nutt D,Linngford-Hughes A, Erritzoe D, Stokes P. The dopamine theory of addiction: 40 years of highs and lows. Nature Reviews/Neuroscience 2015; 16: 305-312.
7- Moncrieff J, Cooper R, Stockmann T, Amendola S, Hengartner M, Horowitz M. The Serotonin theory of depression: a systematic umbrella review of the evidence. Molecular Psychiatry 2022, Published online July 2022.
8- Mulinari S. Monoamine theory of depression: historical impact on biomedical research. Journal of the History of Neurosciences 2012; 4: 366-392.
9- Yamamoto H, Hagino S, Ikeda K. Specific Roles of NMDA receptor subunits in mental disorders. Current Molecular Medicine 2015, 15: 193-205.
10- Alexandrine Corriger & Gisèle Pickering .Ketamine and depression: a narrative review Drug Design, Development and Therapy 2019 ; 3051-3067, DOI: 10.2147/ DDDT.S221437 .
واقرأ أيضاً:
تفسير الأحلام في الطب النفسي / الأحضان والتقبيل والعلوم النفسانية