مصادر سكينة الإيمان4
9. لا قلق مع الاستغفار والتوبة
قال تعالى عن المتقين: "وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)" [آل عمران: 136 - 135].
وقد بينت الدراسات النفسية الحديثة: أن الشعور بالذنب سبب هام من أسباب القلق والاكتئاب النفسيين. فالذي يشعر بالذنب لأنه أساء إلى إنسان ما دون حق، ويشعر أنه قد ظلمه، واعتدى عليه، وأن ذلك يسخط الله منه، هذا المذنب معرض لمشاعر القلق النفسي والاكتئاب.
والقلق يأتي في هذه الحالة من نواح مختلفة، لعل أهمها أننا نحس في أعماقنا أنه "كما تدين تدان"، وأن الله قد يعاقبنا على إساءاتنا إلى غيرنا، وينتقم لهم منا، وبذلك يكون المسيء إلى غيره مهدداً بانتقام الله منه، فيصبح قلقاً لا يدري هل سيكون انتقام الله في نفسه، أم في ماله، أم في عياله. أما الذي يذنب في حق الله، ويرتكب المعاصي، فيكون في أعماقه خوف من أن يأتيه الموت قبل أن يتوب إلى الله. وقد يموت لأحدنا عزيز، فيشعر أنه قصر في حقه، ويظن أنه لو أعان في علاجه لما مات، فيعتبر نفسه مذنباً، ومسؤولاً بشكل من الأشكال عن موت هذا العزيز... ويخشى العقوبة من الله، فتمتلئ نفسه بالقلق.
وقد ينتج الشعور بالذنب عن فعل قام به لا يعرف هل هو حرام أم حلال، وتشتبه الأمور عليه، إلى غير ذلك من أسباب الشعور بالذنب.
والشعور بالذنب، ولوم النفس المرافق له مظهران لقدرة النفس البشرية على إدراك أخطائها، ومحاسبة ذاتها، وهذا جعله الله فيها ليكون لها حافزاً على التوبة، وإصلاح ما أفسدت، وتعويض الآخرين عن إساءتها إليهم.
ولوم النفس يدل على الخير في هذه النفس التي تعترف بخطيئتها، وتحاسب ذاتها، أما النفس الظالمة المكابرة المتبعة لهواها، فقلما تلوم نفسها، إنما هي دائماً تتعامى عن أخطائها وعيوبها، بل تضع اللوم على الآخرين، وتحملهم مسؤولية ما أصابها وأصابهم على يدها.
فعندما عصى آدم ربه علمه كيف يستغفر فاستغفر فتاب الله عليه، قال تعالى: "فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" [البقرة: 37].
وعندما قتل موسى رجلاً قتلاً غير متعمد قال: "قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" [القصص: 16].
لكن عندما عصى إبليس ربه اتهم الله أنه أغواه، ورفض أن يرى خطيئته، وأنكر مسؤوليته عما فعل، فقال: "قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)" [الحجر: 39 - 40].
وقال: "قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)" [الأعراف: 16 - 17].
ولأن النفس اللوامة تصدر عن موقف إيماني لا يبطر الحق، ولا يغمط الناس، ولا يستعلي على رب العالمين، موقف من طبعه الإقرار بالحق لا الكذب على النفس وعلى الغير.، لأن النفس اللوامة تصدر عن مثل هذا الموقف، فقد أظهر المولى تقديره لها عندما أقسم بها فقال: "لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)" [القيامة: 1 - 2].
لكن لوم النفس إذا كان شديداً لا يتناسب مع الموقف الذي أدى إليه، أو إذا رافقه نوع من اليأس من مغفرة الله، تحول إلى مرض نفسي يشل الإنسان، ويثبطه، ويصبغ حياته بالكآبة والحزن.
وهذا ما لا يريده الله لنا على الرغم من أنه أقسم بالنفس اللوامة تقديراً لها، لذا جعل الله التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وفتح باب المغفرة والتوبة للعبد حتى يغرغر عند وفاته.
قال النبي محمد ﷺ: "قَالَ اللهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آَدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوتَنِيْ وَرَجَوتَنِيْ غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلا أُبَالِيْ، يَا ابْنَ آَدَمَ لَو بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ استَغْفَرْتَنِيْ غَفَرْتُ لَكَ، يَا ابْنَ آَدَمَ إِنَّكَ لَو أَتَيْتَنِيْ بِقِرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لقِيْتَنِيْ لاَتُشْرِك بِيْ شَيْئَاً لأَتَيْتُكَ بِقِرَابِهَا مَغفِرَةً" (حسن صحيح رواه الترمذي).
وقال ﷺ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لو لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لهمْ" (رواه مسلم).
أما رب العالمين فيقول: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" [الزمر: 53].
وكلنا يعلم أن من حج فلم يرفث، ولم يفسق، رجع بلا خطايا، كيوم ولدته أمه، وأن من صام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه.
أبواب كثيرة مفتوحة للمؤمن كي يتطهر من ذنوبه، وتغمر أنوار الإيمان قلبه، تبث فيه السكينة، والطمأنينة.
10. لم يبق من النبوة إلا المبشرات
على الرغم من كل جوانب القوة في الكائن البشري، إلا أن جهله بالغيب يشكل واحداً من أهم عناصر ضعفه.
"قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" [الأعراف: 188].
وجهل الإنسان بالغيب، وخشيته من أن يأتي المستقبل المغيب بما يسوءه، جعلاه يتعلق بأي شيء قد يكون فيه كشف لبعض حجب الغيب والمستقبل، من أجل أن يخفف قلقه ومخاوفه.
لذا عقد البشر الكثير من الآمال على الأحلام والمنامات. ذلك أن بعض الرؤى كان فيها بالتأكيد إشارة إلى أمور وقعت بعدها بزمان، طال أحياناً أو قصر. لكن الغالبية العظمى من أحلام البشر، التي لا تعد ولا تحصى، لا يتحقق منها شيء، ومع ذلك قد يرى أحدنا مناماً تقع فيه أحداث خطيرة لو صدقها الواقع لكانت مصائب عظمى. وقد تكون مثل هذه الأحلام المخيفة مصدر قلق نفسي شديد للإنسان، الذي يخشى أن تصدق هذه الأحلام، وأن يقع في الواقع ما رآه فيها.
وعلماء النفس الغربيون الذين يرفضون الإيمان بالغيب، يصرون على أن أحلام الإنسان كلها تخيلات، تحدث أثناء النوم، تعكس مخاوفه وأمانيه. فإنه قد يرى بعضاً مما يخاف حدوثه يقع في المنام، أو أنه يحصل في أحلامه على ما يشتهيه، ولكنه عاجز عن أن يحصل عليه في الواقع.
أما الصحابة -رضوان الله عليهم- فقد فهموا أن أحلام الإنسان ثلاثة أقسام:
الأول: ويمثل غالبية الأحلام، وهو عبارة عن حديث نفس كالتفكير، والتخيل المتواصل الذي يشغل فكر الإنسان عندما يكون خالياً عما يشغله، إلا أن حديث النفس هذا يقع أثناء النوم، فيختلط الأمر على الإنسان، ويحسب الخيال حقيقة واقعة. وهذا القسم هو الذي يتحدث عنه علماء النفس.
أما القسم الثاني: فتخويف من الشيطان، وهي الأحلام المخيفة المزعجة.
والقسم الثالث: الرؤى الصالحة التي تحمل البشارة من الله لهذا الإنسان بخير قادم إليه.
روى البخاري في صحيحه أن أبا هريرة قال: "... كانَ يُقالُ: الرُّؤْيا ثَلاثٌ: حَديثُ النَّفْسِ، وتَخْوِيفُ الشَّيْطانِ، وبُشْرَى مِنَ اللَّهِ، فمَن رَأَى شيئًا يَكْرَهُهُ فلا يَقُصَّهُ علَى أحَدٍ ولْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ". ولا بد أن الصحابة تعلموا هذا التصنيف للرؤى من معلمهم ﷺ.
إذاً فالأحلام المخوفة المحزنة، إنما هي من الشيطان، لا تدل على المستقبل، بعكس المبشرات، وهي الرؤى الواضحة السارة، فإنها تدل على المستقبل، وتبشر بالخير.
قال النبي محمد ﷺ: "الرُّؤْيا الحَسَنَةُ، مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ، جُزْءٌ مِن سِتَّةٍ وأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ" (البخاري).
وقال أيضاً: "لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إلَّا المُبَشِّراتُ قالوا: وما المُبَشِّراتُ؟ قالَ: الرُّؤْيا الصَّالِحَةُ" (البخاري).
وقالت عائشة -رضي الله عنها-: "أَوَّلُ ما بُدِئَ به رَسولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ في النَّوْمِ، فَكانَ لا يَرَى رُؤْيَا إلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ..." (البخاري).
وقال النبي محمد ﷺ: "إِذَا رَأى أَحدُكُم رُؤْيَا يُحبُّهَا فَإنَّما هِيَ مِنَ اللهِ، فَليَحْمَدِ اللهَ عَلَيهَا، وَلْيُحُدِّثْ بِها، وَإذا رَأَى غَيَر ذَلك مِمَّا يَكرَهُ فإنَّما هِيَ منَ الشَّيْطانِ، فَليَسْتَعِذْ منْ شَرِّهَا وَلا يَذكْرها لأَحَدٍ فَإنَّهَا لا تضُّره" (البخاري).
وقال ﷺ: "الرُّؤْيا الصَّالِحَةُ مِنَ اللَّهِ، والحُلْمُ مِنَ الشَّيْطانِ، فإذا حَلَمَ فَلْيَتَعَوَّذْ منه، ولْيَبْصُقْ عن شِمالِهِ، فإنَّها لا تَضُرُّهُ" (البخاري).
إن معرفة أن الأحلام المزعجة من الشيطان وأنها لا تضر، يريح النفس المؤمنة من أي قلق يمكن لهذه الأحلام أن تتسبب فيه.
والملاحظ أن القلق والاكتئاب النفسي يهيئان لمثل هذه الأحلام المزعجة، فالشخص القلق كثيراً ما يرى نفسه أو أحداً ممن يحب في خطر في أحلامه، أما المكتئب فإن موضوع الموت يتكرر في أحلامه، كأن يرى جنازة، أو عزيزاً يموت، أو أن يرى من مات من أهله يأتيه في أحلامه بشكل متكرر.
فالقلق والاكتئاب يمكنان الشيطان من إثارة مثل هذه الأحلام، التي لا دلالة لها على المستقبل أبداً.
ويتبع: مصادر سكينة الإيمان6
واقرأ أيضا:
سيكلوجية الإيمان والكفر9 / تأملات نفسية في الزكاة 2